كنا في تجمّع في أحد مقاهي مسقط الجميلة، حين قرّر البعض منا تناول العشاء، اخترنا طبق سوشي، وكعادة العمانيين فقد دعونا الحاضرات لمشاركتنا الوجبة، لكن كانت النظرات وحدها تجيب بأن قبول الدعوة ليس واردا، حاولنا إقناع امرأتين ممن لم يسبق لهما تجربة الوجبة قبل ذلك، لكن الرفض كان حاسما، وبعد محاولات عدة استطعنا إقناع إحدى المرأتين بالتجربة، فيما استمرت الأخرى بالرفض.
اللقاء كان عبارة عن تجمّع لمجموعة تشترك في جلسات تغيير أسبوعية، لهذا كنا نصر على المرأتين بالتجربة، بعد يومين تفاجأنا بالمرأة التي جرّبت الوجبة ترسل لنا في مجموعة (الواتساب) صورة لها ووالدتها من المطعم ذاته، فقد عادت بوالدتها للتجربة. استوقفني الموضوع كثيرا، خاصة أن كل نقاشاتنا السابقة طوال الشهور الماضية كانت حول التغيير، والذي يتطلب المبادرة وأخذ زمام الأمور والتغلب على العادات، المدهش أن كثيرا من القوانين التي نضعها لأنفسنا جاءت من معتقدات تبنّيناها ولم نجرّبها ربما بأنفسنا، يذهلني في مثل هذه المواقف قوة العقل الذي يركب تجربة متكاملة من الخيال وحده، فلم يسبق لكلتا المرأتين تجربة السوشي لكنهما تمكنتا من خلق نكهة ورائحة وملمس للوجبة بالخيال.
لا أقصد بكتابتي لهذا الموضوع تجربة السوشي بالطبع، أو أي شيء لا نحبه، لكن ما أريد قوله إنه يجب ألا نحرم أنفسنا من التجارب الجديدة التي قد تفتح لنا أبوابا من المتعة، وأحيانا كثيرة تلك الأبواب التي لا نطرقها هي التي تخفي وراءها مفتاح البهجة والنجاح الذي نسعى له.
الدرس الثاني الذي تعلمته من هذا اللقاء، هو فائدة الاختلاط بأناس من خارج دائرتك المألوفة؛ لأن أي لقاء مَهما كان عابرا سيعلمك أمرا لم تكن تعرفه، وسيفتح لك بابا لم تعرف حتى بوجوده يوصلك لمبتغاك، وقد ينبهك لممارسة خاطئة لم يجرؤ أحد ممن حولك أن ينبهك إليها.
شخصيا مع كل لقاء جديد تُفتح لي آفاق واسعة من التجربة والمعرفة والتمكين، لم أكن حتى لأتخيلها.
لذا جرب فالمتعة تكمن في التجربة، وخالط الناس فقد خلقت مخلوقا اجتماعيا لسبب.
حمدة الشامسية كاتبة عُمانية في القضايا الاجتماعية
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
التنين الصيني الذي يريد أن يبتلع أفريقيا
في منتصف تسعينات القرن المنصرم كان الباعة الصينيون يقفون قبالة الشوارع الرئيسية في العاصمة السودانية الخرطوم، يعرضون دهان الفيكس الرخيص بلا ثمن يذكر، حتى بدا وكأن ذلك نوع من التسول اللطيف، لكنهم في حقيقة الأمر كانوا مجرد طليعة كشفية لأنماط الثقافة الشرائية، هنا وفي معظم البلدان الإفريقية، أو بالأحرى مستعمرون جدد تزحف خلفهم مطامع اقتصادية بلا حدود.
وإن كانت تلك الشركات الصينية أمثال عمالقة النفط “سينوبك” و”كيونت” و”هاير” والمصانع المزدهرة في مقاطعة شاندونج وعلى ميناء غوانزو، وكذلك شركات الأسلحة والمسيّرات الصينية تستعمل استراتيجية تسويق عابرة للحدود، فإنها تسعى وبقوة لالتهام القارة السمراء بالكامل عما قريب.
