أثير- مكتب أثير في تونس
قراءة: محمد الهادي الجزيري

ماذا يريد منّي أنيس الرافعي ..؟، هو مبدع خلاّق لا شكّ في ذلك ..ولكن عليه أن يساعدني لأتبعه في أدغال نصوصه المتداخلة المربكة المجنونة الصادمة ..إلخ، كالعادة طلبت نسختي الالكترونية منه ..، فلبّى الطلب ووجدتني وجها لوجه مع ” جميعهم يتكلّمون من فمي ” وانطلقت في سبر هؤلاء الذين يتكلّمون من فمه .

.وهم كثر وبلا عدد ..، ووجدتني غير مدرك لما يدور حولي أو حوله ، إنّ هذا المتن النفسيّ الداخليّ لا يخرج عن طريق أنيس الرافعي الذي يكتب كلّ ما يفكّر فيه ..، يكتب ما يقرأه بشكل مثير ومغاير لأغلب الكتّاب الذين ينسخون ما يجدون دون فهم ولا دراسة أو بحث ..، هذا بصراحة ما أحسّ به وأنا أطّلع على نصوص هذا المبدع المغربي ..والحقّ يقال أحيانا ..لقد أمسى كاتبا عالميا لجمال أسلوبه وسلوكه لغير الطريق المعبدة ..فهو لذلك حصد الجوائز من كلّ جهة ..، على كلّ أمرّ إلى سبر كتابه الجديد : جميعهم يتكلّمون من فمي ……..
في أوّل عناق لنا لسرد هذا الفتى الكبير ..، نجلس تحت ” مظلة تحضير الأرواح ..” ونعيش في مناخات صوفية حين يتلبّس الساحر المغربي بروح وجسد المحبوبة ..بل يصدر منه صوتها ..حيث تسمعها من فم الساحر العجيب :
” لا تصدّق وساوسك، فأنا لا أعشق سواك ”
ثمّ ندخل إلى ” أكاديمية الجن ” ونتبع أنيس الرافعي الذي لا أدري ماذا يفعل كي نتبعه داخل هذه الأدغال ..، يقول أنّه بعد سفر فوهن فذهاب إلى الحمام ..، فسنة من النوم ..، رأى فيها أنّه تلميذ نجيب من الجنّ ..، ثمّ ارتداء ملابسه وخروجه من الحمام حيث رأى نفس الشخص الذي شاهده أو خيّل إليه أنّه لمحه ..:

” حتّى وجدت صاحب جديلة الشعر الطويلة ، الذي تطلّع إليّ لحظتها مبتسما، كاشفا من وراء ظهره، دون قصد منه ، بعض ريش أجنحته المخبأة “

أمّا في ” حديقة المجهول ” فثمة احتفاء بشخصية مغربية في عالم الثقافة والأدب ..، هو السيد عبد الفتاح كيليطو ..، الذي تعلّمت منه عن بعد فهم الأدب والحياة ..وذاك حديث طويل، المهمّ أنّ الكاتب يفعل ما يريد داخل نصّه ..، فقد أخذه معه في سفرة إلى ” الحديقة المجهولة ” حيث يكرمه ويبجله ويعرضه على قضاة ليُسأل أسئلة عن ” جدل اللغات ، الماضي حاضرا ، جذور السرد ، حمّالو الحكاية ، ومرايا ” ومن الواضح أنّها تعلّة لأنيس الرافعي للاحتفاء برجل قدّم الكثير للأدب العربي ..، تجوّل معه وشطح شطحات أنيس كلّما كان في حضرة مبدع وقامة كبيرة ..

أمرّ الآن على باب ” العجلة المعكوسة ” ملتفتا إليّ وليس لبداية الكون ..والانفجار العظيم منذ ما يناهز أربعة عشر مليار سنة ..، وأقف أمام باب ” الحصوات الملساء ”
ففي هذا النصّ تطرّقٌ للحديث عن شركة عابرة للقارات خاصّة بالسفر داخل الزمن، أو السفر من الزمن الضيّق إلى الزمن اللامقيّد ، وأجمل ما شدّني في هذه التهويمة الرافعية ذكره لوالديه الذيْن يكنّ لهما الحبّ الصافي :
” أرنو إلى يومية ورقية مثّبتة على الجدار تعود إلى العام 1976 ، لمحت وجوها متعاقبة لأشخاص من معارفي، وجيراني، وعائلتي، وأصدقائي، ممّن قضوا نحبهم منذ فترات قصيرة أو طويلة، كما أبصرت رجلا وامرأة في مقتبل العمر كانا يحدّقان إليّ بفرح وحنان غامريْن، فأدركت بعد ومضة دهشة خاطفة، أنّها والدايّ قبل أن يرزقان على الأرجح …”
مازلت في مفتتح هذا الأثر الصادر حديثا ..ولم أدخل إلا مشارفه ..بل لم أشهد غرفه ودهاليزه ..ولم أقل شيئا لهذا الرجل الذي يتجوّل بي ضاحكا مشيرا إلى النفس العميقة … كلما تورطت فيه .. ، ولم أدر كيف تجاوزت في كتابة هذا المقال الإخباري ..الحدّ المسموح به ..، سأواصل القراءة بمفردي وأدعو كلّ محبّي الأدب الصافي ، الأدب الذي لا يُقرأ قبل النوم لاستدراجه ..فهو منبّه ومربك وجميل ..، ولكن قبل أن أودّعكم أترككم مع هذه الفقرة الملخصة للكتاب الجيد لأنيس الرافعي ( جميعهم يتكلّمون من فمي ) :


