المغرب الإسلامي بعيون الجغرافي وقائد الأسطول العثماني في القرن 16.. كتاب يتحدّث
تاريخ النشر: 4th, December 2023 GMT
الكتاب: بلاد المغرب الإسلامي من خلال كتابِ بحرية لبيري رئيس: ترجمة وتحليل
المؤلّف: د. زبيّر خلف اللّه
النّاشر: دار النّداء ـ إسطنبول / تركيا
الطّبعة الأولى: 2023
عدد الصفحات: 231
عرف التاريخ الإسلامي في مرحلة متقدّمة تعود إلى النّصف الأوّل من القرن التاسع ميلادي علماء بارزين في علوم الجغرافيا والخرائط وعلوم الأرض وعلوم البحار.
أما في القرن 13 ميلادي، فبرز العالم الأندلسي محمد الإدريسي الذي توفي سنة 1166م، والذي يعد أحد أهم علماء الجغرافيا الإسلامية، فهو صاحب الكتاب المشهور "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" والذي تضمن عددا كبيرا من الخرائط الدقيقة لعدة مناطق مختلفة من العالم الإسلامي وأوروبا، كما تحدث خلاله عمّا حوته من بحيرات وأنهار. ولعله يعد أحد أهم العلماء الذين طوروا المدرسة الجغرافية الإسلامية التي أصبحت مرجعا أساسيا للجغرافيين الذين جاؤوا من بعده، وفي مقدمتهم الجغرافي والبحار العثماني المشهور محي الدين بيري رئيس، صاحب الكتاب المعروف باسم" كتاب بحريه".
وتميز "كتاب بحريه" بدراسة شاملة لعدة مناطق جغرافية في العالم، وقد اهتمّ على وجه الخصوص بدراسة ورسم سواحل منطقة المغرب الإسلامي، وقدم معلومات حولها في غاية الأهمية، خصوصا وأن المؤلفات التي تناولت سواحل هذه المنطقة تعدّ شحيحة، مما يجعل منه مرجعا رئيسا يعتمد عليه في دراسة تاريخ هذه المنطقة وجغرافيّتها. وهذا ما دفع الباحث التونسي- التركي زبيّر خلف الله إلى ترجمة القسم المتعلق بمنطقة المغرب الإسلامي من "كتاب بحريه" من اللغة العثمانية القديمة إلى اللغة العربية، ثمّ تناوله بالدّراسة والتّحليل في مؤلّف يحمل عنوان: "بلاد المغرب الإسلامي من خلال كتابِ بحرية لبيري رئيس: ترجمة وتحليل" والذي نقدّمه لقرّاء عربي 21 في هذا التقديم الجامع والمختصر.
بيري رئيس عالم الجغرافيا وقائد الأسطول العثماني
محي الدّين بيري ريس (BIRI REIS) أو "بيري رئيس" بحّارة وجغرافي عثماني من مواليد 1465 ميلادي، نجح في رسم أدقّ الخرائط للبحر الأبيض المتوسّط، التي مثّلت مرجعا أوروبيّا وأمريكيّا إلى بداية القرن العشرين. وقد اهتمّ بيري، على وجه الخصوص، برسم خريطة منطقة المغرب الإسلامي التي ضمّنها في كتابه "كتاب بحرية"، حيث تحدّث خلاله عن الشريط الساحلي للمغرب الإسلامي الممتدّ من الأندلس غربا الى الحدود الغربية لمدينة الإسكندرية المصرية شرقا، ورسم خرائط جغرافية عديدة وتفصيلية لأهم المدن والقلاع التي وجدت في الاندلس وفي المغرب الأقصى وتونس وليبيا. كما تناول بيري ريس التركيبة السكانية والخصائص الجغرافية والحياة الاقتصادية لمنطقة المغرب الإسلامي خلال النّصف الأوّل من القرن السّادس عشر ميلادي.
