كما لو كنا لسنا بشرا.. أطفال ورجال من غزة يروون ما عاشوه خلال اعتقال الاحتلال
تاريخ النشر: 13th, December 2023 GMT
دير البلح وسط قطاع غزة داخل إحدى غرف مستشفى شهداء الأقصى، الطفل محمود زندة بالقرب من والده نادر. ما تزال ويلات الأسبوع الماضي مطبوعة على وجهيهما. عيونهم واسعة، وتتحرك بسرعة في كل اتجاه.
ورد ذلك في تقرير نشره الموقع الإلكتروني للجزيرة الإنجليزية كتبته لينا الصافين ومرام حميد، يصور لحظات الرعب والإذلال التي عاشها فلسطينيون اعتقلتهم القوات الإسرائيلية في غزة لأيام بعد تجريدهم من ملابسهم وتعصيب أعينهم وترقيمهم وتعذيبهم أثناء احتجازهم.
محمود البالغ من العمر 14 عاما ووالده كانا من بين مئات الفلسطينيين الذين اعتقلتهم قوات الاحتلال في الخامس من ديسمبر/كانون الأول الجاري في حي الشجاعية، شرق مدينة غزة، حيث عانيا خلال 5 أيام من التعذيب والإهانة قبل إطلاق سراحهما، دون أي تفسير لاعتقالهما.
قالوا سيذبحوننا جميعايقول محمود وهو يرتجف: "أحد الجنود الإسرائيليين قال لي إنني أبدو مثل ابن أخيه وأن ابن أخيه قُتل أمام جدته التي احتجزتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) كرهينة وأن الجنود سيذبحوننا جميعا".
قبل محنتهم، حوصرت عائلة زندة بمنزلها في حي الزيتون بمدينة غزة لمدة يومين، ولم تتمكن من المغادرة مع تقدم دبابات الاحتلال واقتراب القصف المدفعي. أولئك الذين تجرؤوا على مغادرة منازلهم لأي سبب تم قصفهم وقنصهم في الشوارع.
في اليوم الثالث، استيقظت الأسرة، التي نامت على أرضية البلاط البارد تحت المراتب لحمايتها من الشظايا المتطايرة المحتمل سقوطها في كل لحظة، لتجد الدبابات في شارعها.
الجرافة تضرب الجدرانيقول نادر (40 عاما) "سمعنا جنود الاحتلال وهم يصرخون وترتفع أصوات الدبابة، كان المنزل يتحرك، أدركت أن الجرافة الإسرائيلية كانت تضرب الجدران، وكان الجنود يطلقون النيران أيضا".
مزق نادر بسرعة بعض الملاءات البيضاء ليصنع منها رايات صغيرة يحملها كل من أطفاله الثمانية. قاموا بإخراج أحدهم من الباب الأمامي للمنزل، توقفت الجرافة، وكذلك إطلاق النار. لكن فجأة كان المنزل مليئا بالجنود الإسرائيليين.
يتذكر نادر: "لقد جعلونا نفرغ حقائبنا على الأرض ومنعونا من أخذ أي مال أو ممتلكات، وألقوا الطعام القليل الذي كان لدينا بعيدا. أخذوا أموالنا، وكذلك الهويات والهواتف".
قسّم الجنود الأسرة: النساء والأطفال الصغار في غرفة والرجال والفتيان في غرفة أخرى. ثم أخبروا محمود ونادر وصهره وقريبا آخر أن يخلعوا ملابسهم، ثم دفعوهم إلى الخارج.
يوضح نادر: "لقد جمعوا ما لا يقل عن 150 رجلا من المنازل المحيطة وعصبوا أعيننا وقيدوا أيدينا جميعا في الشارع".
بعدها أجبر الجنود الرجال على الصعود إلى شاحنات ووقتها تأكد نادر من أن محمود في حجره، وشعر بالرعب مما سيفعلونه بابنه إذا انفصلا. يقول "لا أريد أن أفقد طفلي، ولا أريد أن يفقد ابني والده".
سرعان ما أدرك الرجال أن هناك أيضا نساء في الشاحنة، التي توقفت فجأة، مما أدى إلى سقوط المعتقلين فوق بعضهم بعضا.
عصبوا أعينهميستمر نادر بالحديث: "كنا جميعا معصوبي العيون، لذلك لم نتمكن من رؤية بعضنا، نسمع صرخات النساء والأطفال".
توقفت الشاحنة، ومرة أخرى، تم فصل الرجال والنساء. ونقل الرجال والأطفال إلى مستودع حيث جلسوا على أرضية مغطاة بحبوب الأرز المتناثرة. وهناك تعرضوا للضرب والاستجواب والشتائم. وتركوا بلا نوم بعد أن خلعوا ملابسهم.
الجوع والضرب لعدة أيامالطفل محمد عودة 14 عاما أخذ من نفس وادي العرايس في حي الزيتون مثل زندة، حيث ظل هو وعائلته عالقين في منزلهم لمدة 5 أيام، يتضورون جوعا.
