بين التمرد والتجريد: قراءة نقدية لمقال خالد كودي عن ظاهرة القونات
تاريخ النشر: 27th, May 2025 GMT
بين التمرد والتجريد: قراءة نقدية لمقال خالد كودي عن ظاهرة القونات
راني السماني
(من سلسلة: تفكيك الظاهرة- القونات، تمرد مُعلَن أم توظيف مُبطّن؟)
في مقاله الممتد بعنوان “بين الطار والعار: القونات يقئن الحمل على صلف النخب عند عتبات الخراب السوداني”، يقدم الأستاذ والفنان التشكيلي خالد كودي دفاعاً صريحاً وواسع النطاق عن ظاهرة “القونات”، بوصفها تمرداً فنياً أصيلاً، وساحة احتجاج جمالي على أنقاض الوطن المكسور، ويُلبسها أردية الهامش والمقاومة، ويضعها في قلب اشتباك جمالي مع النخبة، كما يُحمّلها أبعاداً احتجاجية تتجاوز المحلي، لتتصل بسرديات التمرد العالمي:من الدادائية إلى الهيب هوب، ومن الريغي إلي البوتو، بل ويضعها على تماس مع حلقات الذكر.
يُعيد كودي تموضع “القونة” لا كمجرد مؤدّية، بل كرمز مقاوم.
يكسوها لغة شعرية وفضاءً تمثيلياً كثيف الدلالات، كأنها تنهض من تحت الركام لتعيد للهوامش لغتها الخاصة، وللجسد دوره في مواجهة السلطة.
الطرح جريء، مشغول بهمّ إعادة الاعتبار لجماليات مُهمّشة، ومكتوب بلغة نَفَسية، مشبعة بالمجاز والانفعال الجمالي.
لكنه، برغم زخمه، يُطل برأسه من مرآة ضبابية: نلمح من خلاله صوراً لامعة، ولكننا لا نُمسك تماماً بالبُنية التي تربط تلك الصور، ولا بالسياق السوداني الذي يُفترض أن يحتضنها.
تمجيد الجسد أم تفكيك السلطة؟في رغبته الواضحة والمشروعة لهدم خطاب النخبة المُحافِظة، يكاد كودي يُبرّئ الظاهرة برمّتها من أي مساءلة.
فكل انتقاد يُقرأ كتواطؤ برجوازي، وكل تحفظ يُفكك كامتداد أخلاقي سلطوي، وكل أداء جسدي يُستقبل كنص احتجاجي.
لكن هل يمكن للرمز أن يعفي الظاهرة من المراجعة؟
هل يُغني الاحتجاج وحده عن وجود رؤية متماسكة؟
وهل يقف الجسد وحده شاهداً دون خطاب يرفده، ومشروع يُنظّمه، ومرجعية تُنقّيه من التوظيف؟
تلك أسئلة لا يُجيب عليها المقال صراحة، لكنها تلوح من بين سطوره، كإيقاع خفي في نصّ يحتفي بالمخاطرة.
عن المقارنة القلقة: من “الدادائية” إلى “الزنق”يربط المقال بين “فن القونات” وحركات احتجاجية كونية، وهو ربط يُحسب له من حيث الجرأة، لكنه يحتاج إلى عناية أكبر بالسياقات.
فهل يمكن فعلاً مقارنة ظاهرة سريعة التشكل، تنتج أحياناً في مناخ ترندات متقلبة، بحركات نشأت من معسكرات اللجوء، أو من جحيم الحرب العالمية، أو من شوارع السود الأميركيين المحاصرين بالقمع؟
قد تتقاطع الظواهر في الشكل، في الجسد، في الصوت، لكن السياقات لا تتشابه:
لا من حيث البنية الطبقية،
ولا الخلفية السياسية،
ولا أدوات الإنتاج الفني نفسها.
وهنا، لا نرفض المقارنة، ولكننا نُشير إلى الحاجة لتثبيت الفروق، كي لا تنقلب رمزية “القونة” إلى صورة جاهزة، تُعلّق على كل ثورة، وتُعلّب في كل مشهد احتجاجي دون تفصيل.
غياب المشروع الجمالي: سؤال لم يُطرح بعدفي خضم الاحتفاء بالشكل، لا نجد في المقال كثير تأمل في المضمون:
ما هو مشروع القونات فعلياً؟
ما مضامين أغانيهن؟
ما لغتهن الفنية؟
ما أدواتهن الجمالية؟
هل نحن أمام حركة تحمل خطاباً تحويلياً، أم مجرد تكرار جاذب لشكل اختُبر في أماكن أخرى؟
ربما لا يسعى المقال إلى الإجابة عن هذه الأسئلة، وربما أراد أن يفتح الباب فقط، لا أن يُغلقه بإجابات حاسمة.
لكن مع ذلك، فالقارئ يخرج وفي قلبه فراغ صغير، يتساءل فيه:
من أين يبدأ الفن؟ من الشكل أم من الموقف؟
عن النخبة: هل كل نقد خيانة؟
المقال يعامل “النخبة” بوصفها جداراً واحداً، لكنه لا يُفكّك مكوناتها.
فيتساوى من صمت مع من قاوم، ويُدان من انتقد دون أن يُمنح فرصة التوضيح.