” يخوض الكاتب والقاص المغربيّ أنيس الرّافعي تجربة سرديّة مختلفة وغير مسبوقة في مشروعه الجماليّ الممتدّ ، هي عبارة عن بحث قصصيّ في غياهب الشامانيّة الجديدة ، و متاهاتها المتشعّبة، وطقوسها الملغزة..، فعلى امتداد 21 نصّا ، و 21 صورة تمثّل “معرض الشامان” الموازي أو الافتراضيّ ، يجد القارئ نفسه منخرطا في رحلة عكسيّة مثيرة من المستقبل البعيد إلى الماضي السحيق ، من أجل اكتشاف الأسطوريات المستحدثة للفكر السحريّ الإحيائيّ، و الشامانيات المعاصرة التي تخترق بنيات مجتمعاتنا العربية الحديثة و ذهنياتها اللاّواعيّة..”

.

المصدر: صحيفة أثير

إقرأ أيضاً:

العراق بين الأوراق المعطلة والفرص الضائعة: قراءة استراتيجية

27 مايو، 2025

بغداد/المسلة: ناجي الغزي

تواجه الدولة العراقية منذ 2003 أزمة عميقة في الهوية السياسية، وبنية النظام، وآليات اتخاذ القرار. ومع تصاعد التحولات الإقليمية والدولية وتكريس موازين قوى جديدة، تتجدد الأسئلة حول قدرة العراق على أن يكون لاعباً فاعلاً، لا مجرد ساحة لتقاطع المشاريع. تحليل الخطابات الواردة يكشف عن سلسلة من الإخفاقات البنيوية للنخبة الحاكمة، ومأزق العلاقة بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان، وتفكك القرار الوطني، في وقت تنشط فيه قوى إقليمية ودولية لرسم خرائط النفوذ عبر الاستثمار في الطاقة والجغرافيا.

أولاً: معادلة كردستان الجديدة

أبرز ما يميّز موقف إقليم كردستان اليوم، هو أنه اختار التموضع خارج الإطار المهتز للحكومة الاتحادية. لا يعود هذا فقط إلى صراعات سياسية تقليدية، بل إلى قناعة استراتيجية بأن بغداد باتت تمثل الطرف الخاسر في معادلة إقليمية ودولية، عاجزة عن استيعاب التحولات الكبرى بعد الحرب في أوكرانيا، وبعد إعادة تعريف واشنطن لمفهوم “الأمن القومي الخليجي”.
التوجه الكردي نحو توقيع صفقات نفطية بقيمة تتجاوز 100 مليار دولار لا يمكن فصله عن مظلة الحماية الأمريكية، وإدراك الإقليم لغياب مشروع وطني شامل يضم العرب والكرد والشيعة والسنة. إن الترجل من “التحالف المنهك” لا يُعد خيانة للوطنية، من وجهة نظر كردية، بقدر ما يعكس عقلانية سياسية في لحظة تاريخية تتطلب التموضع مع “الطرف المنتصر”. هذا الطرح هو جزء من قراءة سياسية كردية للمشهد الإقليمي والداخلي في آن واحد.

ثانياً: الفيدرالية المعطلة وعجز النخبة السياسية

العراق بموجب الدستور، دولة اتحادية فدرالية. ولكنّ النخبة السياسية فشلت في تجسيد هذه الفدرالية على أرض الواقع، مما دفع الولايات المتحدة، بصفتها “حاملة القلم” وصاحبة الحق في تصحيح المسار السياسي (وفق نظرية “هولدرن”)، إلى التحرك غير المباشر لفرض الأمر الواقع من خلال دعم صفقات الإقليم.
غياب قانون النفط والغاز، وتمسك الأحزاب بثروات المناطق كأداة لفرض الولاء، يمثل شكلاً من أشكال “الإكراه السياسي الإيجابي”، حيث يُقيّد الأفراد عبر الامتيازات، بدلاً من فرض السلاح عليهم. هذا التعطيل لمفهوم الفيدرالية دفع القوى الفاعلة إلى التعامل مع الإقليم ككيان سياسي – اقتصادي منفصل.

