الكسابة في حرب السودان من هم ومن أين أتوا؟
تاريخ النشر: 30th, November 2023 GMT
بدأ نشاط النهب منظماً منذ الوهلة الأولى لاندلاع القتال، وظهرت مجموعات مسلحة جرى تسمية أفرادها محلياً بـ”الكسابة”، وهم عناصر يتحركون وسط نيران المعارك بغرض النهب.
تاق برس – وكالات – بعد الفوضى التي خلفتها الحرب في العاصمة السودانية، اعتاد “صلاح حسين” مشاهدة عشرات السيارات والشاحنات الكبيرة وهي محملة بأنواع مختلفة من البضائع من بينها الأثاثات المنزلية والأدوات الكهربائية في سوقي القش وقندهار بضاحية أمبدة غربي أم درمان، وعلى متنها أفراد مسلحون يرتدون الزي العسكري لقوات الدعم السريع، وهي متأهبة للمغادرة غرباً عبر طريق الصادرات المؤدي إلى إقليمي كردفان ودارفور.
شكلت عمليات النهب الواسعة للممتلكات الخاصة والعامة الوجه الأكثر قبحاً لحرب السودان التي يدور رحاها داخل العاصمة الخرطوم ومدن أخرى بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل الماضي. وبدأ نشاط النهب منظماً منذ الوهلة الأولى لاندلاع القتال، وظهرت مجموعات مسلحة جرى تسمية أفرادها محلياً بـ”الكسابة”، وهم عناصر يتحركون وسط نيران المعارك بغرض نهب المحال التجارية والشركات والمنازل داخل الأحياء.
يُكثِف الكسابة نشاطهم الإجرامي في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع في العاصمة السودانية الخرطوم، وبعد نهب المقتنيات المختلفة يعرضونها للبيع في الأسواق المحلية هناك خاصة سوقي ليبيا وقندهار غربي أمدرمان اللذين تحولا إلى أكبر مركز للسلع والبضائع المسروقة، كما يتم نقل بعضها إلى خارج العاصمة وفق شهادات وثقتها (عاين).
وخلقت ممارسات الكسابة نشاطا تجاريا غير مشروع في العاصمة وبعض الولايات السودانية أو ما يعرف بـ”البزنس الأسود” خلال قيام أماكن لبيع وتداول المقتنيات المسروقة، والتي اشتهرت أيضاً بأسواق “دقلو” كناية عن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان حميدتي دقلو، حيث تلاحق الاتهامات تلك القوات بالتورط في أعمال النهب، الأمر الذي تنفيه بشدة.
ويقول محمد الماحي، الذي بدأ مؤخراً نشاطاً لبيع العطور في سوق ليبيا غربي أمدرمان إن “مسلحين يرتدون الزي العسكري لقوات الدعم السريع يعرضون سلعاً مختلفة على ظهر شاحنات كبيرة في مزاد علني بسوق ليبيا، ويقوم صغار الباعة بشرائها منهم بأسعار منخفضة؛ ومن ثم يبيعونها للزبائن بعد وضع أرباح معقولة”.
“المسلحون يأتون على متن سيارات محملة بالبضائع والسلع المتنوعة خاصة الأدوات والأجهزة الكهربائية والأثاثات المنزلية إلى السوق على نحو مستمر، وأصبح نشاط رئيسياً يقتات كثير من المواطنين أرزاقهم عبره”. يضيف الماحي خلال مقابلة مع (عاين).
ويتابع: “وجد كثير من السكان الذين ما زالوا عالقين في العاصمة الخرطوم أنفسهم مضطرين للإتجار في السلع المسروقة ومساعد اللصوص -الكسابة- على تسويق المقتنيات المنهوبة، فجميع الأنشطة التجارية ومصادر الدخل توقفت، فإذا لم ينخرطوا في هذه الأنشطة غير المشروعة ربما لن يتمكنوا من توفير احتياجاتهم من الأكل والشرب”.
مشاركة في المعارك
ويقول أحد العناصر التي تنشط في نقل المقتنيات من أمدرمان إلى إقليم كردفان لـ(عاين)، – طلب عدم ذكر اسمه- إن “الأشخاص الذين يعملون في هذا النشاط هم جزء من قوات الدعم السريع، ويقاتلون إلى جانبها في المعارك الحربية، لكن غالبيتهم من ما يعرف بـ المناصرين الذين انضموا إليها بعد اندلاع الحرب، وليست لديهم أرقام عسكرية”.
