أثر الصورة.. تاريخ فلسطين المخفي عبر أرشيف واصف جوهرية الفوتوغرافي
تاريخ النشر: 27th, June 2025 GMT
يمضي كتاب "أثر الصورة.. الفوتوغرافيا وتاريخ فلسطين المهمش" أبعد مما هو مألوف في دراسات الأرشيف البصري. هذا العمل، الذي وضعه الباحثون عصام نصار وإسطفان شيحا وسليم تماري، ليس بحثا في الصور بقدر ما هو تدخل منهجي في خطاب ما بعد الاستعمار؛ يعامل الصورة بوصفها وسيلة لإنتاج المعنى، واستعادة المعارف المضطهدة، وتخيل ما كان يمكن أن يكون تاريخا محتملا لم تتح له فرصة التحقق على الأرض.
الكتاب، الصادر حديثا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بترجمة سعود المولى، يتمحور حول أرشيف الفلسطيني واصف جوهرية (1897-1973)، الذي جمع نحو 900 صورة في مشروع بدأه عام 1924 وانتهى عام 1948. ووزع الموسيقي صوره على سبعة ألبومات معنونة بـ"تاريخ فلسطين المصور"، رافقتها مذكرات مكتوبة بخط اليد تقع في ثلاثة مجلدات، إلى جانب فهرس مرجعي للصور.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"عصر الضبابية".. قصة الفيزياء بين السطوع والسقوطlist 2 of 2هل الاقتصاد ساحة صراع فكري وأيديولوجي؟ كتاب يكشف خفايا نظريات الاقتصادend of listنجا هذا الأرشيف بأعجوبة من النهب أثناء الاحتلال، إذ أخفاه جوهرية داخل جدار في منزله بالقدس. ثم بمساعدة زوج ابنته تمكّن من استعادته، حيث أسهمت العائلة، بالتعاون مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في إتاحته لأغراض هذا البحث.
لكن هذا ليس أرشيفا بالمعنى الحيادي، فلم يكن صاحبه مجرد جامع للصور، بل راويا بصريا انتقائيا يعنون ويختار ويشرح ويحذف. ورغم عمله موظفا في الإدارة البريطانية، فإنه يحتفي بالعهد العثماني ويكرسه في صوره، كما لو أنه يرفض الاعتراف بأفوله. في المقابل، حين تصل عدسته إلى زمن الانتداب البريطاني، تتكثف المفارقات؛ فتتجاور صور طقوس وأعياد وحفلات موسيقية مع صور مشانق وموكب جنرالات وتفاصيل يومية للحياة الحضرية.
يقارب كل فصل من فصول الكتاب هذه المادة الأرشيفية الضخمة من زاوية مختلفة. إذ يقول الكتاب الثلاثة في المقدمة "استخدمنا أدوات تحليل تستند إلى تخصصاتنا في مجالات التاريخ والاجتماع والدراسات البصرية، وإلى اهتمامنا بتوثيق فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين وتحليله ونقده".
إعلانويقدم العمل ككل صورة للعلاقات الاجتماعية في زمن واصف في القدس، ولدور الموثق والجامع للمواد الأرشيفية، ولإمكان تحول المقتنيات الخاصة إلى مادة لنقد الاستعمار بصورة نظرية. كما أن الكتاب بحسب المؤلفين "هو إعادة اعتبار الفلسطيني كإنسان ضمن سياق اجتماعي وبلد عادي تماما".
عصام نصار.. الفوتوغرافيا بوصفها سردًاتكتسب "المجموعة الجوهرية"، كما أسماها صاحبها، أهمية زائدة بسبب "الخسارة المادية لموضوعها الأصلي: القدس كما كانت في عصره"، وفقًا لنصار. ولعل القيمة الأبرز لهذه الألبومات تكمن في قدرتها على منازعة رواية المنتصر، فهي تحضر كذاكرة مضادة لما أراده المشروع الصهيوني من محوٍ تامّ لمشهد التعدّد الثقافي والديني الذي طبع فلسطين ما قبل النكبة كما رآها ساكنوها، لا كما أرّخها المنتصرون.
