البوابة نيوز:
2025-05-10@22:08:40 GMT

العرب والنموذج الأمريكى (3- 3)

تاريخ النشر: 1st, February 2024 GMT

إن أمريكا، وفقًا لأيديولوجيتها المعلنة صراحةً، لابد أن تكون أكثر المجتمعات مادية في عالمنا المعاصر. وليس هذا اتهامًا وإنما هو إقرار لحقيقة بسيطة واضحة. فحين تقول إن حافز الربح هو القوة الدافعة إلى العمل والابتكار، وحين تتهم خصومك بأنهم لا يعطون الإنسان فرصة كافية لكي يربح إلى أقصى مدى تسمح له به إمكاناته، يكون معنى ذلك أن فلسفتك مادية حتى النخاع، وأن تشدقك بحماية المعنويات والروحانيات ليس نفاقًا فحسب، بل تناقض صارخ يرفضه أبسط عقل منطقي.

إن الإنسان هناك لا يعمل إلا من أجل المزيد من المال، ومن الأرباح، ومن المستوى المادي المرتفع. وقد تكون هذه حقيقة من حقائق الحياة، وقد يكون هذا هو بالفعل أقوى الحوافز التي ثبت، حتى المرحلة الحالية من تاريخ البشر على الأقل، أنها هى التي تحرك الإنسان إلى الإنتاج وبذل الجهد، هذا كله جائز، ولكن ليست هذه هى القضية التي أناقشها، وإنما الذي أود أن أقوله ببساطة هو: إذا كنت من أنصار هذا الرأي فكيف تدَّعي أنك خصم للمادية، وكيف تنصِّب نفسك حاميًا للمعنويات وحارسًا لإنسانية الإنسان. (ص 25) 

        هذا التناقض يمثل، في رأيي خدعة ومن أحط الخدع الفكرية التي تتعرض لها شعوب العالَم الثالث. وعلينا أن ننتبه بكل وعي إلى هذه المغالطة في الوقت الذي يُطرَح فيه النموذج الأمريكي على الساحة العربية بقوة وإلحاح؛ ذلك لأن مجتمعاتنا ما زالت حريصة كل الحرص على وجود حد معين من القيم الإنسانية والمعنوية، وما زالت تؤمن بأن ما يُحرك الإنسان ليس الماديات وحدها (رغم اعترافنا بأهمية الماديات)، وبأن في الإنسان قوٍى تعلو على السعي المباشر إلى الكسب والاقتناء. فإذا إليها الدعاية الأمريكية على أنها هى التي ترعى هذا الجانب المعنوي في الإنسان، وإذا ظهر بيننا من يبدي إعجابه غير المحدود بالنموذج الأمريكي، فلنقل له: في استطاعتك أن تُعجب بنمط الحياة الأمريكية كما تشاء، ولكن عليك أن تعترف بأنك تسعى، في هذه الحالة، إلى إقامة مجتمع مادي بصورة صريحة مباشرة في صميم كيانه، وعليك في نهاية الأمر أن تتحمل العواقب اللإنسانية المترتبة على هذا الجري اللاهث وراء المادة، وهذا التجاهل التام للجانب المعنوي في الإنسان. (ص ص 25 – 26)         

           منذ الحرب العالمية الثانية دخلت أمريكا إلى المنطقة بكل ثقلها، وكان تحقيق الاستقلال الوطني من الاستعمار التقليدي من أهم العوامل التي ساعدتها على التغلغل السياسي في البلاد العربية، بل إنها في بعض الحالات ساعدت الدول العربية إيجابيًا على تحقيق استقلالها الوطني لكي تزيح الدول الاستعمارية القديمة وتفسح لنفسها مجال التغلغل في المنطقة بأشكال جديدة ولأهداف جديدة. (ص 27)

ولقد سعت أمريكا إلى التغلغل في المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن لماذا هذا السعي؟ إن السبب الذي يعرفه الجميع، بالطبع، هو البترول، الذي كان قد ظهر بالفعل في البلاد العربية قبل تلك الحرب، ولكن إمكاناته الهائلة في المنطقة العربية، ودوره الحيوي في مستقبل العالَم الصناعي، لم تظهر بوضوح إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وبعبارة أخرى فإن العوامل التي كانت تدفع الدول الاستعمارية التقليدية إلى احتلال أجزاء من الوطن العربي، كالموقع الجغرافي والسيطرة على طرق برية وبحرية حيوية.. إلخ، لم تعد تحتل المكان الأول في سياسة الدول الكبرى التي ورثت الاستعمار التقليدي (وإن كانت تلك العوامل قد ظلت تحتفظ بقدر غير قليل من أهميته)، وإنما حلت محلها الرغبة في السيطرة على موارد مادة حيوية بدونها يتوقف نبض الحياة في مصانع العالَم الغرب، ويوجد أهم مخزون عالمي منها في المنطقة العربية. (ص 28) 