ويضيف: “أتيت إلى الخرطوم ضمن الفزع، وشاركت في مأموريات عسكرية حيث لم نتقاض أي أجور من الدعم السريع، لذلك فكرت برفقة آخرين في الانخراط في العمل التجاري حيث نشتري البضائع وبيعها في غرب أمدرمان، وأيضاً نرحل جزءاً منها إلى الولايات الغربية لتحقيق أكبر قدر من الأرباح”.
وتابع: “انضم آلاف الشبان من إقليمي كردفان ودارفور إلى قوات الدعم السريع بغرض إسنادها في حربها مع الجيش، وتربط جميع المنضمين الجدد صلة قرابة بأفراد الدعم السريع النظاميين، فكل جندي أو ضابط استنفر إخوانه وأبناء عشيرته، وكان السواد الأعظم منهم انخرط في صفوف الدعم السريع بغرض النهب وتحقيق كسب مالي سريع، ولا أحد يعترضهم أو يحاول عرقلة نشاطهم”.
شهادة أخرى يدلي بها أحد سكان حي ود البنا بأمدرمان لـ(عاين)، ويسمى بشير الصادق، تدعم تورط قوات الدعم السريع في أعمال النهب في العاصمة السودانية ومحاباة العصابات التي تنشط فيها خاصة الكسابة، ويقول إنه كان يشاهد سيارات محملة بالبضائع والأثاثات المنزلية تعبر جسر شمبات نحو أم درمان على مدى أشهر عديدة منذ اندلاع الحرب”.
وكانت قوات الدعم السريع تسيطر بشكل محكم على كبري شمبات على نهر النيل الذي يربط بين مدينتي أم درمان وبحري والمنطقة المحيطة به، ويعتبر المنفذ الوحيد وخط امداد رئيسي لقوات الدعم السريع بين مناطق سيطرتها في شرق العاصمة وغربها قبل تدميره، ولا يستطيع أحد العبور دون علم وموافقة الارتكازات العسكرية المرابطة بها.
ويقول “أحمد التنين” من سكان ضاحية أمبدة في مقابلة مع (عاين) إنه كان يشاهد مسلحين يرتدون الزي العسكري لقوات الدعم السريع يكسرون المحال التجارية في سوق ليبيا، بجانب مخازن عملاقة بالقرب من سجن الهدى غربي أمدرمان حيث يأخذون ما يريدونه ويتركوا المتبقي لأشخاص عاديين غير مسلحين لنهبها.
ويضيف: “رأيت هؤلاء المسلحين وهم يحمّلون سيارات كبيرة بالسلع المختلفة من مخازن غرب أمدرمان، والتي كانت تحوي مواد غذائية مثل السكر والدقيق والأرز والعدس، بجانب أجهزة كهربائية مختلفة من ثلاجات وشاشات تليفزيونات وغسالات وغيرها، وكانت هذه الواقعة في مطلع شهر يوليو الماضي، أي بعد شهرين ونصف من اندلاع الحرب”.
نشاط يتوسع
أخذ نشاط الكسابة يتوسع مع انضمام المزيد من المسلحين “المناصرين” إلى صفوف قوات الدعم السريع وبدلا عن عرض المقتنيات المسروقة في أسواق العاصمة بدأوا ترحيلها إلى الولايات وخاصة كردفان ودارفور عن عبر طريق الصادرات، أمدرمان – بارا والذي تسيطر عليه قوات الدعم السريع، وذلك لتحقيق مكاسب مالية أكبر.
وجد الكسابة طريق الصادرات معبداً أمام نشاطهم بعد أن تحول إلى شارع أشباح تقل فيه حركة المسافرين، وذلك في أعقاب قرار أصدره قائد الجيش السوداني قضى بإغلاقه أمام حركة السير والتعامل مع كل من يستغله كهدف عسكري، لكن ما زال يمثل خط إمداد رئيسي لقوات الدعم السريع يسلكه منسوبوها وعصابات النهب على حد سواء بلا اكتراث.