رغم أن العثمانيين الذين سيطروا على الجزائر سنة 1518م لم يستقروا في البداية على مصطلح واحد لمنطقة المغرب الإسلامي، فقد أطلقوا عليه مرة اسم جزاير غرب، أو تونس، طرابلس غرب، وأحيانا كانوا يطلقون اسم جزاير مغرب.وجمع بيري ريس بين علم الجغرافيا وقيادة الأسطول العثماني نهاية النصّف الأول من القرن السّادس عشر ميلادي، فهو يعدّ من أعظم قادة البحريّة العثمانيّة الذين حوّلوا البحر الأبيض المتوسّط إلى بحيرة عثمانيّة خاصّة. ولأجل ذلك يحتفي به الأتراك اليوم إلى الحدّ الذي جعل الدّولة التركية تدشّن غوّاصة محليّة الصّنع باسم "بيري رئيس" ثمّ أطلقت اسم السفينة "بيري رئيس" خلال بدء عمليّات التنقيب عن الغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسّط.
ندرة الدّراسات الجغرافيّة الخاصّة بمنطقة المغرب الإسلامي
يعلّل الدّكتور زبيّر خلف الله اختياره لترجمة القسم المتعلّق بدراسة المغرب الإسلامي من "كتاب بحرية" وتحليله بـ "عدم وجود أبحاث تناولت هذه المنطقة بشكل موسع، بالاستناد إلى نصوص وخرائط لمعرفة تلك المنطقة في مرحلة تاريخية سابقة". وقد اجتهد خلال بحثه في تحليل جملة الفصول الواردة في هذا القسم، وتفكيك جملة المواضيع التي تناولها.
ويؤكّد د. زبيّر خلف اللّه أنّ مؤّلفه الذي بين أيدينا يُعدّ محاولة أولى ودراسة بكر لمنطقة المغرب الإسلامي من خلال مخطوط أصلي عثماني مهم وهو "كتاب بحريه"، ذلك أنّه لم يعثر قط، خلال بحثه، على دراسات تناولت تاريخ هذه المنطقة وجغرافيتها وبحارها وأنهارها وسكانها من خلال "كتاب بحرية". ويرجّح د. زبيّر خلف الله أن تكون هذه النّدرة البحثيّة مردّها عدم إلمام الباحثين العرب المعاصرين باللغة العثمانية وهو ما جعلهم يغفلون عن كنز ثمين في قيمة "كتاب بحريه".
مصطلح المغرب الإسلامي من خلال كتاب بحرية وحدوده
يشير د. زبيّر خلف الله إلى أنّ بيري رئيس استخدم مصطلح المغرب في كل الفصول التي تتحدث عن المناطق الساحلية الموجودة في شمال إفريقيا، فما إن يذكر مدينة أو مكانا إلا ويضيف إليها عبارة" الواقعة في بلاد المغرب". ولعل تركيز بيري رئيس على تكرار مصطلح المغرب يدل على إدراكه وإلمامه بالبعد الجغرافي لهذه المنطقة، وله دراية تاريخية واطلاع على المصادر التاريخية القديمة التي تحدثت عن تطور مصطلح المغرب.
إلا أن بيري رئيس باعتباره بحارا وعالما في الجغرافيا والخرائط كان على إدراك تام بحدود منطقة المغرب الإسلامي، ويبدو أنه يلتقي مع تعريف العالم أبو اسحاق إبراهيم بن محمد الفارسي الأصطخري، المعروف بالكرخي (توفّي 968 ميلادي) والذي يُعرّف المغرب، في مؤلّفه "المسالك والممالك"، بأنها المنطقة التي تجمع شمال إفريقيا بالأندلس.
ورغم أن العثمانيين الذين سيطروا على الجزائر سنة 1518م لم يستقروا في البداية على مصطلح واحد لمنطقة المغرب الإسلامي، فقد أطلقوا عليه مرة اسم جزاير غرب، أو تونس، طرابلس غرب، وأحيانا كانوا يطلقون اسم جزاير مغرب.