على أن أمريكا، في سعيها إلى بلوغ هذا الهدف، كانت تحتاج إلى وسيلة تختلف عن الوسائل التقليدية التي كانت تلجأ إليها الدول الاستعمارية السابقة. وسرعان ما اهتدت إلى تلك الوسيلة بعد الحرب العالمية الثانية مباشرةً، عندما حللت الموقف في المنطقة العربية وظهرت لها الإمكانات الهائلة التي ينطوي عليها الطموح الصهيوني إلى إنشاء دولة إسرائيل على أرض فلسطين. وسرعان ما تبنت قضية الصهيونية، وساعدت بكل قوة إلى إقامة الدولة الإسرائيلية وعلى استمرار وجودها وتوسعها، متخذة من هذه الدولة أهم أداة لها من أجل تحقيق هدفها في السيطرة على المنطقة، وعلى مواردها. 

لابد لكل من يبهره النموذج الأمريكي، ويحلم بتحقيقه في بلده العربي، أن يواجه مشكلة أساسية، هى التوفيق بين إعجابه المفرط بأمريكا، وبين ما يعرفه عن الارتباط الوثيق بين أمريكا وإسرائيل. والذي يحدث عادةً هو أن المعجبين بأمريكا يصورون هذا الارتباط بصورة مشوهة، أو مخففة لا تعبر عن حقيقته، وإنما تعبر عن رغبتهم – الواعية أو غير الواعية – في الاحتفاظ بصورة نقية لأمريكا من جهة، مع عدم التفريط في موقفهم تجاه إسرائيل من جهة أخرى. وتدور هذه الصورة المُشوَّهة عادةً حول فكرة رئيسية، هى أن الارتباط بين أمريكا وإسرائيل مُؤقَّت، وأن في استطاعة العرب، لو أجادوا استخدام الأساليب السياسية والدبلوماسية، أن يفكُّوا هذا الارتباط، ويوجِّهوا السياسة الأمريكية نحو الانحياز لهم، وأن يضمنوا على الأقل وقوفها على الحياد، بحيث تتخذ في نهاية الأمر خطًّا متوازيًا بين الطرفين. إن كل من يختار صداقة أمريكا وتأييد اتجاهاتها العامة وترك المجال أمامها لكي تتغلغل استراتيجيًا واقتصاديًا في المنطقة لابد أن ينتهي به الأمر إلى موقف متهاون في قضية إسرائيل. وكل من يأخذ البديل الثاني مأخذ الجد، أعني من يريد الوقوف بحزم وصلابة في وجه الأطماع الصهيونية، لابد أن يصطدم بشكل أو بآخر بالمصالح الأمريكية، وأن يتخلَّى عن وهم الاستعانة بأمريكا من أجل زحزحة إسرائيل عن مواقفها. 

يقول فؤاد زكريا نصًا: «إنني أكاد أُجزم، عن طريق الاستنتاج وحده، بأنه يوجد في مكان ما من أدراج مكاتب صانعي السياسة الأمريكية، تقرير أو تخطيط استراتيجي أساسي وُضِعَ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، يوجه السياسة الأمريكية إلى تأييد قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وإلى تبني القضية الصهيونية، والاعتماد على إسرائيل بوصفها الركيزة الكبرى للسياسة الأمريكية في المنطقة».(ص 34) 

ونحن ندعم ونؤيد استنتاجات المفكر الكبير فؤاد زكريا، ونقول: إنها ليست مجرد استنتاجات، بل حقيقة واقعية أثبتتها المذابح التي يرتكبها الكيان الصهيوني بدعم ومشاركة من الولايات المتحدة الأمريكية من خلال كافة وسائل الدعم والمشاركة. إلى حد أن بايدن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية صرح علانيةً: «إن لم تكن إسرائيل موجودة لقمنا بصناعتها». 

* أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: أمريكا البلاد العربية الحرب العالمیة الثانیة فی المنطقة العربیة

إقرأ أيضاً:

هل المنطقة العربية تتغير فعلا أم هي الأماني؟

حرض هذا السؤال لدينا كثرة المبشرين بالتغيير في وسائل التواصل الاجتماعي، فقد سكنا في اليوتوب العربي زمنا كافيا لنتابع لساعات طويلة هذه البشائر الافتراضية حتى ظننا أن التغيير حصل فعلا. لقد حوّل بعض الإسلاميين بشارات الشيخ ياسين وتأملات الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل عن قرب زوال الكيان الصهيوني إلى علم صحيح، سينفذ بعد ساعات، بل استمعنا إلى إسلاميين يعتمدون نبوءات توراتية بقرب الزوال وعودة الإسلام العظيم. خارج هذه القنوات التي لم نعرف من أين تبث يقينها حدث أمران مهمان لا نرى أثرهما التغييري يقف عن جغرافيتهما الخاصة، وهما حرب الطوفان والثورة السورية التي غنمت دولتها حتى الآن. ولكن ما حال بقية المنطقة الممتدة بين محيطين؟ وما حال شعوبها، هل هي سائرة في طريق تغيير أم أنها تتمتع فقط بالحديث عنه مكتفية بتحويل التأملات إلى حقائق تريحها خلف حواسيبها؟

ميديا الوهم والإيهام

لم يزد الشيخان المذكوران على أن أوَّلا نصا قرآنيا في اتجاه يرغبانه والله أعلم بالسرائر، لذلك نحفظ لهما الاحترام ونقول لمن يبني على قولهما أوهامه الافتراضية ويستجدي المتابعة؛ توقف عن لهوك، فالإيهام بالتغيير ليس التغيير.

من هذا الابتذال المتفشي في السوشيال ميديا يَقِنَّا بأن التغيير لا يحصل على الأرض بل هو مشروع لا يزال بعيد المنال، لقد سهل النشر الافتراضي لعبة التعويض ومكّن كل كسول من بطولة
من هذا الابتذال المتفشي في السوشيال ميديا يَقِنَّا بأن التغيير لا يحصل على الأرض بل هو مشروع لا يزال بعيد المنال، لقد سهل النشر الافتراضي لعبة التعويض ومكّن كل كسول من بطولة (ومن سبوبة).

لقد أحدثت حرب الطوفان تغييرا في الواقع الفلسطيني فأنهت أخلاقيا وسياسيا حركة فتح كممثل شرعي وحيد وقطعت عاطفيا وعقليا مع أوسلو ومخرجاتها، وهي تعمل على إنهاء حالة الانقسام خارج المقاومة المسلحة. أهم مؤشر تغيير هو أن الفلسطيني عائد إلى سلاحه كحل أخير ووحيد (وليس هذا موضع الحديث عن الأثمان).

 بعد عشرين شهرا من حرب الطوفان يتابع العرب القتل اليومي ولا يحركون شوارعهم في المعركة. هذه علامة موات سياسي لا علامة تغيير. فعلى الورق مَثَلُ معركة الطوفان كَمَثَلِ تسونامي وقد سماها قائدها طوفانا أملا في تغيير لا يقف عن حدود مربعه الغزاوي، وكم أرسل من نداء نجدة فلم يُستجب له.

بلادة الشارع العربي إزاء غزة لا تتلاءم مع النبوءات الافتراضية، والانتصارات الافتراضية لا تعوض النجدة بل تؤدي إلى العكس تماما، إنها عملية تخذيل وتمييع إرادات. هل تعذر الشوارع بالقمع المسلط عليها؟ وأين القمع مما احتملت غزة خلال شهور؟

الشوارع العربية رفعت العتب ببعض الشعارات وهي تظن نفسها بمنجاة، وعجزها الحالي من جهلها العميق والعضوي بأهمية المعركة هناك على مصيرها حيث هي مطمئنة في أقطارها.

الشعوب العربية ونخبها القائدة قبلت بأنظمتها القُطرية وسلّمت لها قيادها وتعارضها -إذا فعلت- من أجل خبزها القُطري، أما المعركة القومية التي تنتج تغييرا في أمة فليست على جدول أعمالها ولا ترغب بها. لقد استقر النظام العربي بكل عاهاته، لذلك فوهم التغيير أعلاه يدخل في باب الإيهام. لنتأمل فقط ثورة الربيع العربي، لقد أوشكت أن تغير المنطقة لكن الجميع (نخبا وشعوبا) قدر كلفة التغيير وارتد عنها. لنقلها بصوت عال، ليس عباس وحده من وصف المقاومة بأولاد الكلب، لقد سمعناها في تونس بعبارات أكثر سوقية.

شوشت معركة الطوفان طمأنينة العرب فلا تغيير ننتظر رغم البشارات، هنا تصير عندي منشورات اليوتيوب مشبوهة وممولة لغاية تغيير في الحواسيب لا في الشوارع.