في ألبومه الأول، يفتتح جوهرية بمجموعة صور لا تخصه شخصيا. نرى، مثلا، زيارة القيصر الألماني فيلهلم الثاني إلى القدس عام 1898، أي حين لم يكن واصف قد تجاوز عامه الثاني. إن بداية مثل هذه لا يكون فيها جوهرية شاهدًا مباشرا تكشف أنه لم يكن معنيا بالتأريخ الشخصي بل بالذاكرة الجمعية.
ومن بين الصور لقطة دخول الضباط البريطانيين القدس عام 1917، التُقطت بعدسة مصور من الكولونية الأميركية، وروِّجت عالميًّا بوصفها لحظة مجد استعماري. بيد أن جوهرية لا يذكر أسماء الجنرالات فيها، بل يكتب ببساطة "كنت في هذا اليوم (..) بضيافة أختنا عفيفة.. أذكر أن جميع الطوائف المسيحية دقت الأجراس..". لا تتكلم الصور، في تعليقاته، عن السلطة ولا الحدث، بل عن الحضور الفلسطيني.
يلحظ نصار التحول في الألبومات من سجلّ اجتماعي لطبقة وسطى عثمانية إلى سردية وطنية ضمنية تتقاطع فيها مشاهد الموسيقى والأعياد مع لحظات الحرب والمآسي. صور من انتفاضات ومذابح، حفلات راقية وجماهير غاضبة، جميعها تتساوى في الألبوم.
لكن نصّار يتوقف بشكل خاص عند مشهد نادر من الألبوم الثاني، حيث يخصّص واصف مساحة لضحايا مجزرة الخليل من اليهود، حيث يقول إن مفهوم "الانتماء" في فلسطين ما قبل النكبة كان أكثر تعقيدًا وأقل اختزالاً مما يروج له. وفي زمن تُختصر فيه الذاكرة الفلسطينية في مشاهد الدمار والنكبة، تُذكّرنا ألبومات واصف بأن ثمة حياة سبقت هذا الخراب، وأن في الأرشيف الشخصي ما يمكن أن يكون سيرةً موازية للتاريخ الرسمي.
يقول نصار إن في سرد جوهرية إضافة لما لا يُرى: انطباع، تذكّر، اعتراض، أو حنين، فالصورة تصبح مساحة تأويل لا وثيقة. في إحدى الصور، يكتب "هذا حي السعدية"، رغم أن بيته لا يظهر في الكادر، يرسم سهمًا يشير إلى مكان بيت طفولته. هكذا، لا نقرأ التاريخ فقط، بل نقرأ الطريقة التي يُحب واصف أن يُروى بها.
في فصل بعنوان "مشهدية الفرجة ومشهدية الحرب"، يستلهم تماري فكرة للأميركية سوزان سونتاغ عن المسافة التي تخلقها الصورة وتُجسِّرها. وهذه المسافة في حالة أرشيف جوهرية، بحسب تماري، تتجلى في التصدع البصري بين صور القدس قبل الحرب العظمى وبعدها، من خلال هذا المنظور يقترح أن "فلسطين الحقيقية" في وعي جوهرية كانت تلك التي سبقت النكبة.
إعلانيتناول تماري العالم المتعدد الطبقات والغني بالتفاصيل لجوهرية؛ موسيقي ومؤرشف فوتوغرافي في القدس في أوائل القرن العشرين. مكنته خلفيته من التنقل بين دوائر النخبة والعامة. تلقى تعليمه في مؤسسات أرثوذكسية وتبشيرية وعثمانية. علاقته بالموسيقى أتاحت له التحرك بسهولة بين المجتمعات المسيحية والمسلمة واليهودية، مقدمًا بذلك مثالًا حيًّا يناقض التصور الشائع للقدس كمدينة مقسمة بشكل صارم.