والحال أن النخبة في السودان، كما في أي مكان، متباينة:
هناك من غطّى القمع بشهادته،
وهناك من غنّى للمعتقل،
وهناك من صمت، وهناك من قاوم بالكلمة والموقف.
لهذا، يحتاج نقد النخبة، كي يكون عادلاً، أن يكون تفكيكياً لا تبسيطياً.
أن يفرّق بين الحارس والساكت، بين المتواطئ والمتحفّظ، بين من باع ومن انسحب ليحفظ ما تبقى من كرامته.
خاتمة: تمهيد لسؤال أعمقلا يسعى هذا المقال إلى الردّ أو النفي، بل إلى فتح أبواب قراءة موازية، تُضيء ما غاب، وتضع بعض إشارات استفهام على خريطة كودي الثريّة.
وربما نحتاج، بعد هذا التقديم، إلى تفكيك أعمق للغة المقال، لمقولاته، لافتراضاته الجمالية والسياسية، وهو ما سيأتي لاحقاً في مقال منفصل، بعنوان:
بين الاحتجاج والتسليع
رد نقدي على مقال خالد كودي:”.
وما بين التمجيد والرفض، تبقى المساحة الرمادية هي الأكثر حاجةً للضوء.
مايو 2025
الوسومالحرب العالمية الزنق السودان القونات خالد كودي راني السماني معسكرات اللجوءالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الحرب العالمية الزنق السودان القونات معسكرات اللجوء
إقرأ أيضاً:
رئيس المعاهد الأزهرية: التنمية الذهنية ضرورة ملحة لبناء أجيال قادرة على التفكير المنهجي
أكد الشيخ أيمن عبد الغني، رئيس قطاع المعاهد الأزهرية، اليوم الثلاثاء، أن التنمية الذهنية ليست رفاهية، بل ضرورة ملحة لبناء أجيال قادرة على التفكير المنهجي، واتخاذ القرارات، وحل المشكلات بكفاءة، مشيرًا إلى أن هذه الرؤية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بدعوة الإسلام للتفكر والتدبر، وهي ركيزة أساسية في منظومة التعليم الحديثة.
وأضاف خلال كلمته في ختام فعاليات برنامج إعداد مدربي التنمية الذهنية للنشء، الذي نظمه قطاع المعاهد الأزهرية بالتعاون مع الاتحاد المصري للتنمية الذهنية للنشء بمركز الأزهر للمؤتمرات، أن البرنامج يُعد ثمرة تعاون مثمر يعكس إيمان الأزهر بأهمية بناء العقول قبل الأجساد، لافتًا إلى أن البرنامج شهد مشاركة 270 معلمًا ومعلمة من مختلف المناطق الأزهرية، وتضمن 8 محاضرات عن بُعد، و4 ساعات من ورش العمل التطبيقية، ركزت على رياضتين ذهنيتين مهمتين، هما العداد والأيروبيك العقلي، بإشراف نخبة من المحاضرين الدوليين المتخصصين.
وأشار إلى أن رياضات العقل، مثل العداد والأيروبيك الذهني، أثبتت فاعليتها العلمية في تنمية الذاكرة، وزيادة التركيز، وتعزيز القدرة على التحليل السريع، وهي مهارات حيوية يحتاجها طالب العلم اليوم ليكون منافسًا في ميادين العلم والعمل محليًا ودوليًا. واستشهد بقول الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190]، وبقول نبينا محمد ﷺ: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، موضحًا أن العلماء فسروا القلب بأنه مركز التفكير والإدراك، وأن صلاحه يعتمد على صقل الذهن والروح معًا.
وأكد أن من أعظم مقاصد البرنامج نقل أثر التدريب إلى الميدان التربوي، بحيث لا يقتصر ما تلقاه المدربون على العلم المحفوظ، بل يتحول إلى علم معمول به يُحدث أثرًا ملموسًا في سلوك الطلاب وتنمية مهاراتهم وتفجير طاقاتهم الكامنة. وأوضح أن المعلمين المؤهلين في هذا البرنامج هم سفراء التنمية الذهنية في معاهدهم، وتقع عليهم مسؤولية تطبيق ما تعلموه ونقل خبراتهم إلى زملائهم وطلابهم، لإحداث تحول حقيقي في بيئة التعلم الأزهري قائم على الإبداع والتحفيز والمنافسة الإيجابية.
وأضاف أن الطالب الذي يُتاح له ممارسة هذه الرياضات الذهنية يكتسب قدرة أكبر على التركيز، وثقة أعلى بالنفس، وتعلقًا أعمق بالعلم والمعرفة، مما يجعله أقرب إلى النموذج المأمول للطالب الأزهري: طالب مفكر، متزن، مبدع، مرتبط بدينه وهويته، ومستعد لصناعة مستقبل أمته.
واختتم كلمته بالتوجه بالشكر والتقدير إلى الاتحاد المصري للتنمية الذهنية للنشء على جهودهم الصادقة وتعاونهم البناء، موجهًا الشكر أيضًا إلى المحاضرين الدوليين الذين أثروا البرنامج بخبراتهم، معربًا عن دعائه بأن يبارك الله في جهود القائمين على البرنامج، وأن يعين المعلمين والمعلمات على أداء رسالتهم في إعداد جيل أزهري واعٍ، ذكي، ومستنير، يجمع بين العلم والعمل، والعقل والقلب، والدين والدنيا.