خرج نهاية الأسبوع الماضي مئات الآلاف إلى الشوارع في ألمانيا متظاهرين ضد اليمين، ومطالبين بحظر حزب «البديل من أجل ألمانيا». تأتي المظاهرات كردة فعل على تحقيق نشرته كوريكتف عن اجتماع ضم قوى يمينية ناقشت فيه خطة سرية لترحيل المهاجرين، والألمان ثنائيي المواطنة.

يرى المتظاهرون أن خطة طرد المهاجرين تمس بالقيم الألمانية، ويرون في نزولهم إلى الشارع دفاعا عن الديمقراطية وعن الدستور، حيث نقرأ في مقدمة التحقيق: «ما جرى تخطيطه هناك في نهاية الأسبوع تلك، هو هجوم على وجود البشر.

وهو ليس أدنى درجة في شيء من الهجوم على دستور جمهورية ألمانيا الاتحادية».

عدم دستورية هذه الخطة، يأتي -على الأغلب- من إلزام سلطة الدولة دستوريًا بالحفاظ على كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية من جهة، واحتضان اليمين لمعادي الديمقراطية من جهة أخرى.

أزمات السنوات الأخيرة (من جائحة كورونا إلى الحرب الروسية الأوكرانية التي رافقت ازديادًا في أسعار الطاقة والمواد الأساسية) التي تؤثر بشكل أقوى على ذوي الدخل المنخفض، ترافقت مع انزياح نحو اليمين خصوصًا وسط هذه الفئة. تفقد الفئات الأشد تضررًا ثقتها بمؤسسات الدولة وأداء الحكم الديمقراطي، وتتعاطف وتتماهى مع القومية الاستبدادية التي تعد بإصلاحات راديكالية فورية.

انزياح الوسط نحو اليمين يُقابل بتشاؤم خاص في ألمانيا التي لا تزال تتذكر الديكتاتورية النازية (1933 - 1945) التي ارتقت إلى السلطة ودُعمت من أفراد المجتمع في سيناريو تتوافق بداياته مع بعض الملامح من الوضع الحالي.

بالعودة إلى موضوعنا الأساسي، أريد بعد هذه المقدمة الطويلة أن أرصد وأتأمل معكم التضارب بين موقف المتظاهرين من الحزب المناهض للمهاجرين وموقفهم من المهاجرين أنفسهم عندما يُوضعون تحت الاختبار.

منذ أن بدأت الحرب على غزة، تخرج مظاهرات منددة بالاحتلال على نحو يومي تقريبًا. ومع نزول المتظاهرين ضد اليمين إلى الشارع، صار لدى المناصرين للقضية الفلسطينية (خصوصًا بعد كل ما لاقوه من عنصرية، ووحشية الشرطة) أكثر من سبب ليسيروا في هذه المظاهرات. لكن ارتداء الكوفيات ورفع الأعلام الفلسطينية جعلهم محل تحرش ومضايقات من قبل المتظاهرين الآخرين والشرطة، وفق شهادات تردنا تباعا عبر الشبكات الاجتماعية.

يبدو المشهد الغريب كالآتي: (1) ينزل المتظاهر ضد حزب البديل إلى الشارع مُنددا بخطة طرد المهاجرين، ومُدافعا عن حقهم في البقاء. (2) يتصرف المتظاهر نفسه بعدائية تجاه «بعض» المهاجرين، ويطالبهم بالعودة من حيث أتوا. يقول فلسطيني معلقا على نحو ساخر: إلى أين أعود وقد أعطيتم أرضي لسواي.

لا يُمكن للموقف أن يُقرأ سوى على أنه ينبع من إيمان بأن المهاجرين والنازحين من الحروب لا يملكون حقا متساويا في الحقوق الإنسانية الأساسية. ثمة اشتراطات يجب أن تتوفر في اللاجئ ليكون مستحقًا للحياة الكريمة (أو مجرد الحياة)، ومتى خالف تلك الاشتراطات تصبح دعاوى ترحيله مُبررة. هذا ينبع من إيمان بأن للدولة الحق في انتقاء من تنقذه ومن تدفعه للموت البطيء أو الفوري. يُنظر إلى استقبال اللاجئين إذن على أنه تفضّل وليس واجب، حتى وإن كانت الدولة المضيفة طرفا في الصراع، وسببا في الأزمة. يعني أيضا أن حياتك قد تتوقف على معتقدك وآرائك السياسية. هذا الموقف ليس مفاجئًا لنا بالطبع، بل إنه يُضاف لصف الحالات التي تؤكد لنا انعدام المساواة، الإسلاموفوبيا، والعربوفوبيا. إلا أن التناقض الفاضح في هذه المظاهرات هو ما يؤكد أن ما يعترض عليه المتظاهرون لا يخص اللاجئين بقدر ما يخص أمرًا آخر أقل إيثارًا. خوف من مستقبل تتأثر فيه جودة حياتهم هم أنفسهم. قد يكون اعتراضًا على معاداة الديمقراطية، حقوق المثليين، حقوق النساء (الإجهاض خصوصا). قد يكون أيضًا حساسية خاصة من «الخطط السرية» في بلاد تفخر بشفافية ونزاهة نظامها. أو ربما يكون فزعا من الوجه الفاضح للعنصرية كما يُقدمه اليمين. العنصرية التي تعمل المؤسسة البيضاء على إخفائها عبر طبقات التعقيد، والتجريد التي تحفظ لها فوقيتها وتفوقها، دون أن تستفز الشارع.

