مرَّت المكتبات المدرسية بمراحل عديدة وحقب متتالية في الواقع العلمي والتربوي كونها أهم روافد تحصيل المعارف والعلوم في المؤسسة المدرسية، كونها الأقدم في المجتمعات المختلفة، ومع التقدم المتسارع في مختلف الجوانب الحياتية والمتعلقة خصوصًا بالتعليم والتعلم جرت عليها مسميات عدة ومختلفة، من حيث اختلاف الأنظمة التعليمية وتطورها ومآلات المهام والوظائف التي تؤديها في المؤسسة التعليمية، إلى أن استقر مثلاً في مملكة البحرين - حتى اليوم على الأقل - مصطلح مركز مصادر التعلم وفق رؤى تعليمية أهمها الانتقال من التعليم إلى التعلم، والتركيز على التعلم الذاتي وبناء المهارات والمعارف ذاتيًا.


وبعيدًا عن المسميات - على الرغم من أهميتها - إلا أننا اليوم نشهد تغيرًا جذريًا في التعاطي مع الواقع المعرفي من حيث الشكل والمضمون، أو ما يمكن تسميته الحامل والمحمول، وبنظرة خاطفة نرى تصاعدًا مطردًا فيما تقدمه التقنيات الحديثة من نتاجات معرفية لا يمكن ملاحقتها، بدءًا من الهواتف النقالة وملحقاتها وأجهزة الحواسيب والروبوتات والطابعات المختلفة وانتهاء بالمكملات الإلكترونية من شاشات عرض متعددة الأبعاد وأجهزة إضاءة وسمعيات ومؤثرات حسية ووسائط مختلفة، وغيرها، وكل ذلك تحمل لنا من الناحية التعليمية مضمونًا معرفيًا مغايرًا عما نتوقعه قبيل لحظات من التخطيط والتفكير في كيفية تطوير مراكز مصادر التعلم بسبب التسارع والتنافس في إنتاج التقنيات الحديثة.
لا شك أن كل ما ذكرته وغيرها محفز لاكتساب المعارف الحديثة من الحوامل والأوعية المعرفية الحديثة المبهرة، ولكن ذلك لا يعني إهمال الحوامل المعرفية التقليدية كالكتب وأخواتها، وعدم الاستعلاء عليها مهما كانت خطوات تقدمنا، فثمة ما يقلق المثقفين والتربويين من الاعتماد على شكل مصدري واحد للمعرفة والمتعلق دائمًا بالرقمنة، بحيث تبنى المعرفة الفردية والنخبوية والمجتمعية وفق خصائصها، وهذا يسبب إشكالاً محرجًا في التكوين المعرفي للإنسان الحديث الذي يخشى أن يكون مؤلَّلا ومرقمنا، ويكون جزءًا من منظومة معرفية كبرى ربما تعيش في عالم من الفوضى الحضارية والثقافية والمعرفية ما يمكنها أن تخلق جيلاً منفصلاً عن ذاته أولا وعن مجتمعه وحضارته ثانيًا، يمتلك معرفة غير متوافقة مع الأهداف الكبرى للنظام التعليمي أو التوقع المجتمعي، فيساهم ذلك انحدارًا حضاريًا لهذا المجتمع، أو يكون مندغما مع فكر حضاري مختلف عنا تحت مسميات ومصطلحات برّاقة خطرة.
لدرء هذه المخاوف وغيرها، فلا بد من تنويع الحوامل المعرفية والأوعية العلمية بتوازن وموضوعية واقعية، فلا يمكن بأي حال من الأحوال محاربة المستحدثات التكنولوجية أو التقليل من أهميتها في العملية التعليمية التعلمية، وإنما استعمالها برشد وبدراسة واقعية نتجنب مخاطرها، ونستثمر فوائدها، ومن المهم ألا نتخلى عن الحوامل التقليدية، لا سيما الكتب الورقية، لما تحمل من ثوابت معرفية غير متغيرة وموثوقية علمية راسخة، كما أن لها من الميزات الكثير أهمها إنشاء ألفة وعلاقة حميمة مع الكتاب الذي سيبقى معي ما بقيت، بينما غيره راحل لسبب أو آخر كعطب طارئ، أو اختراق متعمد، أو انتهاء صلاحيته وألقه، وخصوصًا في ظل ثقافة استهلاكية ضارة من كل النواحي، نكون نحن من ضمنها كادرها وزبائنها من غير إدراك.
إذن يتحمل مركز مصادر التعلم مسؤوليات جمة تحتم عليه إعادة التموضع بين الفينة والأخرى؛ ليأخذ دوره المعرفي الوازن في ظل المتغيرات المتسارعة في حوامل المعرفة وأوعيتها التي غزتنا بإرادتنا ومن غير إرادتنا، فينبغي أن نتلمس مواضع الاستفادة من التقنيات الحديثة بما يتوافق مع رؤانا لأقصى حد ممكن، وفي الوقت ذاته نحذر من مضار تلك التقنيات بدءا من طريقة عملها في بث محمولها وموادها، وانتهاء بتغير طريقة استقبالنا له ونتائجها.
د. عبّاس حسن القصاب / رئيس جمعية المكتبات والمعلومات البحرينية