ثالثًا: التوازنات الإقليمية والاستثمار كأداة نفوذ

تشير الاستثمارات الإماراتية، تحديداً في مناطق كالسليمانية، إلى مشروع إقليمي اقتصادي يتجاوز الجغرافيا العراقية، ويرتبط بخط أنابيب طاقة يمتد من كردستان العراق إلى كردستان سوريا، وصولًا إلى حوض شرق المتوسط. هذا المسار يعيد تعريف الجغرافيا كساحة صراع بين مشاريع الطاقة والنفوذ، ويضع كردستان في قلب الترتيبات الجديدة، لا بغداد.
الإمارات، بتكليف أمريكي، تتولى الدور الاقتصادي في مشروع إعادة هيكلة المنطقة، بينما تلعب السعودية الدور السياسي. ويتم العمل على دمج سوريا تدريجياً في منظومة أمن الطاقة الإقليمي كبديل جغرافي عن أوكرانيا التي خسرتها أوروبا في معادلة “نورد ستريم”.

رابعاً: مأزق القرار السياسي في بغداد

بالمقابل، تعاني بغداد من انقسام مراكز القرار، وتعدد المرجعيات داخل المكوّن الواحد، خصوصاً الشيعي. رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، رغم إبداء الرغبة في الاستثمار وتحريك الاقتصاد، ولكنه لا يملك تفويضاً استراتيجياً موحداً من قبل المكونات السياسية، ما يضعف قدرته على مواجهة المشاريع الإقليمية أو حتى الدفاع عن السيادة الاقتصادية.
مثال ذلك، شيطنة الاستثمارات السعودية والأمريكية، رغم الحاجة الملحّة لها وللاستثمارات الاجنبية في البلاد، وذلك بسبب ضغط أطراف سياسية ترى في هذه الشراكات تهديداً لنفوذها المرتبط بمحاور إقليمية. هذا أدى إلى إجهاض فرص كبيرة للنهوض الاقتصادي، ومنع بغداد من لعب دور سياسي براغماتي إقليمي يتناسب مع إمكاناتها وموقعها الجيوسياسي.

خامساً: غياب المشروع الوطني وصراع الشرعيات

المفارقة المؤلمة أن العراق يمتلك أوراقاً مهمة: جغرافيا استراتيجية، ثروات هائلة، قدرات بشرية، عمق حضاري، لكنه لا يمتلك مشروعاً وطنياً يجمع بين الأطراف، ولا شرعية موحّدة للقرار السياسي. هذا يفسر لماذا تُعتبر قرارات دول كقطر – رغم صغر حجمها – أكثر تأثيراً وموثوقية من قرارات بغداد.
القمة العربية الأخيرة كشفت حدود القدرة التمثيلية للعراق. ورغم نوايا السوداني لإظهار بغداد كقوة إقليمية، إلا أن الانقسام الداخلي وغياب القرار الموحد جعل الحضور شكلياً، لا فاعلاً.

سادساً: ما العمل؟

المعادلة واضحة: العراق في طريقه إلى خسارة المزيد من الفرص ما لم يُحسم الجدل الداخلي حول هوية الدولة، وشكل النظام، ومصدر الشرعية. على النخب السياسية أن تعترف بفشلها في إدارة التعددية، وتبني مشروعاً سياسياً جديداً يعيد بناء الدولة على أسس واقعية.
كما أن الولايات المتحدة لن تتخلى عن العراق، لكنها ستعيد تعريف شكل تدخلها وفق مصالحها الاستراتيجية، وموازين القوى الإقليمية. ومَن لا يمتلك مشروعاً واضحاً، سيجد نفسه خارج الحسابات. في هذا السياق، لا بد من التحوّل من حالة “رد الفعل” إلى “صناعة الفعل”، وإعادة تموضع العراق كفاعل جيوسياسي، لا مجرد ساحة.

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author moh moh

See author's posts

مقالات مشابهة

  • قراءة في ،،،، خطّة المليشيا للسيطرة على العاصمة
  • أنيس بوجلبان: بيراميدز الأقرب للفوز بدوري أبطال أفريقيا على حساب صنداونز
  • الدكتور خالد الشمري يقدم في منتدى”العصرية الثقافي” قراءة معمقة في المشهد الاقتصادي العراقي
  • العراق بين الأوراق المعطلة والفرص الضائعة: قراءة استراتيجية
  • ما حكم قراءة الأبراج ومتابعتها؟.. الإفتاء تجيب
  • بين التمرد والتجريد: قراءة نقدية لمقال خالد كودي عن ظاهرة القونات
  • ضيف غير متوقع.. “عفريت الغبار” يسرق الأضواء في أحدث سيلفي لمركبة ناسا على المريخ
  • قراءة وتعليق في قانون اللجوء المصري (٢)
  • الجيش الإسرائيلي يوسع عملية “عربات جدعون” ويستقدم جميع ألوية المشاة والمدرعات إلى غزة
  • هل تجوز قراءة سورة يس بنية قضاء الحاجات وتيسير الأمور؟.. الأزهر يُجيب