والسؤال الآن هو لماذا التشديد على شيء كهذا؟ ما الذي أستفيده من المحاججة بأن المليون الذي نزل للشارع لا يُحفزه الدفاع عن التنوع الإنساني والثقافي، بقدر ما يحفزه الفخر بقيم ألمانيا ما بعد النازية. أمر كهذا مهم لأن الجهاد لابد أن يتواصل ضد العنصرية واللامساواة، وأن انتفاضة الشارع الألماني لا يمكن أن تُقرأ على أنها تطمين للمهاجرين بأن حقوقهم محفوظة، أو أنها دفاع عن «وجود البشر». على العكس إنها دليل على التسامح مع بعض أوجه التنوع فالدونر، والكباب، والحمص مرحب بها في ألمانيا، أما الآراء السياسية، والقيم التي يأتي بها المهاجرون فلا مكان لها.

و«إن كنت ناسي أفكرك مرة بعد مرة»، بمناسبة أو بدون مناسبة، بحق العالم (كل العالم) في رفاه أوروبا الذي ما كان ليكون لولا الاستعباد، الاستعمار، والاستغلال، الذي تستمر بعض أشكاله إلى اليوم.

ملاحظة: عنوان المقال «لا دونر للنازيين» مقتبس من إحدى اللوائح المرفوعة خلال مظاهرات نهاية الأسبوع الفائت.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

«كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون»

من منا لم يخطئ يومًا في هذه الحياة؟ فالأخطاء جزء من طبيعتنا البشرية، نقع فيها أحيانًا عن قصدٍ وتعمد، وأحيانًا أخرى عن غير إدراك أو نية. يتعلّم الإنسان من زلاته إن أنصت لضميره، وراجع خطواته، وواجه نفسه بصدق. لكن المؤلم أن بعضنا يصرّ على الإنكار، يكذب على ذاته، ويقنع نفسه بأنه معصوم عن الخطأ، رغم أن داخله يصرخ بالحقيقة، ويعلم يقينًا أنه قد أذنب في حق غيره. وهنا يكون الفرق، فالصادق مع نفسه يراجعها، ويحاسبها قبل أن يُحاسب بين يدي الله، أما المكابر، فلا يزيده الإنكار إلا بعدًا عن التوبة والإصلاح.

البعض يتربص بالآخرين، ويغني بهفواتهم وأخطائهم، ويتلذذ بتمزيقهم بمشرط جراح تمددت أمامه جثة إنسان ضعيف، فالقوي لا يدرك بأنه يرتكب جريمة أخرى في حق نفسه قبل أن يرتكبها في حق الآخرين، وعندما ينتهي من جريمته بتجريح القلوب وإذلال النفوس يقول بأنها «وجهة نظر»!

أيها البشر، ترفقوا ببعضكم البعض، واعلموا بأن الوقوف على الأخطاء ليس معناه معاقبة الآخرين وجلدهم وتمزيق قلوبهم وجلب كل ما من شأنه إدخال التعاسة إلى نفوسهم، فبعض الأخطاء يمكن تصحيحها بسهولة دون أن تكبر دائرة الذنب أو ارتكاب أخطاء جديدة بحقهم، ليس هناك فينا من لا يخطئ، ولكن الله منحنا الفرص لكي نصلح ما أفسدناه، وإرجاع الأمور إلى نصابها الصحيح. الاعتراف بالخطأ ليس انهزامًا أو قلة حيلة كما يعتقد الجهلاء والسفهاء من الناس بل هو جزء من الشجاعة وحسن الخلق، فعندما نخطئ في حق أحد منا، لا ننتظر بأن يخاصمنا الآخر إلى «القضاء أو إلى الله» بل علينا أن نبادر ونسارع إلى تنظيف الجرح الذي أحدثناه، وذلك بالعمل على تطييب القلوب، فرب كلمة طيبة تزيح صخورًا ثقيلة على قارعة قلوب المظلومين. لا تظننّ أنك معصوم عن الخطأ، بل تمهّل قليلًا وتأمّل حديثك، وتصرفاتك، ونيّاتك، وتلك الوساوس الخفيّة التي يدفعك الشيطان بها نحو الزلل... ستجد إن كنت منصفًا مع نفسك أن هناك هفواتٍ قد خرجت منك، دون قصد أو بغير وعي، تحتاج منك إلى وقفة صادقة.