وقد استقر العثمانيون بعد ذلك على استخدام مصطلح "غرب أوجاقلري" أي أوجاق الغرب أو الإيالات الغربية، للدلالة على الإيالات العثمانية الثلاث التي تشكلت إداريا فيما بعد: وهي إيالة الجزائر، وإيالة تونس وإيالة طرابلس الغرب. إلا أن بيري رئيس كان له تقسيم آخر للمنطقة على معيار ثقافي ديني أكثر منه إداري مثلما حدده العثمانيون. فقد أطلق بيري اسم المغرب على مدار فصول كتابه على المنطقة التي تبدأ من بلاد الأندلس (غرناطة وقرطبة) إلى حدود جزيرة العمود التي تقع غرب مدينة الإسكندرية في مصر.
وبذلك يرى د. زبيّر خلف الله أنّ بيري رئيس يتفق مع الجغرافيين والمؤرّخين المسلمين القدامى في تحديدهم لمصطلح المغرب. كما أن تحديده لهذه المنطقة يدل على أن بيري رئيس لم يطلق اسم المغرب فقط هكذا عشوائيا، وإنما بحث حول تسمية هذه المنطقة في المصادر القديمة، واستقر رأيه على اسم المغرب من الأندلس إلى حدود الإسكندرية غربا، أي إنه اطمأن إلى نظرية المغرب المكون من قسم شرقي هو شمال إفريقيا، وقسم غربي هو الأندلس التي أشار لها في كتابه بأنها أصبحت تابعة إلى الاحتلال الإسباني، وهذا لا يعني أن الأندلس خرجت كمهفوم من الدائرة الجغرافية المغاربية، وأنها لا زالت جزءا أساسيا من منطقة المغرب الإسلامي رغم خضوعها لحكم الإسبان الصليبيين.
اختلاف المؤرّخين والجغرافيين في تحديد منطقة المغرب الإسلامي
يُبين د. زبيّر خلف الله أن اسم منطقة المغرب ظلّت محلّ نقاشات بين الجغرافيين والمؤرخين، ولعل توضيح المصطلح يُعدّ مرحلة أساسيّة لدراسة أي منطقة في بعدها السياسي والسوسيولوجي والديني والثقافي والاستراتيجي. وبذلك نجد أن كتاب بحرية يعد أهم المصادر الجغرافية التي حسمت مسألة الخلافات حول المصطلح، وقد قام بيري رئيس بوضع صورة واضحة لمنطقة المغرب الإسلامي من خلال جملة الخرائط التي رسمها لهذه المنطقة المترامية الأطراف من بلاد الأندلس إلى حدود الإسكندرية غربا، كما أنه لم يدرج الإسكندرية ومصر إلى هذه المنطقة، وجعلها منطقة منفصلة عنها.
المجال البحري للمغرب الإسلامي
تحدث بيري رئيس عن السواحل البحرية لمنطقة المغرب الإسلامي، وتكويناتها وخصوصيتها الجغرافية، وحركة الملاحة فيها. كما تحدث عن المناطق الضحلة والمناطق السهلة لكل هذه السواحل، وقدم معلومات للسفن البحرية حول الممرات البحرية السهلة التي يمكن أن تسلكها هذه السفن أثناء سيرها، كما نبه إلى المرور من المسالك الوعرة التي قد تتسبب في كوارث لهذه السفن.
من جهة أخرى تطرق بيري رئيس في هذا المجال إلى الحديث عن أهم الموانئ الموجودة على طول الشريط الساحلي لمنطقة المغرب الإسلامي، وذكر إيجابيات وسلبيات كل واحد من هذه الموانئ. كذلك تناول بيري رئيس مسألة الرياح التي تهب على سواحل المغرب الإسلامي، وبيّن كيفية تعامل السفن البحرية مع هذه الرياح، وقدم نصيحة للربان كيف تتم عملية إرساء السفن في المناطق التي تهب عليها هذه الرياح. إضافة إلى هذا تحدث بيري عن أعماق مياه هذه الموانئ، وأي الأماكن أفضل، وكيف يمكن التعرف عن عمق الماء لكي يتم الإرساء فيها.