ثورة سوريا حدث محلي

سقوط نظام البعث في سوريا بعد نصف قرن من الدماء ليس حدثا هيّنا في التاريخ، لكنه سيبقى حدثا سوريا خاصا، والذين بنوا عليه خيالات تغيير شامل ينطلق من الشام لبناء دولة أموية ثانية واهمون أو يتوهمون. الصورة تتضح بالتدريج، قيادة الثورة تحولت بسرعة الضوء إلى قيادة دولة مشغولة بخبز شعبها أولا وفي كل يوم تغرق في تدبيره.

الواهمون لا يرون كم الابتزاز الذي تتعرض له القيادة السورية من أجل رفع يدها عن كل قضية قومية، إنها تتنصل من الفلسطيني لتعيل السوري الجائع المشرد وتنسق مع النظام العربي لتقطع مع الإخوان (وهم بعض الواهمين بنجدة سوريا).

الضغط الدولي على حكام سوريا الجدد غير خاف، فهم يسيرون تحت القصف ويتوقونه بتنازلات محسوبة ولكنها الحسابات التي تؤدي إلى تنازلات لا تنتهي (كل العرب يعرفون أنهم لا يقاتلون عدوا نبيلا يحشم). القائلون بالتغيير يكبرون أمنية مستحيلة، أن تواصل الثورة السورية تمددها إلى جوارها فتغير وتعيد دولة بني أمية وربما ظهر من يطالبها باستعادة الأندلس فالكسالى كثير.

بشارات التغيير كما أتحسسها عربيا هي بشارات متواكلة على غزة وعلى سوريا، ولكنها لا تمر إلى فعل تغييري في أقطارها
بشارات التغيير كما أتحسسها عربيا هي بشارات متواكلة على غزة وعلى سوريا، ولكنها لا تمر إلى فعل تغييري في أقطارها، وتتذرع بالقمع وهو حقيقة، ولكن هل ترى هذه الكتل المتواكلة قمعا أكبر من قمع بشار لسوريا وقمع نتنياهو لغزة؟

هناك مغالطة فكرية تزعم فهم التاريخ تسهل على القائلين بالتغيير رؤية دولة بني أمية تفتح مصر وترسل عمرو بن العاص الثاني واليا عليها.

في هذه اللحظة التاريخية أرى الأنظمة العربية وفي مقدمتها النظام المصري تسند نفسها على عامود قوي هو دعم الكيان، ولذلك فهي تملك سببا قويا للبقاء. ما زالت هذه الأنظمة قادرة على تدبر أقوات الناس وتدريبهم على العيش بالقليل منه. وليس في هذا مزايدة على شعب مصر وهو يتدبر "العيش"، فالوضع في تونس متطابق. ونضيف للتوضيح أن جرأة نظام الأردن على جماعة الإخوان ومحوها في ظرف وجيز تكشف قوة الأنظمة المسنودة وتكشف بعد الحالمين بالتغيير عن الواقع الذي يعيشونه.

ربما رغب الشيخان أن يتحول التأويل إلى حافز للفعل، لكن قولهما صار مسندا للكسل عن الفعل وبفعل السوشيال ميديا السهلة. وهنا يمكننا مجادلة مؤرخ يبشر بتغير المنطقة وفشل الثورات المضادة؛ إن قوله لا يختلف عن أماني كثير من الجالسين خلف حواسيبهم يؤلفون انتصارات وهمية بالذكاء الصناعي.

لنغلق المتجر، من أراد التغيير فليقم إليه.

مقالات مشابهة

  • ماذا بعد سقوط الهيبة الأمريكية؟
  • كتاب مقومات النظرية اللغوية العربية.. قراءة تحليلية دقيقة للتراث النحوي
  • رويترز : طائرات اليمنية التي استهدفتها إسرائيل لم يكن مؤمناً عليها 
  • مليشيا الحوثي تنشر تفاصيل وأرقام العمليات العسكرية التي نفذتها تجاه القوات الأمريكية وما تعرضت له من غارات جوية
  • متخصص: جسم الإنسان يحتاج من أسبوعين إلى 3 أسابيع للتأقلم على درجة الحرارة
  • هل المنطقة العربية تتغير فعلا أم هي الأماني؟
  • شاهد | عودة حراك الطلاب في جامعة كولومبيا الأمريكية لنصرة غزة.. أين الجامعات العربية والإسلامية؟
  • مجلس جامعة الدول العربية على مستوى المندوبين الدائمين يدين الهجمات التي استهدفت المنشآت الحيوية والاستراتجية بالسودان
  • الجامعة العربية: تؤكد أهمية دور الإعلام في منظومة حقوق الإنسان
  • «الداخلية العرب» تنظم ورشة عمل للكوادر الشرطية العربية حول التجارب المتميزة في مجال حقوق الإنسان