تقاطعت حياته مع عوالم كثيرة: المهرجانات الدينية، والابتكارات المسرحية مثل "الكراكوز"، وفن السينما الناشئ، وعمالقة الموسيقى مثل سلامة حجازي وبديعة مصابني. من هنا، يُقسّم الكاتب مشاهد جوهرية إلى ثلاثة أنماط: مشاهد احتفالية (كموكب النبي موسى و"سبت النور")، ومشاهد أدائية (كالخيال الظلّ والعروض السينمائية)، ومشاهد الحرب (كاستسلام القدس والإعدامات). هذا التقسيم يسمح بقراءة مزدوجة: بصرية واجتماعية.
لا يغيب الشارع من "المجموعة الجوهرية"، بما فيه من البنائين ونحاتي الحجارة والشرطة والفنانين، كل هؤلاء يحضرون جنبًا إلى جنب مع القادة الدينيين والسياسيين. تضفي هذه الدمقرطة الفوتوغرافية طبقة من التاريخ الاجتماعي غالبًا ما تُمحى من السجلات القومية أو الاستعمارية.
إضافة إلى ذلك، فإن توثيقه للحياة العسكرية خلال الحرب العالمية الأولى (حفر الخنادق، وأسرى الحرب البريطانيين، وصور الضباط العثمانيين) يوفر سجلاً بصريا مضادًا للروايات الرسمية. وفي وقت تحضر فيه كل هذه الطبقات والفئات، تغيب النساء من ألبومات جوهرية باستثناءات قليلة جدًا مثل مظاهرة النساء عام 1929، بينما تفيض مذكراته بهن من كل الأوصاف من محظيات ومطربات وفنانات.
يصف تماري ألبومات جوهرية بأنها "جولة حسية في القدس"، يرسم فيها الأصوات وروائح الأطعمة ودكاكين البهارات وأغاني بائعي المواد الغذائية وألحانهم. بل إن جوهرية نفسه ألف قصيدة خلال المجاعة الكبرى عام 1915 بعنوان "كرشات محشية" أصبحت تعرف فيما بعد بالنشيد الوطني لفلسطين، ويوجد نسخة منها اليوم في أرشيف راديو بيروت.
أما إسطفان شيحا، فيذهب في تأملاته المعنونة "في المجال الحسي ورفض التقسيم" إلى ما هو أبعد من التحليل النصي أو البصري، إذ يرى في الصورة الاستشراقية عملية "سرقة فهرسية"، لا تُصادر الأرض فقط، بل تختزل الهوية والمعنى.
يقول شيحا إن ألبوم جوهرية ضمّ جنبًا إلى جنب الصور الاستشراقية والاستعمارية مع الصور المنتجة والمتداولة محليًا، متسائلًا "عما ينتج حين تتحد هذه الصور، وربما تخفي إحداها الأصول الاجتماعية للأخرى في أرشيف فلسطينيٍّ".
يطرح شيحا صور "المكتبة الخالدية" كمثال على أن الاستشراق شكل من أشكال "الاستيلاء الفهرسي بالقوة"، و"تحول الصورة إلى سلعة لمصلحة القوة الاستعمارية". تظهر المكتبة في صورة التقطها مصور من "الكولونية الأميركية" مرتين في ألبومات جوهرية، في الأولى خمسة علماء يقفون أمام بابها، ثم صورة لهم يجلسون داخلها.
أزاح مصور الكولونية (مشروع تبشيري بروتستانتي) معنى الصورة من خلال إعادة إنتاجها كبطاقة بريدية شرحها "شيوخ وأفندية مسلمون" مجهولون، مختزلًا شخصيات حقيقية مثل الحاج راغب الخالدي وطاهر الجزائري في صور نمطية استشراقية صالحة للاستهلاك الغربي. أصبحت هذه الصورة دارجة عالميًا، مما أدى إلى محو السياق السياسي والاجتماعي لمواضيعها واستبداله بخيال استعماري عن "الأرض المقدسة".