على مدى أكثر من أربعة عقود تقريباً رقصت قاعة الشعب العظمى في بكين على وقع خطابات حكام الصين الشيوعيين، وكانت هذه الخطابات تترافق مع تصفيق مجازي للقائد ماو تسي تونغ، مدير الدفة العظيم، والملهم الأزلي للتجربة، وشيئاً فشيئاً فقدت قاعة الشعب بريقها الاشتراكي، ليظهر جيل جديد لا تستهويه الروح الأيديولوجية بأي حال، فكل ما يهمه الخروج إلى العالم وتأمين الازدهار الاقتصادي الكبير. كما لا يجب إغفال ملاحظات الاصلاحي دينغ زياوبينغ في بداية التسعينيات، حول عدم إمكانية الصينيين أن يصبحوا أثرياء جميعاً علامة سياسية مهمة، معتبرًا اللامساواة كثمن للتقدم، وقد أدرك دينغ أن القوة والثراء لا يتحدران ببساطة من داخل الحدود الوطنية للصين، فأطلق العنان لشركات بلاده لتقوم بالمهمة.
لبكين وبقايا مكونات الماركسية الماوية المحسنة أكثر من مدخل للتعامل مع الدول الإفريقية، فهى تختار صداقاتها بعناية، وتبني علاقتها مع دكتاتوريات قابضة، وعلى قطيعة مع العالم الليبرالي، مثل الرؤساء المتهمين بقمع المعارضة وانتهاك حقوق الإنسان، ضيوف محافل الإدانات السنوية في مجلس الأمن، وهؤلاء بالنسبة للصين صيد سهل التعامل معه. فهي من جهة تملك امتياز استخدام الفيتو لصالحهم، ومن جهة أخرى تمثل لهم طوق نجاة اقتصادي، فتنعم على الحكومات الإفريقية بالقروض الميسرة، والتسهيلات الائتمانية ومشروعات التنمية، من موانئ وسكك حديدية ومطارات، لكن ما هو المقابل؟
لا بد عن إلقاء نظرة قصيرة حول ما تقوم به الصين من نشاط اقتصادي هائل في أفريقيا. فهى تستثمر في كل شيء تقريبًا، وقد وصل حجم التبادل التجاري بينها والقارة الأفريقية نحو ثلاثمائة مليار دولار في العام 2015، فيما تمكنت المؤسسة الوطنية للنفط في الصين من امتلاك حصصٍ ضخمة في إفريقيا، تصل إلى 40% من مؤسسة النيل الأعظم للنفط، التابعة للحكومة السودانية، خلافاً لاستثمارات نفطية مُشابهة في جنوب أفريقيا، أثيوبيا، وأنغولا، وقد رفع منتدى التعاون الصيني الإفريقي الأخير وتيرة طموحات الرؤساء الأفارقة، والذين يواجهون مشاكل اقتصادية جمة، ولربما جعل منهم المنتدى منطلق لغزوات جديدة في أوطانهم، تعبر الصين فوق أحلامهم الصغيرة إلى حلمها الكبير.
إذًا وكما يبدو فإن الرباط الخانق الذي تضعه أمريكا والدول الأوربية حول رقاب الرؤساء الأفارقة، تحاول الصين بخبث حماية مدى إحكامه، دون تخليصهم منه نهائياً، حتى تحتفظ بهم تحت رحمتها، على الدوام، وفي حالة خوف ورغبة بالتنازل عن كل شيء مقابل الحُكم الأمن، وهنا يمكن للصين أن تحصل على ما تريد بسهولة.
بينما لا أحد يعلم بالضبط كم هى ديون الصين على الحكومة السودانية مثلاً، فالأرقام تتفاوت ما بين 5 إلى 7 مليار دولار، لكن ثمة جدل حول جدولة تلك الديون، وفشل في الإيفاء بها، أرغم حكومة الخرطوم للإذعان لكل شروط التسديد من جهة الصين، وذلك بعد زهاء عقود من التعاون الغامض، وابتداع آلية النفط مقابل المشروعات.