ووثق مراسل (عاين) عبور ما لا يقل عن 10 شاحنات في يوم واحد خلال شهر أكتوبر الماضي، بطريق الأبيض – الدبيبات وقد تجاوزت جميع نقاط التفتيش التي تقيمها قوات الدعم السريع على هذا الطريق، دون أن تتوقف بها أو يعترضها أحد، وكان على متنها مسلحون بزي عسكري وآخرين بلباس مدني والعديد من البضائع والمقتنيات.
وفي نقاط التفتيش بطريق الدبيبات – الأبيض والتي يزيد عددها عن 50 نقطة يقوم مسلحو قوات الدعم السريع بإيقاف الحافلات السفرية وإخضاعها إلى عمليات تفتيش دقيقة وتفحص الركاب بداخلها، كما يطالبون بالفواتير التي تثبت شراء أي مقتنيات كانت على متن الحافلة، في الوقت ذاته كانت سيارات الكسابة تعبر مسرعة دون أن يعترضها أحد في مفارقة تثير غضب الركاب المدنيين.
وتوسعت أسواق محلية في ولاية غرب كردفان إلى حد بعيد خاصة سوقي ابوزبد والفولة بعد وصول المقتنيات المسروقة بكميات مهولة إلى هناك ويعرضها الكسابة جهارا نهارا لبيعها للمواطنين بأسعار زهيدة، حيث تسيطر قوات الدعم السريع بشكل شبه كامل على تلك المناطق، كما تشير تقارير إلى وصول مقتنيات مسروقة من العاصمة إلى مدينة الضعين والعديد من المناطق في إقليم دارفور.
يقول مواطن من مدينة ابوزبد لـ(عاين): “عندما يصل الكسابة إلى مدخل المدينة يقومون بضرب مكثف للسلاح في الهواء وهو عادة درجوا عليها وهي تشير إلى الاحتفال بالوصول، ويبادلهم عناصر قوات الدعم السريع المتمركزين في مدخل المدينة الاحتفاء، ساعتها يتأهب بعض المواطنين للذهاب إلى السوق لرؤية المقتنيات الجديدة”.
الدعم السريع ينفي
“(الكسابة) هو اسم تدليل الخارجين عن القانون وقطاع الطرق وهم موجودون قبل نشوب حرب الخامس عشر من أبريل، لكن عقب بداية الحرب ازدادت هذه المجموعات بصورة كبيرة نسبة للسيولة الأمنية، حيث نشطت في قطع الطرق والسلب والنهب داخل المدن وخارجها”. يقول عضو المكتب الاستشاري لقائد قوات الدعم السريع الباشا طبيق لـ(عاين).
ويشير طبيق، إلى أن هذه المجموعات تضاف إليها عصابات “النيقرز” ومجموعات أخرى أخرجها الجيش من السجون، فجميعها هي من تعدت على منازل المواطنين وقطع الطرق ولا علاقة لقوات الدعم السريع بها وهي العدو الأول لها وتتم محاربتها الآن بقوة بتوجيه من قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو الذي أصدر قرارا بتكوين لجنة لمحاربة الظواهر السالبة.
“باشرت اللجنة عملها داخل ولاية الخرطوم وكل المناطق التي تقع تحت سيطرة قوات الدعم السريع، فقواتنا لا تستعين بأي مجموعات متفلتة أو خارجة عن القانون ولديها من القوات ما يكفي للقتال لمدة عشرين عاما قادمة”. يضيف الباشا.
وتابع: “ليس صحيحا عبور سيارات تتبع للكسابة عبر ارتكازات قوات الدعم السريع فهناك توجيه واضح لكل القادة الميدانيين بعدم التسامح أو مجاملة أي مجرم حاول التعدي على حقوق المواطنين، أو حاول نهبها وترحيلها إلى موقع آخر”.
وأردف: “الدعم السريع لا يحابي أي مجموعات متفلتة وخارجة عن القانون، بل يعمل على حسم أي مجموعات مجرمة، فالسجون التابعة لقوات الدعم السريع الآن ممتلئة بكثير من الذين سولت لهم أنفسهم التعدي على ممتلكات المواطنين”.