المصدر: صحيفة الأيام البحرينية

إقرأ أيضاً:

الجهل اختيار لا قدر!

«الجهل اختيار لا قدر» هى عبارة فلسفية أكثر منها نظرية من نظريات علم الاجتماع، حيث أنه مخالف للطبيعة البشرية التى تميل بفطرتها إلى حب البحث عن المعلومة. ويعد هذا من الغرائز الطبيعية للإنسان فى المطلق، ويعتبرون أن البحث عن المعرفة يؤكد معتقداتهم بأنهم على قيد الحياة، فكيف يختار الإنسان شيئا مخالفا لطبيعته وهو الجهل؟، ويعتقد كثير من المتابعين لحياة الأفراد فى المجتمعات غير الديمقراطية أن الذين يعيشون فيها يتجنبون عدم المعرفة، من ثم يحاسب الفرد فى تلك المجتمعات على ذاته، كما أن الجهل لهؤلاء الأفراد هو أسهل الطرق وأسرعها التى لا تحتاج إلى جهد أو تفكير، بذلك يختار الفرد اختيار الجهل بأى شىء وكل شىء، كما أن الجهل لدى أصحاب تلك المجتمعات يعد طريق هروب من المسئولية يجعلهم يرفضون التعليم أو المعرفة، وهو المعوق الطبيعى للمعرفة، من ثم يمكن أن يطلق على هذا الجهل «الجهل الجماعى» ظناً منهم أنه طريق السلامة، ومن ثم تجدهم يختارون بأنفسهم الجهل اختيارا وليس قدرا مفروضا عليهم، وذلك إذا جلسوا أمام رؤسائهم لا يحاورونهم حتى لو كانوا يعلمون حقيقة الذى يقال أمامهم، تاركين لهم حرية الادعاء بالمعرفة والعلم فى كل شىء، فهذا أثر من آثار اختيارهم للجهل لينقذهم من هؤلاء المدعين.

 

 

مقالات مشابهة

  • الفجيرة عضو في شبكة «اليونسكو» العالمية لمدن التعلّم
  • أحمد عبد القادر ميدو: الدولة المصرية الحديثة اتبنت في عهد الرئيس السيسي بمشاريع عملاقة
  • الجهل اختيار لا قدر!
  • تعليم التفكير في العصر الرقمي.. تحدٍّ تربوي في مواجهة الذكاء الاصطناعي
  • الاقتباس العلمي.. حين يصبح النقل صناعة معرفية
  • جولة تفقدية لنائب رئيس الجامعة للشئون الأكاديمية بجامعة الإسماعيلية الجديدة الأهلية للتعريف بالخدمات الطبية ودعم سير العملية التعليمية
  • هيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة تنفّذ برنامجًا تدريبيًا حول التقنيات الحديثة والتصميم الإبداعي في الصناعات الحرفية بمسندم
  • بأحدث التقنيات.. الجامعة الإسلامية تعلن برنامج ماجستير علوم الفيزياء
  • رئيس جامعة المنصورة يهنئ بالانضمام للشبكة العالمية لمدن التعلّم باليونسكو
  • كاسبرسكي: فجوة معرفية خطيرة تهدد أمن المؤسسات في مصر بسبب ضعف تدريب الموظفين