في هذا الباب يشير د. زبيّر خلف الله إلى أن بيري رئيس تناول مسألة مهمة للغاية، لم يتناولها الجغرافيون والرحالة الذين سبقوه، وقد جاءت جملة هذه المعلومات من منطلق التجارب التي عاشها بيري رئيس في منطقة المغرب الإسلامي، ومن منطلق اطلاعاته على الكتب الجغرافية والاستكشافية، سواء الإسلامية منها أو الأوروبية.
المجال الاجتماعي لمنطقة المغرب الإسلامي
تطرق بيري رئيس في فصول "كتاب بحرية" المتعلقة بمنطقة المغرب الإسلامي إلى المجال الاجتماعي وتركيبة السكان في كل منطقة. وقد تحدث عن عادات الأهالي هناك، وعن حياتهم المعيشية وثقافاتهم ومعتقداتهم الدينية، وكذلك عن التركيبة القبلية السائدة بين سكان تلك المناطق المغاربية، وعن العلاقات القائمة بينهم من ناحية على المستوى المحلي، وعلاقاتهم بالعالم الخارجي من ناحية ثانية.
يُبين د. زبيّر خلف الله أن اسم منطقة المغرب ظلّت محلّ نقاشات بين الجغرافيين والمؤرخين، ولعل توضيح المصطلح يُعدّ مرحلة أساسيّة لدراسة أي منطقة في بعدها السياسي والسوسيولوجي والديني والثقافي والاستراتيجي.ورغم أن تركيز بيري رئيس في ظاهر الكتاب يتحدث عن البحر وعن الجغرافيا لمنطقة المغرب الإسلامي إلا أنه يشير بشكل مباشر وأحيانا يصرح إلى وضعية سكان المغرب الإسلامي، ويقدم معلومات يمكن استشفافها من خلال الحديث عن النشاطات الاقتصادية أو عن الموانئ والقلاع الموجودة هناك، أو النشاطات الزراعية والاقتصادية والتجارية التي يتعاطاها السكان المغاربيون. لذلك كان كتاب بيري رئيس مصدرا ومرجعا في الجغرافيا السكانية لأهالي منطقة المغرب الإسلامي من الأندلس إلى الحدود الغربية لمدينة الإسكندرية.
المجال الاقتصادي للمغرب الإسلامي
لم يغفل بيري رئيس الحديث عن أهم الموانئ التجارية الموجودة على الشريط الساحلي لمنطقة المغرب الإسلامي، والحركية الكبيرة التي تشهدها هذه الموانئ، سواء من حيث الحركة التجارية المحلية لسكان المنطقة، أو من قدوم السفن التجارية الخارجية التي تمارس أنشتطها التجارية مع تلك المنطقة عبر تلك الموانئ التجارية الموجودة فيها. إن كثرة الموانئ وكثافة السفن التي تحدث عنها بيري رئيس يعكس الأهمية التجارية الكبرى التي تتسم بها المدن الساحلية المغاربية من الأندلس إلى غرب الإسكندرية. مما جعل هذه المنطقة مركزا تجاريا واقتصاديا مهما منذ العصور القديمة وحتى الفترة التي كتب فيها بيري رئيس كتاب بحريه، أي في الربع الأول من القرن السادس عشر.
في هذا الإطار يشير د. زبيّر خلف الله إلى أنّ بيري رئيس عندما انضم إلى مشروع الأخوين بربروس كانوا يمارسون التجارة مع منطقة المغرب الإسلامي، ولذلك لم يكن كلامه من وحي التخمين أو الخيال، وإنما كانت المعلومات التي أوردها من وحي التجربة والخبرة التي عاشها بيري رئيس مع رفاقه عروج وخير الدين بربروس وغيرهما.
