لجريدة عمان:
2024-06-16@12:39:29 GMT

خرافة الأحداث غير المسبوقة

تاريخ النشر: 27th, December 2023 GMT

لقد عمِلتُ في مجال التنبؤ لأكثر من خمسين عاما. وخلال تلك الفترة، سمعتُ الفكرة الراسخة عن أن العالم يمر «بتغيرات غير مسبوقة». وكثيرا ما أدى هذا المجاز الشائع إلى نتائج طبيعية مبالغ فيها مُماثلة: ادعاءات مُستمرة بأننا لم نواجه قط مخاطر أكبر أو مثل هذا المستقبل غير المؤكد والغامض، وأن التنبؤ أصبح أصعب من أي وقت مضى.

إذا قُمنا بالتفكير في الأمر بشكل مُستمر، سيُصبح قابلا للتصديق.

أعترفُ أنني فشلتُ في التنبؤ بالمستقبل مرات عديدة؛ وذلك بسبب تطورات يُزعم أنها غير مسبوقة لدرجة أنني لم أتمكن من إحصائها. كانت سبعينيات القرن العشرين تُمثل عقدا من الاضطرابات غير العادية: فقد أعقب صدمة النفط في عام 1973 مباشرة «التضخم العظيم» وفترة من الركود التضخمي، مما مهد الطريق لأول مرحلة بدت غير مسبوقة من حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

سمح الانكماش اللاحق في الثمانينيات بعودة الأحداث المُرعبة في السبعينيات إلى الظهور في التسعينيات، والتي انتهت مع الأزمة المالية الآسيوية، إيذانًا ببدء ما وُصف في البداية بأول أزمة تُواجهها العولمة.

لكننا اليوم ننظر إلى هذه الأحداث باعتبارها مجرد هزات أرضية تسبق الصدمات الزلزالية القادمة. فقد أشارت ثورة تكنولوجيا المعلومات وفقاعة الدوت كوم أو ما تُسمى بفقاعة الإنترنت في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى تزايد فقاعات الأصول التي ضَربَت أسواق العقارات العالمية والعديد من الأصول المالية، بدءًا من الرهون العقارية عالية المخاطر إلى تدفقات الائتمان والأسهم الأوسع نطاقًا.

وعندما تلاشت المخاوف، كانت العدوى الناتجة العابرة للحدود والأصول سببًا في تأجيج الأزمة المالية العالمية في الفترة ما بين عامي 2008 و2009 -وهي اضطرابات غير عادية أخرى لما أصبح، في تلك المرحلة، عالمًا مُنهكا بالأزمات.

وفي الوقت الذي اعتقد فيه الجميع أن الظروف العالمية لا يمكن أن تزداد سوءًا، أدت الجائحة التي تحدث مرة واحدة كل قرن والأحداث المناخية المتطرفة الناجمة عن التغيرات المناخية إلى قلب التفكير التقليدي رأسا على عقب، كما فعلت الموجة المُتصاعدة للحمائية والحروب التجارية وحروب التكنولوجية واصطدام القوى العظمى المُحتمل بين الولايات المتحدة والصين.

أضف إلى ذلك اندلاع الحرب في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط، فتُصبح الأحداث غير المسبوقة تُشكل القاعدة الجديدة. أصبحت الكتب التي تتحدث عن «الأزمة الدائمة» و«الأزمات المُتعددة» تتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعًا.

يقول صوت ساخر بداخلي: «كنت هناك، فعلت ذلك». ولكن مجرد ممارستي لمهنتي كمتنبئ خلال نصف قرن من الاضطرابات لا يعني أن لدي فهما فريدا لما سيحدث مُستقبلا. مع الأخذ في الاعتبار ملاحظة مارك توين بأن التاريخ غالبًا ما يكون متناغمًا، أقدم ثلاثة دروس رئيسية من تجربتي في محاولة فهم ما قد يحدث في المستقبل غير المؤكد:

أولا، تعلّم أن تتوقع ما هو غير متوقع. إن الجنس البشري بطبيعته ارتدادي، ويتطلع دائمًا إلى الماضي القريب باعتباره أفضل مؤشر للمستقبل. ويميل صُنّاع السياسات بشكل خاص إلى اتباع هذا النهج قصير النظر والمتمثل في إصلاح العيوب في الأنظمة التي أدت إلى الأزمة الأخيرة ولكنهم لا يفكرون أبدًا فيما قد يؤدي إلى الأزمة التالية. على سبيل المثال، في أواخر التسعينيات، قامت الاقتصادات الآسيوية ببناء خزانات ضخمة من احتياطيات النقد الأجنبي -وهي الخطوة التي كانت لتساعد في منع الأزمة المالية الآسيوية التالية، ولكنها فشلت في وقف الأزمة التي حدثت بالفعل، والتي نشأت عن انفجار فقاعة الأسهم.

ثانيا، هناك سلسلة متصلة واضحة مما يُسمى بحقبة غير مسبوقة إلى أخرى. تميل إحدى الأزمات إلى توليد الأزمة التالية. وبقيادة العظيم بول فولكر، اتخذ بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي تدابير صارمة لوقف التضخم الكبير (كما فعلت البنوك المركزية الأخرى). ولكن على الرغم من الفوز في الحرب، أهدر صنّاع السياسات فرص تحقيق السلام، حيث خفّضوا أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية تحول دون الحفاظ على الاستقرار المالي.

وعلى نحو مماثل، مع توقف أسواق رأس المال العالمية أثناء الأزمة المالية الآسيوية، اكتشفت البنوك المركزية الحل الفعال المتمثل في سياسة أسعار الفائدة الرسمية القريبة من الصفر. وكان هذا بدوره سببا في تمهيد الطريق أمام وفرة من فقاعات الأصول في المستقبل -ليس فقط الأسهم بل وأيضا السندات والائتمان- والتي بلغت ذروتها في الأزمة المالية العالمية بعد عقد من الزمان.

ثالثا، أصبحت الأزمات والتطورات «الاستثنائية» الناتجة الآن هي القاعدة وليست الاستثناء. وفي العقود الأخيرة، كان حدوث كارثة واحدة كل ثلاث أو أربع سنوات هو المتوسط. فقد أعقب أزمة الديون في أمريكا اللاتينية في عام 1982 انهيار سوق الأوراق المالية في عام 1987، وأزمة الادخار والقروض في الولايات المتحدة في الفترة ما بين عامي 1986 و1995؛ وانهيار الاقتصاد في اليابان (1990)، والمكسيك (1995)، وآسيا (1997)؛ وشبه انهيار صندوق التحوط كأسلوب لإدارة رأس المال على المدى الطويل (1998)؛ وانهيار فقاعة الدوت كوم (2000)؛ وفضيحة شكة إنرون المُحاسبية (2001)؛ وكارثة الرهون العقارية عالية المخاطر (2007)؛ وأزمة الديون السيادية في منطقة اليورو (2010)، و«نوبة الغضب من التخفيض التدريجي» الناجمة عن الخوف من تطبيع السياسة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي (2013)؛ وانهيار سوق الأسهم الصينية (2015)، والحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين (2018)، وجائحة فيروس كورونا المُستجد (2020)، وتراجع العولمة (2023). وفي ظل هذه الخلفية، يواجه المتنبئون المهمة المستحيلة على ما يبدو المُتمثلة في التنبؤ بالمستقبل.

وبطبيعة الحال، يواجه صنّاع السياسات العامة تحديا هائلا بنفس القدر: ففي حين أن أزمة أخرى قادمة، ربما عاجلا وليس آجلا، يتعين عليهم العمل على التوفيق بين السياسات المتطلعة إلى المستقبل والمخاطر المتمثلة في مستقبل غير مؤكد إلى حد كبير. ولكن هذا لا يُبرر تقديم أعذار تخدم مصالح ذاتية لارتكاب أخطاء سياسية، أو تصوير سوء تسعير أسواق الأصول والاضطرابات الاقتصادية باعتبارها حوادث لا يمكن تجنبها ناجمة عما يسمى بالظروف غير المسبوقة.