المصدر: تاق برس
كلمات دلالية: لقوات الدعم السریع قوات الدعم السریع فی العاصمة لـ عاین
إقرأ أيضاً:
السودان.. فرص نجاح الحكومة الجديدة في ظل التحديات الماثلة
بعد ما يقارب الأربع سنوات من قرارات رئيس مجلس السيادة، قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، والتي قضت بحل حكومة الدكتور عبد الله حمدوك في تشرين الأول/ أكتوبر 2021 وفض الشراكة مع قوى الحرية والتغيير تم تعيين الدكتور كامل إدريس رئيسا للوزراء في أيار/ مايو الماضي. وإدريس الذي يتكئ على تجربة طويلة في العمل في المنظمة العالمية للملكية الفكرية مع علاقات واسعة مع جهات داخلية وخارجية؛ لا يُعرف له انتماء سياسي للأحزاب السودانية، وكان مرشحا مستقلا في الانتخابات الرئاسية التي جرت في العام 2010، وتردد اسمه أكثر من مرة بعد سقوط نظام الرئيس عمر البشير وخاصة بعد قرارات قائد الجيش، ولكن تأخر تعيينه نتيجة تطورات سياسية داخلية وخارجية. ويجيء تعيينه لهذا الموقع المهم وسط تحديات كبيرة تشهدها البلاد، الأمر الذي يطرح تساؤلا مركزيا عن فرص نجاحه وسط هذه الأمواج العاتية التي تحيط بالبلاد وتكاد تعصف بها إلى المجهول..
فعلى المستوي العسكري والأمني، لا تزال الحرب التي تشنها مليشيا الدعم العسكري منذ أكثر من عامين تتواصل في أكثر من ولاية، فمن بين ولايات السودان الثماني عشرة تسيطر مليشيا الدعم السريع بشكل كامل على أربع ولايات في دارفور، بينما تحتدم المعارك في تخوم الفاشر؛ عاصمة الإقليم في ولاية شمال دارفور، أما في إقليم كردفان فإن الحرب تدور سجالا في ولاياتها الثلاث مع تقدم ملحوظ للجيش في كل محاور القتال، غير أن اصطفاف قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان عبد العزيز الحلو مع المليشيا قد يعقد التحركات العسكرية للجيش وخاصة في ولاية جنوب كردفان. وفي وسط السودان لا سيما ولاية الجزيرة والعاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث، لا تزال أصداء الانتصارات التي حققها الجيش بطرد المليشيا تتردد، غير أن تلك الانتصارات ليست إلا خطوة في مشوار طويل يتطلب توفير الأمن والخدمات، خاصة وأن المليشيا اعتمدت تكتيكا جديدا يقوم على استهداف المنشآت الحيوية في المدن الآمنة، ولا سيما العاصمة الإدارية بورتسوان، بالمسيرات الاستراتيجية، ثم الحاجة للوقوف على العودة الطوعية لملايين من المواطنين ما بين نازح ولاجئ، والعمل على عودة الحكومة نفسها للعاصمة الخرطوم، حيث تباشر مهامها حاليا من مدينة بورتسودان الساحلية على البحر الأحمر (ألف كيلو متر شرقي الخرطوم)..
يحتاج رئيس الوزراء كامل إدريس أن يتجاوز عتبة التشكيل الوزاري للوصول إلى الملفات الصعبة ومباشرة مهامه، ولا تبدو خطوة تجاوز تلك العتبة يسيرة
وفي الملف الاقتصادي، تنتظر الحكومة المتوقع تشكيلها تركة ثقيلة أحدثتها الحرب الحالية، فقد استهدفت مليشيا الدعم السريع وبشكل ممنهج كل المؤسسات الاقتصادية، من مصانع وبنوك، ودمرتها تدميرا شاملا في العاصمة الخرطوم، وهناك تقديرات أولية تقول بأن حجم الخسائر يتجاوز 215 مليار دولار في القطاع الصناعي والزراعي وحده، بينما تقول تقارير المنظمات الإنسانية إن 70 في المئة من المستشفيات والمؤسسات الصحية خارج الخدمة حاليا، والخسائر في البنية الصحية يقدر بحوالي 11 مليار دولار، كما أن المليشيا قد قامت بعمليات نهب واسعة ومنظمة استهدفت ممتلكات المواطنين ومدخراتهم، بجانب تخريب خدمات المياه والكهرباء وسرقة معدات الطاقة والمحولات الكهربائية. والتحدي الأبرز في هذا المحور هو في كيفية إعادة تشغيل النظام الاقتصادي وإعادة بناء منظومته اللوجستية، وضمان توفير المطلوبات العاجلة لتحريك عجلة الاقتصاد..