التهديدات التي تتربص بمنطقة المغرب الإسلامي
تحدث "كتاب بحريه" عن حرص الإسبان وسعيهم المتواصل لاحتلال أهم المدن والموانئ والقلاع والمواقع الإستراتيجية الموجودة على طول الشريط الساحلي الممتد من الأندلس غربا إلى حدود غرب الإسكندرية.
ويرى د. زبيّر خلف الله أنّه يمكن فهم هذه الإشارات بشكل مباشر. فالكتاب يبين أن منطقة المغرب الإسلامي منطقة مراهنات وصراعات محلية ودولية، تحاول كل قوة منها السيطرة على أهم المواقع الحيوية الاقتصادية والاستراتيجية فيها للتحكم في المنطقة. ولعل انخراط بيري رئيس في المشروع الجهادي البحري العثماني بقيادة بربروس يدلل على فكرة الصراع المحتدم بين الدولة العثمانية وباقي الدول الأوروبية حول منطقة المغرب الإسلامي ومواقعها الاستراتيجية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب المغرب الإسلامي التاريخ كتاب تاريخ عرض المغرب الإسلامي كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشریط الساحلی الأندلس إلى هذه المنطقة ة العثمانی من الأندلس من القرن إلى حدود منطقة فی تحدث عن فی هذا
إقرأ أيضاً:
هل الاقتصاد ساحة صراع فكري وأيديولجي؟ كتاب يكشف خفايا نظريات الاقتصاد
مع كل أزمة مالية أو قرار اقتصادي مفاجئ، ينهال علينا سيل من التحليلات المعقدة والنماذج الجاهزة، وكأن الاقتصاد علم جامد لا يُجادل. لكن، ماذا لو كان معظم ما نعده "حقائق اقتصادية" إنما هو ليس سوى روايات اختيرت بعناية لخدمة مصالح معينة؟
في "دليل المسترشد إلى علم الاقتصاد" يكشف عالم الاقتصاد الكوري الجنوبي من أصل بريطاني ها-جون تشانغ عن الجانب المخفي من هذا العلم الذي يمس حياتنا اليومية. فيفكك تشانغ أوهام الحياد والموضوعية بأسلوب مفعم بالحيوية والوضوح، ويعيد تقديم الاقتصاد بوصفه علما جدليا متنوعا، ومشحونا بالاختيارات الأخلاقية. ولا يُعلمك هذا الكتاب فقط كيف يعمل الاقتصاد، بل لماذا ينبغي أن تشكك فيه، وتفهمه من زوايا متعددة لا من نافذة واحدة.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف تُغيّرنا الكلمات؟ علم اللغة البيئي ورحلة البحث عن لغة تنقذ الكوكبlist 2 of 2عبور الجغرافيا وتحولات الهوية.. علماء حديث حملوا صنعاء وازدهروا في دمشقend of listوالمؤلِّف ذو مكانة، يُدرّس في جامعة كامبريدج، ويُعرف بمواقفه النقدية الجريئة تجاه التيار الاقتصادي السائد. وقد حصل على الدكتوراه من جامعة كامبريدج، وذاع صيته بفضل كتاباته التي تدمج بين العمق الأكاديمي والأسلوب السلس الموجه للجمهور غير المتخصص.
وله مؤلفات مهمة يعرض فيها رؤيته للاقتصاد بوصفه علما اجتماعيا وأخلاقيا مرتبطا بالحياة اليومية، لا مجرد معادلات ونماذج رياضية. ويعد تشانغ من الأصوات المؤثرة عالميا في نقد السياسات الليبرالية الجديدة والدفاع عن نموذج تنموي أكثر عدالة وواقعية، يستلهم التجارب التاريخية الناجحة بدلا من التنظير المجرد.