قُتل اثنان من أولاد الحي على يد قناصة إسرائيليين عقب مغادرتهما منزليهما للبحث عن المياه في الشارع.
بعد أن هدمت الجرافة جدران العديد من المنازل، قام جنود الاحتلال بسحب الرجال والفتيان إلى الخارج، وأوسعوهم صفعا ولكما وضربا بأسلحتهم.
يتذكر محمد: "لم تكن هناك فرصة للتفاهم معهم، وظلوا يقولون إننا جميعا حماس. وكتبوا أرقاما على أذرعنا. كان رقمي 56". عندما يمد محمد ذراعيه للخارج، لا تزال الكتابة الحمراء مرئية على جلده.
ويتابع محمد: "عندما يتحدثون إلينا بالعبرية ولا نفهم، كانوا يضربوننا".
"ضربوني على ظهري وخاصرتي وساقي، أخذوا عائلتي، ولا أعرف أين هي"، يقول وصوته يرتعش.
بصقن على الرجاليتذكر محمد أنه، وقبل إجبارهم على دخول المستودع، جاءت المجندات الإسرائيليات وبصقن على الرجال المعتقلين.
في المستودع، كان من الشائع أن تدخل مجموعات من 5 جنود فجأة وتضرب شخصا بينما يُجبر الآخرون على الاستماع إلى صراخه من الألم. إذا أومأ أي من الرجال أو الفتيان برأسه من الإرهاق، سكب الجنود الماء البارد عليه.
يقول محمد: "كان ازدراؤهم لنا أمرا غير طبيعي، كما لو كنا كائنات أقل من البشر".
بعضهم لم يعد من جلسات التعذيبيقول نادر بحزن: "بعض المعتقلين لم يعودوا من جلسات التعذيب، كنا نسمع صرخاتهم ثم تختفي".
في وقت من الأوقات، أخبر محمود والده أن معصميه ينزفان من الأصفاد. سمعه جندي وسأله عن مكان الألم ثم شرع في الضغط عليه. حاول نادر حماية ابنه، وحاول أحد الجنود جر الطفل بعيدا. عندما قاوم محمود، تعرض للركل على وجهه. ولا تزال العلامة ظاهرة.
يقول محمود: "ظل والدي يصرخ عليهم بأنني طفل وألقى بنفسه فوقي، سمعت جنديا يتحدث بلهجة أميركية، وقلت له بالإنجليزية إنني مجرد طفل يذهب إلى المدرسة لكن دون نتيجة".
معصوبو العيون ومكبلو اليدين طوال الوقت، تعرض الرجال والأطفال لساعات من الضرب، وفق الشهادات المذكورة.
يقول نادر، الذي تعرض لضربة مؤلمة بشكل خاص في رأسه: "لعنونا، وقذفونا بأكثر العبارات بذاءة، بعضهم يتحدث العربية. في كل مرة تحاول التحدث، أو تطلب الذهاب إلى الحمام أو تريد شربة ماء، كانوا يأتون ويضربوننا، مستخدمين أعقاب بنادقهم (إم-16)".
استجوبهم الجنود وهددوهم بالقتل جميعا. واتهموهم بسرقة سياراتهم العسكرية واغتصاب النساء الإسرائيليات.
عندما سألوا محمود عن مكان وجوده في يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي أي تاريخ معركة "طوفان الأقصى" وأجاب بأنه كان نائما في المنزل، ضربه الجنود.
"لديهم عنصرية لا يمكن أن تصدق". يقول نادر الذي أضاف "إنهم يكرهوننا حقا، هذا الأمر ليس متعلقا بحماس. وإنما بالرغبة في القضاء علينا جميعا. هي إبادة جماعية، أعطى الرئيس الأميركي جو بايدن الضوء الأخضر لها".
يقضون حاجتهم في أماكنهمخلال الاعتقال أُعطي الرجال بضع قطرات من الماء فقط وفتاتا من الخبز. وأُجبر البعض على قضاء حاجته في مكانه بينما تم تسليم آخرين دلوا كريه الرائحة للقيام بذلك.
في اليوم الخامس، تم نقل محمود ونادر و10 رجال آخرين إلى نتساريم، وهي مستوطنة سابقة جنوب مدينة غزة تحولت إلى أرض زراعية بعد "فك الارتباط" الإسرائيلي عام 2005. وهي الآن نقطة تفتيش إسرائيلية قبل وادي غزة مباشرة، وتم إطلاق سراح الرجال المعتقلين هناك وطلب منهم التوجه جنوبا.
خلعت المجموعة عصابات الأعين وتُركت أعينهم تتكيف مع النور بعد أيام من الظلام. كانوا منهكين وجائعين وما زالوا دون ملابس. بعد المشي المؤلم لمدة ساعتين، رصدتهم مجموعة من الفلسطينيين.
يقول نادر: "ألبسونا وأعطونا الماء، واستدعوا سيارة إسعاف، ووصلنا إلى مستشفى شهداء الأقصى، حيث أعطونا سوائل وريدية". ويضيف: "اعتقدت أنه لم تكن لدي فرصة للخروج حيا".