بمجازفة قليلة في الظن، يمكن القول أن تلك الديون مقصودة في حد ذاتها، وأن إغراق دول إفريقية بها هو هدف للوصول إلى هدف أكبر، غالباً بجعلها رهينة لإمداد نفطي دائم، وامتلاك أراضي استثمارية واسعة، قد تتحول بسببها إفريقيا في يوما ماء إلى أملاك إقطاعية خاصة بالتنين الصيني، أو مستعمرة تحت عيون الصين.
“العالم بأسره مسرح، وكل الرجال والنساء يؤدون دورهم فحسب” كانت تلك استعارة لائقة لشكسبير، ولكنها لن تحد من رغبة الصين في احتلال هذا المسرح الاقتصادي لأطوال فترة في المستقبل، وقد أدارت، أي الصين، عجزًا تجاريًا هائلاً مع الولايات المتحدة الأمريكية، ويبدو أنها تمتص بشراهة مواد أولية ونصف منجزة، وتركز بصورة أساسية على النفط والعقود الطويلة في إفريقيا والشرق الأوسط.
ذلك التوسع التجاري والسيطرة على اقتصاد العديد من الدول النامية، يمكن في يوماً ما أن يحول بكين إلى حلقة حاكمة في السياسة الدولية، وبينما تحدثت صحيفة “لوموند” الفرنسية قبل أعوام عن تجسس الصين على مقر الإتحاد الإفريقي لم تعبأ بكين بذلك ونفته، رغم أنه قد يكون صحيحاً، فهو أيضاً تسريب مفهوم في سياق التنافس الشره بين فرنسا والصين، وشعور الأولى بخسارات مستعمراتها القديمة من خلال الزحف الصيني عليها. لكنها مع ذلك لم تسفر الصين عن دوافع ظاهرة للهيمنة، فقط تسعى لتمكين شركاتها، وكل ما يهمها أن يتخلى أصدقائها الجدد عن تايوان، العدو اللدود، ولذا قطعت معظم الدول الإفريقية علاقتها بتايوان لضمان وصلها ببكين.
يحب القادة الأفارقة الصين، وتحبهم الصين بقسوة، فهي على الأقل لا تقض مضاجعهم بكوابيس مطالب “التداول السلمي للسُلطة”، كما أنها لا تبدو مشغولة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا تتدخل في شؤون الحكم والسياسات الداخلية، ما يعني أنها النموذج المريح للتعامل، والذي لا يكسر بخاطر أحد، ومن هنا تقريباً تخلقت وشائج المنافع المتبادلة، كلغة وحيدة للتفاهم.
ولعل الصين التي تعتمد على إفريقيا في توفير ثلث مواردها النفطية طرحت نفسها كعاشق بديل، يبذل في سبيل مصالحه كل ما يمكن أن يداوي جراح صندوق النقد الدولي، والعقوبات الأمريكية، وتحاول أيضاً أن تغطي على كوارث الاستعمار القديم، بما يمكن أن يمنح الشعوب الإفريقية شعوراً بالزهو والتحرر، ولتحقيق ذلك عاودت فتح ممرات طريق الحرير القديم عبر المحيطات، كما لو أنها تبحث عن سلالة مينغ التي تزاوجت مع قبائل إفريقية قبل مئات السنين.
من المهم إدراك أن أكثر ما ينمي مشاعر القلق أن أفريقيا أصبحت مكباً للبضائع الصينية الرديئة، بينما خطوط الإنتاج الأولى تبقى من نصيب شمال الكوكب، والتي تعبر بخفة مقاييس الجودة والمواصفات، حتى أنه يمكن لجهاز آلكتروني أن ينفق في يدك خلال ساعات، دون أن تتوقف عمليات الشراء. وتحولنا نتيجة لذلك إلى مستهلكين شرهين، نؤمن حاجة الصين إلى خطوط إنتاج جديدة وفرص عمل لشعبها كل يوم، دون أن نعبأ بخساراتنا المديدة، وهذا باختصار مزعج بعض ما يمكن أن يقال عن اللعبة الاقتصادية الصينية.
عزمي عبد الرازق