التعددية والاقتصادينطلق الكتاب من فرضية رئيسة مؤداها أن الاقتصاد ليس علما محايدا، بل ساحة تنازع فكري بين مدارس متباينة في رؤاها وتحيزاتها. ومن ثم، فإن اختزال تدريس الاقتصاد في منظور المدرسة الكلاسيكية الجديدة، كما هو سائد في جامعات العالم، لا يُعد تبسيطا وحسب، بل إخفاءً لطبيعة الاقتصاد التعددية. لذلك يرفض تشانغ هذا الطرح الأحادي، داعيا إلى مقاربة الاقتصاد بوصفه حقلا معرفيا متنوعا، تتعايش فيه -بل تتصارع- تيارات فكرية كبرى، كالكلاسيكية والماركسية والسلوكية، وغيرها.
إعلانويمضي المؤلف في توضيح الفرق الجوهري بين "الاقتصاد" بوصفه ممارسة حياتية وواقعا اجتماعيا، و"علم الاقتصاد" بأنه محاولة تنظيرية حديثة لفهم هذا الواقع. ويذكّر القارئ بأن علم الاقتصاد لم يتبلور إلا في القرنين الأخيرين، بينما سُجلت أشكال اقتصادية متعددة منذ فجر التاريخ، وهذا ما يجعل أي مقاربة اقتصادية بالضرورة مشروطة بالسياق التاريخي والاجتماعي.
وفي جولة تاريخية ثرية، يستعرض المؤلف الكوري الجنوبي تطور النظم الاقتصادية من المجتمعات الزراعية إلى الرأسمالية المعولمة، مشيرا إلى أن التغيرات الاقتصادية الكبرى لم تكن أبدا نتاج تطور علمي مجرد، بل جاءت نتيجة لصراعات اجتماعية وتحولات سياسية عميقة.
كما أنه ينتقد السرديات التي تروج لفكرة أن الدول الغربية بلغت الرفاهية من خلال "السوق الحرة" موضحا أن الحماية الاقتصادية وتدخل الدولة كانا حجر الأساس في تجاربها التنموية، وهو ما يدحض الكثير من أطروحات المدرسة الكلاسيكية الجديدة.
في سياق تفكيكه للمسلمات الاقتصادية الشائعة، يتناول تشانغ بالنقد نظريات التجارة الحرة، من مثل أطروحة "الميزة النسبية" لريكاردو، مؤكدا أن الانفتاح التجاري لم يكن سببا في الإقلاع الاقتصادي للدول الصناعية، بل جاء بعد مراحل من الحماية المدروسة.
كما يُبرز الآثار المتفاوتة للعولمة، مشيرا إلى أنها خدمت مصالح الشركات الكبرى والمستهلكين في بعض البلدان، لكنها أدت إلى تفكيك صناعات محلية، وتقويض السيادة الاقتصادية في كثير من دول الجنوب. ويدعو في هذا الإطار إلى مراجعة العولمة لا من باب العداء لها، بل بهدف إعادة صياغتها على أسس أكثر عدالة وإنصافا.
ولا يغفل الكتاب التمييز بين النمو والتنمية، منبها إلى أن ارتفاع الناتج القومي لا يعني بالضرورة تحسن حياة الأفراد. فالتنمية -وفق رؤية المؤلف- تتطلب توفير التعليم والصحة والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الفئات، وهي مؤشرات لا يعبّر عنها الناتج المحلي الإجمالي. ويقف موقفًا نقديًا من النظرة التي ترى في التفاوت الاجتماعي "ثمنًا لا بد منه" داعيًا إلى إمكانية الجمع بين العدالة والنمو، كما تُظهر تجارب عدد من دول الشمال الأوروبي وشرق آسيا.
أحد المحاور البارزة في الكتاب هو استعادة البعد الأخلاقي في علم الاقتصاد، ورفض اختزال الإنسان إلى "آلة نفعية" تحسِب التكاليف والعوائد، حيث يرى تشانغ أن كل قرار اقتصادي في جوهره أخلاقي: من دعم الصناعات الملوثة، إلى تسعير الغذاء، إلى أولويات الإنفاق العام. وبدلًا من تقديم إجابات جاهزة، يطرح أسئلة تتطلب تفكيرًا نقديًا من القارئ، مشاركًا له في عملية التأمل بدل تلقينه النتائج.