وعلى المستوى الإنساني، تتحدث الأمم المتحدة عن أسوأ أزمة إنسانية في العالم، حيث تسببت الحرب في مقتل ما بين 70 ألف إلى 100 ألف شخص من المدنيين، وتجاوز عدد النازحين واللاجئين لدول الجوار عشرة ملايين، وتوقفت العملية التعليمة لأكثر من ستة ملايين تلميذ مدرسي وأكثر من 700 ألف طالب جامعي..
وبعد تحرير الخرطوم بدأت عودة المواطنين لمنازلهم، ولكن لا تزال الشكوى قائمة من انعدام الخدمات الأساسية خاصة بعد استهداف مليشيا الدعم السريع لمحطات المياه والكهرباء بالمسيرات الحربية، ويقول والي ولاية الخرطوم إن حكومة الولاية قادرة على توفير الأمن والخدمات. وتتزايد الأزمة الإنسانية في ولايات دارفور وبعض مناطق ولايات كردفان، حيث لا تزال المعارك دائرة، مما يضعف قدرة المواطنين على الوصول لمزارعهم وممارسة نشاطاتهم الاقتصادية المطلوبة..
أولويات ملحة وعقبات في الطريق..
يحتاج رئيس الوزراء كامل إدريس أن يتجاوز عتبة التشكيل الوزاري للوصول إلى الملفات الصعبة ومباشرة مهامه، ولا تبدو خطوة تجاوز تلك العتبة يسيرة بالنظر إلى ما تسرب للإعلام خلال الأيام الماضية من إصرار أطراف اتفاق جوبا وأبرزهم حركة العدل والمساواة برئاسة الدكتور جبريل إبراهيم الذي يشغل منصب وزير المالية، وحركة جيش تحرير السودان برئاسة مني أركو مناوي، حاكم إقليم دارفور، على الاحتفاظ بنفس الوزارات المهمة كالمالية والمعادن والتي ظلت تشغلها منذ التوقيع على اتفاق جوبا في 2020، بينما يقول تفسير آخر إن الحكومة ملزمة فقط بنسبة الـ25 في المئة التي نصت عليها اتفاقية جوبا للسلام دون النص على وزارات محددة، كما أن تطاول الفراغ التنفيذي خلق أوضاعا وزارية في الخدمة المدنية اضطر معها مجلس السيادة لممارسة بعض الصلاحيات التنفيذية في الفترة الماضية، وتحتاج مستويات الحكم لإعادة تنظيم الاختصاصات بما يخلق الانسجام ويؤسس للتعاون البناء دون تدخل من أحد الأطراف في صلاحيات الآخر.
وعلى كل حال، فإن المهمة المركزية أمام رئيس الوزراء وحكومته المرتقبة هي استعادة عمل أجهزة الدولة لتعمل بكفاءة وقدرة تمكنها من إعادة تفعيل ديوان الخدمة العامة، والعمل على نقل الحكومة للعاصمة القومية الخرطوم، وهو ما يتطلب وبصورة عاجلة دعم قوات الشرطة والأمن وأجهزة العدالة كالنيابة والقضاء لتقوم بدورها، إذ مع بداية عودة النازحين لمنازلهم برزت مشكلة التفلتات الأمنية في الخرطوم من مجموعات كانت تعمل مع قوات الدعم السريع التي قامت إبان سيطرتها على الخرطوم بإطلاق سراح آلاف الموقوفين في السجون وتسليحهم في معركة عدوانها ضد الشعب السوداني. ثم إن الحكومة بحاجة عاجلة لخطة اقتصادية إسعافية تركز على الإسراع بتحريك عجلة الإنتاج في محاور الزراعة والصناعة والاستثمار، وتوظيف الموارد المتاحة كالذهب والبترول والموانئ، لتوفير الأرضية المناسبة لانطلاق برنامج إعادة الإعمار الكبير.