ابدأ بمواجهتها داخليًا، وصحّحها مع ذاتك أولًا، ثم بادر إلى تصويبها مع من تأذّى منك، حتى لا تُعيد الكرّة، ولا يتكرّر الخطأ؛ فالإصلاح الحقيقي يبدأ من الاعتراف، لا من الإنكار أو التبرير. ثق دائمًا بأن ساحات المعارك التي تدخلها مع الآخرين قد تخرج منها منتصرًا، بقدر ما يمكن أن تسبب لك في خسائر لن تلتفت إليها ساعة الذروة، ولكن ما أن تهدأ الأمور ستجد بأن ثمة جرحًا يدمي قلبك وعينك. نعم، الخطأ وارد في مسيرة الإنسان، فهو جزء من فطرته وضعفه، لكن الاستمرار في درب الخطيئة هو ما حذرنا منه المصطفى صلى الله عليه وسلم، إذ إن التمادي وعدم التراجع هو ما يثقل الميزان ويفسد القلوب. فمن الناس من لا يُلقي بالًا لما يصدر عنه من لغو أو أذى أو ظلم للآخرين، تغريه قوته، ويغلفه غرور المكانة، ويعميه الحسب والنسب عن التواضع والاعتراف بالزلات، فلا يُفكّر في التوبة، ولا يستشعر عِظم الخطأ الذي ارتكبه، كأن كبرياءه يمنعه من أن يطرق باب الله، متناسيًا أن التوبة شرف، والرجوع عن الذنب فضيلة، والاعتراف أول أبواب الرحمة.

كم من أناسٍ ترجلوا عن هذه الدنيا وقلوبهم مثقلة بالحزن، يعتصرها ألم الظلم الذي وقع عليهم، بينما الظالم يقف مزهوًا بقوته، وبقدرته على أن يحرز إنجازًا يعتقد بأنه مفخرة أمام الآخرين، لكنه يخطئ في هذا الظن، فالظلم ظلمات يوم القيامة. لذا، كلّما أخطأنا في حق أحد فلنُبادر إلى مراجعة أنفسنا، وإصلاح ما يمكن إصلاحه قبل أن يحين الأجل، فما أقسى أن نغادر هذه الحياة وحولنا دعاء مظلوم، أو عقوبة تنتظرنا في ميزان العدل الإلهي، فالحياة كما نراها كل يوم: «فرح هنا، وعزاء هناك»، والأرواح تسافر ولا تبقى في مكانها.

يجمع علماء الدين والفقهاء على أن «الظلم من أقبح الكبائر، وهو ظلمات يوم القيامة»، ودليلهم على ذلك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة»، وقال عليه الصلاة والسلام: يقول الله عز وجل: «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا»، ويقول في القرآن الكريم في سورة الفرقان: «وَمَن يَظْلِمْ مِنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا»، ويقول في سورة الشورى: «وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ»، إذن ليعرف الناس بأن الظلم شره عظيم، وعاقبته وخيمة، نسأل الله تعالى العفو والمغفرة. يسخّر الله تعالى لعباده من الأدوات والقدرات ما يعينهم في دروب الحياة، فيمنح بعضهم قوة في القول، وبأسًا في الفعل، وسلطة في التأثير، فمنهم من يهتدي بتلك النعمة، فيسخّرها في الخير، ويجعل منها بابًا للعون والإصلاح. لكن آخرين، للأسف، يوجهون هذه القوة نحو الأذى، ويتخذون من سلطانهم وسيلة للتسلّط على الخلق، خاصة إذا التفّ حولهم بطانة فاسدة، لا ترشدهم للحق، بل تزيّن لهم المعصية، وتدفعهم إلى ارتكاب الآثام؛ فيغرق في غياهب الغرور، وتبتعد روحه عن نور الهداية، وتغشى بصيرته غمامة لا تكشفها إلا صحوة متأخرة، أو حساب لا مفر منه.

مقالات مشابهة

  • هند صبري.. «صحفية»
  • المنتخب العراقي يلاعب نفسه تحضيراً لكوريا الجنوبية
  • «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون»
  • في نص الشارع .. تجديد حبس متحرش المطرية
  • أوروبا تنتفض لغزة: أكثر من 34 ألف فعالية تضامنية
  • خبير إستراتيجي: اليمين المتشدد لا يريد توقف حرب غزة
  • الحكومة الألمانية تفرض قيودا على لم شمل المهاجرين ومسار الحصول على الجنسية
  • ألمانيا تحرم المهاجرين إليها من حق لمّ الشمل
  • الدانمارك ثاني أسعد بلد يهجّر المهاجرين بقوة قانون الغيتو
  • إدارة ترامب تطلب من المحكمة العليا السماح بترحيل المهاجرين إلى دول ثالثة