لقد نفد صبري تجاه صنّاع السياسات، وصنّاع القرار في الشركات، والمستثمرين الذين يرفعون أيديهم بشكل جماعي ويقولون: «لا تلوموني». إنها عملية انسحاب بشكل واضح. إن الأزمات مُستمرة، ومهمتنا لا تكمن في التنبؤ بالصدمة التالية -على الرغم من أن شخصًا ما يفعل ذلك دائمًا- ولكن في زيادة تركيزنا على القدرة على الصمود.

إن الحفاظ على مسار السياسات المُقررة بموجب ولايات سياسية مع الحد من الاضطرابات الحتمية هو أمر يسهل قوله أكثر من فعله. ولكن هذا ليس مبررا للوقوع ضحية أسطورة الأحداث غير المسبوقة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الأزمة المالیة غیر المسبوقة غیر مسبوقة

إقرأ أيضاً:

الصحة العالمية قلقة بشأن الأزمة الصحية المتزايدة في الضفة الغربية

قالت منظمة الصحة العالمية فى بيان ، إنها قلقةً إزاء الأزمة الصحية المتزايدة في الأرض الفلسطينية المحتلة، وخاصة الضفة الغربية، حيث الهجمات على البنيةِ التحتيةِ الصحيةِ والقيودِ المتزايدةِ المفروضة على الحركة تعرقل الحصول على الرعاية الصحية.

ومنذ بدء الحربِ في غزة، أدى تصاعد وتيرة العنف في الضفة الغربية، ومنها القدس الشرقية، إلى وفاة 521 فلسطينيًا، منهم 126 طفلاً في الفترة بين 7  أكتوبر 2023 و10 يونيو 2024.
وإضافةً إلى ذلك، أُصيب أكثر من 5200 شخص، بينهم 800 طفل، الأمر الذي يُثقل كاهل المرافق الصحية المنهكة بالفعلِ بالعبء المتزايد لرعاية الرُّضوح وحالات الطوارئ.

وحتى 28 مايو، وثَّقت المنظمةُ 480 هجومًا على مرافق الرعاية الصحية في الضفة الغربية منذ 7 أكتوبر 2023، ما أسفر عن 16 وفاة و95 إصابة. وقد طالت الهجمات 54 مرفقًا صحيًا، و20 عيادة متنقلة، و319 سيارة إسعاف‎. ووقَعَتْ 95% من الهجمات في مدن طولكرم وجنين ونابلس. وهي تشمل هجمات على البنية التحتية الصحية وسيارات الإسعاف، واحتجاز العاملين الصحيين والمرضى، وعرقلة وصولهم إلى المرافق الصحية، واستخدام القوة بحق العاملين الصحيين، والتفتيش العسكري لسيارات الإسعاف والموظفين.

ولقد أدى إغلاقُ نقاط التفتيش، والعراقيلُ التعسفية، واحتجاز العاملين الصحيين، وتزايد انعدام الأمن، والحصار وإغلاق مدن ومجتمعات محلية بأكملها، إلى تشديد تقييد الحركة داخل الضفة الغربية، الأمر الذي أعاق الوصول إلى المرافق الصحية. وقد أدت الأضرار الواسعة التي أصابت البنى التحتية والمساكن، ولا سِيَّما في شمال الضفة الغربية، إلى تفاقم الوضع جراء عرقلة وصول سيارات الإسعاف وفرق الإسعافات الأولية.

وفي الفترة ما بين أكتوبر 2023 و مايو 2024، رُفض أو أُرجئ النظر في 44% من 28292 طلبًا لالتماس الرعاية الطبية خارج الضفة الغربية، في القدس الشرقية أو المرافق الصحية الإسرائيلية، في حين تُمنح إمكانية الحصول على الرعاية في الأساس لحالات السرطان والغسيل الكلوي وغيرها من الحالات التي تتطلب رعاية مُنقِذة للحياة. وفي الفترة نفسها، تم رفض أو تأجيل النظر في 48% من طلبات تصاريح المرافقة التي بلغ عددها 25562 طلبًا.
وتُظهِر المقارنةُ بين أكتوبر 2022  و مايو 2023 و أكتوبر 2023 و مايو 2024 انخفاضًا بنسبة 56% في طلبات الحصول على تصاريح المرضى في الضفة الغربية و22% في الموافقات، وانخفاضًا بنسبة 63% في طلبات الحصول على تصاريح المرافقين، وانخفاضًا بنسبة 24% في الموافقات.
وفيما قبل  أكتوبر 2023، كان أكثر من 300 مريض يحتاجون إلى تصاريحَ يوميًا للعبور من الضفة الغربية إلى القدسِ الشرقيةِ والمرافق الصحية الإسرائيلية.