وفي الوقت الذي تخوض فيه القوات المسلحة معركة الكرامة ضد المليشيا، فإن الحكومة مدعوة لبذل الجهد الكبير لتوفير مظلة الدعم الداخلي والخارجي من أجل استكمال تحرير البلاد وهزيمة مشروع المليشيا، وهي ليست مهمة سهلة خاصة في ظل التصعيد الخطير الذي شهدته الحرب في الأسبوع الماضي باحتلال المليشيا لمنطقة المثلث الحدودي الاستراتيجية بين السودان مصر وليبيا، وذلك بمساندة من مليشيات ليبية مدعومة من خليفة حفتر، وعلاقات مضطربة مع دول الجوار في تشاد وجنوب السودان وكينيا التي توفر ملاذا لقيادات المليشيا العسكرية والسياسية.
وفي الوقت الذي تخوض فيه القوات المسلحة معركة الكرامة ضد المليشيا، فإن الحكومة مدعوة لبذل الجهد الكبير لتوفير مظلة الدعم الداخلي والخارجي من أجل استكمال تحرير البلاد وهزيمة مشروع المليشيا، وهي ليست مهمة سهلة خاصة في ظل التصعيد الخطير الذي شهدته الحرب في الأسبوع الماضي باحتلال المليشيا لمنطقة المثلث الحدودي الاستراتيجية بين السودان مصر وليبيا
ويزداد التحدي في هذه النقطة من سعي المليشيا لإنشاء حكومة موازية في دارفور والمناطق التي تسيطر عليها، على غرار التجربة الليبية، وعلى الرغم من فشلها حتى الآن في ذلك إلا أن الأمر يتطلب تحركا ديبلوماسيا فاعلا يحاصر المليشيا ويقضي على طموحاتها السياسية. وما يشجع في هذا الأمر هو الترحاب الذي قوبلت به خطوة تعيين رئيس الوزراء من قبل الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية وأطراف إقليمية عدة، ويرجح أن يعود السودان عضوا فاعلا في الاتحاد الأفريقي بعد رفع تجميد عضويته منذ قرارات الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 2021. وفي آذار/ مارس الماضي أدان الاتحاد الأفريقي محاولات المليشيا إقامة حكومة موازية، وهو ما اعتبره المراقبون تحولا في الموقف الأفريقي نتيجة التغيير الذي تم في رئاسة المفوضية والجهود الكبيرة التي اطلع بها مندوب السودان في المنظمة الأفريقية المهمة. وفي ظل تراجع الحديث عن الحلول السياسية، تحتاج الحكومة لصياغة مشروع متكامل للتعامل مع المستجدات المتوقعة في هذا الإطار..
وبعد الفراغ من المهام العاجلة تنتظر الحكومة المقبلة مهمة كبرى، وهي كيفية تهيئة البلاد نحو الوضع السياسي الطبيعي وإنهاء حالة الانتقال الهشة التي استطالت منذ سقوط النظام السابق في نيسان/ أبريل 2019، وكان من المرجح أن تنتهي بالانتخابات بعد أربع سنوات. والتحدي الأبرز هنا هو في تفكك الحاضنة السياسية التي تقف خلف الجيش وفشلها في تكوين تحالف مرن يمكنها من الدفع السياسي والاستعداد لمرحلة ما بعد الحرب، وتحتاج الحكومة والمجلس السيادي لتعميق التشاور مع الأطراف السياسية لتنظيم الحوار السوداني- السوداني الذي وعد به رئيس الوزراء في أول خطاب له بعد أداء القسم، وذلك للنظر في كيفية التحول نحو الانتخابات وإنهاء حالة الانتقال. وفي خضم ذلك تطل قضايا لا تقل أهمية مثل رتق النسيج الاجتماعي الذي مزقته الحرب، وخطاب الكراهية الذي انتشر بصورة كبيرة بين المكونات الاجتماعية..
ومع كل تلك التحديات الكبيرة يبدو التفاؤل وافرا بين مكونات الشعب السوداني لاستعادة الأمن والاستقرار بعد تعيين رئيس الوزراء، وقبله تحرير العاصمة الخرطوم وبداية عودة النازحين واللاجئين لمنازلهم، وبداية حياة جديدة يتلمسون فيها دروب الأمل ومسارات المستقبل..