ويختم "كان الجحيم على الأرض. كان الأمر أشبه بقضاء 5 سنوات في ذاك المستودع. لا أتمنى هذا لأي شخص".
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
البرش: الاحتلال يتسلى بقتل أطفال غزة ووفاة 66 منهم بسبب الجوع
في اليوم الثالث بعد المئة من استئناف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، كشف المدير العام لوزارة الصحة الفلسطينية في غزة، الدكتور منير البرش، عن تصاعد أعداد الأطفال الذين يموتون جوعا، مؤكدا أن الاحتلال الإسرائيلي "يتلذذ بقتلهم"، وسط استمرار الحصار وإغلاق المعابر وتجاهل المجتمع الدولي.
وفي مداخلة عبر قناة الجزيرة، قال البرش إن عدد الأطفال الذين استشهدوا نتيجة سوء التغذية الحاد بلغ 66 حتى الآن، آخرهم الطفلة جوري المصري البالغة من العمر 3 أشهر، مشيرا إلى أن الفئات الأكثر هشاشة، وفي مقدمتها الأطفال، أصبحت في صدارة الضحايا.
وأشار إلى أن هذه الأرقام تعكس عمق الأزمة الإنسانية التي يعيشها سكان غزة، مع تعمّد قوات الاحتلال منع إدخال الغذاء والدواء، وإصرارها على إبقاء المعابر مغلقة رغم تصاعد أعداد الضحايا يوما بعد يوم.
وأوضح البرش أن تقارير برنامج الأمن الغذائي العالمي تؤكد أن نحو 1.2 مليون فلسطيني في غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، من بينهم 785 ألف طفل محرومون من الغذاء الصحي، في حين يعاني نحو 70 ألف طفل من سوء تغذية حاد.
وأشار إلى أنه منذ إغلاق المعابر، سُجلت 8923 حالة سوء تغذية بين الأطفال، بينهم أكثر من ألف يعانون من سوء تغذية حاد يهدد حياتهم.
أوضاع كارثيةوقال البرش إن الأوضاع الكارثية لا تقتصر على الأطفال، بل تشمل آلاف المرضى الذين ينتظرون التحويل للعلاج خارج غزة، وقد توفي 546 مريضا حتى الآن بسبب عدم قدرتهم على السفر، في ظل توقف التحويلات الطبية بالكامل.
ورأى أن هناك فرصة حقيقية لإنقاذ الأطفال المصابين بسوء التغذية، شريطة فتح المعابر وإدخال الحليب العلاجي والمستلزمات الطبية، مؤكدا أن الكوادر الصحية في غزة قادرة على تقديم العلاج، لكنها تُحرم من الأدوات اللازمة.
وعبّر عن أسفه قائلا: "إن لم يدخل هذا الحليب، فالمصير هو الموت"، محمّلا الاحتلال مسؤولية التسبب بهذه الوفيات، لا سيما مع تعمّده حرمان الرضّع من الحليب كوسيلة قتل بطيء.
إعلانوأشار إلى أن الاحتلال لا يكتفي بمنع الغذاء، بل يستهدف المدنيين الذين يحاولون الوصول إلى المساعدات، مستشهدا بمقتل أحد الأطباء أثناء محاولته جلب الطعام لأطفاله.
وتوقف البرش عند تقرير "هآرتس" الأخير الذي فضح ممارسات جنود الاحتلال، حيث وثق استخدام الجيش الإسرائيلي المدفعية لتفريق الجموع بدلا من الغاز، مما أدى إلى سقوط قتلى ومصابين في محيط مراكز توزيع المساعدات.
استهداف المجوعينوفي هذا السياق، أفاد مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس باستشهاد فلسطيني وإصابة آخرين بنيران قوات الاحتلال قرب مركز مساعدات شمالي رفح، في حادثة متكررة تستهدف المدنيين في مناطق تجمّع المساعدات.
وقد أعلنت وزارة الصحة في غزة أن 549 فلسطينيا استشهدوا منذ 27 مايو/أيار قرب مراكز توزيع المساعدات، إلى جانب أكثر من 4 آلاف مصاب.
واتهم البرش الاحتلال باتباع سياسة تدمير ممنهجة، مستشهدا بتقارير تفيد بأن الجنود الإسرائيليين يتقاضون مكافآت مالية مقابل تدمير المباني، مؤكدا أن مخيم جباليا "أُبيد عن بكرة أبيه"، وأن سكانه أصبحوا في العراء دون مأوى أو غذاء أو حتى خيام.
وحذّر من أن قطاع غزة دخل مرحلة "ما بعد الكارثة"، حيث يهيم الناس في الشوارع بلا مأوى، في حين يموت الأطفال تباعا في أحضان أمهاتهم، وسط عجز دولي غير مبرر.
ودعا البرش المجتمع الدولي إلى تحرك فوري وفعلي، للضغط على سلطات الاحتلال لفتح المعابر وإنهاء الحصار، قبل أن تلتهم المجاعة من تبقى من أطفال غزة.