وتؤثِّر الأزمةُ الماليةُ الطويلةُ الأمد التي تواجهها السلطة الفلسطينية بشدة على النظام الصحي، وقد تفاقمت هذه الأزمة بسبب احتجاز إسرائيل إيرادات الضرائب المفروضة على الأرض الفلسطينية المحتلة، المتواصل منذ 7  أكتوبر، والتدهور العام للوضع الاقتصادي في الأرض الفلسطينية المحتلة. ويؤثرُ الوضعُ المالي على تقديم الخدمات الصحية تأثيرًا كبيرًا - ومن ذلك مثلاً أن العاملين الصحيين لم يحصلوا إلا على نصف رواتبهم منذ ما يقرب من عام، إضافة إلى نفاد مخزون 45% من الأدوية الأساسية.  وفي معظم مناطق الضفة الغربية، أصبحت عيادات الرعاية الأولية والعيادات التخصصية للمرضى الخارجيين تعمل يومين في الأسبوع، بينما تعمل المستشفيات بقدرة 70% تقريبًا.

وتدعم منظمةُ الصحة العالمية وزارةَ الصحة بشراء الأدوية الأساسية وبتقديم المساعدة التقنية لمعالجة بعض السياسات والإجراءات بما يُسهم في حل الأزمة المالية في مجال الصحة. وإضافةً إلى ذلك، جهزت المنظمةُ سلفًا إمدادات في المستشفيات الرئيسية في جميع أنحاء الضفة الغربية، ومنها القدس الشرقية، ونظمت تدريبًا مجتمعيًا على التدبير العلاجي للرُّضوح - للعاملين في مجال الاستجابة للإسعافات الأولية في المجتمعات المتضررة - من أجل تعزيز التأهب لحالات الطوارئ، ولكن تفاقم انعدام الأمن وصعوبة إمكانية وصول العاملين الصحيين في حالات الطوارئ والمتطوعين الميدانيين للوصول إلى المصابين، واستمرار فرض حظر التجول الصارم، كلها أمور تشكل مجتمعة مخاطر كبيرة على النظام الصحي وتجعل من الصعب للغاية على فرق الاستجابة الوصول إلى من يحتاجون إلى الرعاية العاجلة.

وتدعو المنظمةُ إلى توفير حماية فورية وفعالة للمدنيين والرعاية الصحية في الضفة الغربية. وتؤكد المنظمةُ على وجوب احترام القانون الإنساني الدولي، وهذا يعني وجوب احترام قدسية الرعاية الصحية في جميع الأوقات.

 

 

مقالات مشابهة

  • تحذيرات من تفاقم الأزمة الصحية في الضفة الغربية
  • الصحة العالمية تحذر من تفاقم الأزمة في الضفة الغربية
  • “الصحة العالمية” تحذر من تفاقم الأزمة الصحية في الضفة
  • الصحة العالمية تُحذر من تفاقم الأزمة الصحية بالضفة الغربية
  • عاجل| الصحة العالمية تُحذر من تفاقم الأزمة الصحية في الضفة الغربية
  • الصحة العالمية تحذر من تفاقم الأزمة الصحية في الضفة الغربية
  • الصحة العالمية: استشهاد اكثر من 500 مواطنا في الضفة بينهم 133 طفلا
  • «الصحة العالمية» تحذر من تفاقم الأزمة الصحية في الضفة الغربية
  • منظمة الصحة العالمية تحذر من تفاقم الأزمة الصحية في الضفة الغربية
  • الصحة العالمية قلقة بشأن الأزمة الصحية المتزايدة في الضفة الغربية