وفي أحد أهم أقسام الكتاب، يستعرض تشانغ 9 مدارس اقتصادية، مبرزا الاختلافات النظرية والتطبيقية بينها. وهو لا يقدم هذا العرض بين هذه التوجهات على أنه تنافس لإثبات الأفضلية، بل بوصفه دعوة إلى تنويع الأدوات التحليلية، بما يتيح قراءة الواقع بأكثر من زاوية.
إعلانفالمدرسة الكلاسيكية الجديدة مثلا تمتاز بصياغة نماذج رياضية متماسكة، لكنها تفترض عقلانية مثالية بعيدة عن الواقع، في حين تُدخل المدرسة السلوكية عوامل نفسية تُضيء بعض الجوانب المسكوت عنها. وهذه التعددية، برأيه، ليست مؤشرا على فوضى معرفية، إنما انعكاس لتعقيد الظواهر الاقتصادية وتعدد أبعادها.
ثم ينتقل المؤلف في الجزء الأخير من الكتاب إلى التطبيق، محللا قضايا محورية من مثل التضخم والبطالة والأسواق المالية والأزمات الاقتصادية، ودور المؤسسات الدولية. ويخصّ بالنقد السياسات الليبرالية الجديدة التي فُرضت على دول الجنوب، كالوصفات الموحدة لصندوق النقد الدولي، والتي تجاهلت الخصوصيات المحلية، وأدت في كثير من الأحيان لتفاقم الفقر، لا إلى معالجته.
ويرى أن الخيارات الاقتصادية ليست محض حسابات علمية، بل مواقف سياسية في جوهرها. فالاختيار بين السيطرة على التضخم أو تقليص البطالة -مثلا- لا يمكن فصله عن الانحيازات الطبقية والاجتماعية للسلطة الحاكمة، وهذا ما يجعل الاقتصاد مجالا عاما يستوجب النقاش والمساءلة، لا حكرا على الخبراء والتقنيين.
قيمة الكتابيتميّز أسلوب تشانغ بالجمع بين الوضوح والعمق، إذ يُبسّط المفاهيم النظرية من دون أن يُسطّحها، ويستعين بأمثلة حياتية وجداول توضيحية ورسوم بيانية لتيسير الفهم. ومما يعزز من قيمة الكتاب أنه لا يخاطب المختصين وحدهم، بل يُوجَّه إلى القارئ العام الذي يسعى إلى فهم التحولات الاقتصادية التي تؤثر في حياته، دون أن يكون بالضرورة دارسًا للاقتصاد.
وقد قوبل الكتاب بترحيب واسع من القراء والمهتمين في العالم، لا سيما أولئك الذين يبحثون عن بدائل للطرح الكلاسيكي الجديد السائد. كما تعرض لانتقادات من بعض الأكاديميين المحافظين الذين اتهموه بالتبسيط أو التحيز. غير أن هذه الانتقادات -كما يرى عدد من النقاد- تؤكد صدقية دعوته إلى تحرير علم الاقتصاد من انغلاقه النظري، وانفتاحه على التعدد والتأمل النقدي.
إن القيمة الكبرى لكتاب "دليل المسترشد إلى علم الاقتصاد" تكمن في أنه لا يقدّم وصفات جاهزة أو نماذج مثالية، بل يفتح المجال لفهم الاقتصاد بوصفه علمًا حيًّا، متغيرًا، ومرتبطًا بالواقع. فهو ليس مجرد مدخل أكاديمي، بل دعوة لممارسة الفهم الاقتصادي بوصفه أحد أشكال المشاركة المدنية الواعية.
وفي زمن تزداد فيه سطوة الخطاب الذي يريد الهيمنة، ويُستخدم علم الاقتصاد لتبرير قرارات تعيد إنتاج الظلم، يذكّرنا تشانغ بأن المعرفة الاقتصادية ليست حكرًا على أحد، وأن من حق كل إنسان أن يفهم ويسأل ويجادل.