لكن جوهرية، حين يدرج الصورة نفسها في ألبوماته، يكتب متى التقطت ومن هؤلاء وأين كانوا وماذا يمثلون؟ أي أنه يعيد للصورة تفسيرها المحلي والمعرفي، ويعارض ابتلاعها الاستشراقي الذي يرمي إلى صياغة الإدراك نفسه، فيحدد من يَرى؟ وما الذي يُرى؟ وأي المعاني يُسمح لها بالظهور؟
إعلانتقاوم ألبومات جوهرية هذا الابتلاع بإصرارها على الحضور الفلسطيني، وتواجه ممارسات استبعاده من التاريخ والأرض ومن مجال الرؤية على يد الاستشراق والصهيونية والاستعمار. فأرشيفه -الذي جمعه في بداياته فنان يتسكع في مدينته ويعشقها ويراقب تحولاتها ويسكنها بكل ما في كلمة سكن من معنى- يكتسب اليوم معنى آخر بوصفه رفضًا سياسيا ومعرفيًّا للمحو.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
حين يموت الضمير تعجز الصورة عن نقل مأساة غزة
في البُعد المكاني نحن بعيدون عن غزة، وما يحدث فيها الآن تحمله لنا الصورة، وهذه الصورة هي قناتنا الوحيدة التي تجعلنا نحس بالخراب، خراب الديار وتخريب الإنسان وموارده، وتحويله إلى حجر أو ذرة تراب، بل بات الحجر اليوم في غزة أهم من دم الإنسان، وحياته وكرامته ووجوده، وحقه في أن يحيا على أرضه التي عاش فيها منذ الآف السنين. ولأن البُعد المكاني خارج عن إرادتنا، فلن تبقى لدينا من وسيلة تجعلنا نحس بالمأساة، سوى الضمير الحي، الذي يرى ويسمع وبه تُختصر المسافات.
إن الوصف المُعتاد الذي يُمكن به وصف غزة، كمنطقة منكوبة وكارثة إنسانية، هو أبعد ما يكون عن الواقع، فلم يشهد التاريخ على الإطلاق، على الأقل في التاريخ الحديث، واقعا مأساويا إنسانيا كالذي يعانيه أهلنا في قطاع غزة، في ظل محاولة عنيدة وإصرار شديد على نزع الكرامة عن البشر في هذه المدينة الباسلة. فالمواطن الغزي الذي اعتاد العيش بكرامة، هو الآن حياته مُعلقة بعد أن فقد كل ما يملك، فقد فقد منزله وأفرادا من عائلته، وفقد الشعور بالأمان. كما أنه يفقد حياته بشكل يومي بسبب عدم وجود أي ممر إنساني، ومن دون وجود أي أمل في الأفق.
لقد مضى على حرب غزة ما يقرب من 673 يوما منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى اليوم، وهو رقم أصلا لا يمكن تخيله، كيف مر كل هذا الوقت، والأهوال التي تحدث في غزة ما زالت مشاهدها الكارثية تُعرض أمام الشاشات، ويستقبلها العالم بشكل يومي كأنها مشاهد عادية، وعلى الرغم من أن الرأي العام الغربي قد تفاعل مع ما تنقله الصورة من كارثة إنسانية، لكن الرأي العام العربي ما زال في سبات خطير.
ولعل أخطر ما في الموضوع هو أن تُصبح هذه المشاهد عادية، فكيف تكون عادية، في حين أن إغلاق المعابر في غزة، ربما هي الكارثة الإنسانية الوحيدة في العالم كله، حيث يمكننا مقارنة ما حصل ويحصل لأهلنا في غزة، مع ما حصل في أوكرانيا، وما حصل في سوريا، ومع ما يحصل في السودان، ففي كل هذه المآسي هنالك فرصة للسكان للبحث عن ملاذ آمن، ولو مؤقت من الموت. لكن في هذه المدينة الباسلة الجميع مُحاصر، والموت يُحاصرهم من كل اتجاه، والقذائف تسقط من كل اتجاه، إضافة إلى المجاعة، حيث الوقوف في طوابير طويلة أمام المطابخ المُجتمعية، التي تُقيمها المؤسسات الدولية، أملا في الحصول على حفنة رز، أو قطعة خبز.
لقد تآمرت الولايات المتحدة وإسرائيل حتى على جوع أهلنا في غزة، من خلال ما يسمى ( مؤسسة غزة الإنسانية)، التي قالوا إنها هي الكفيلة بتوزيع المساعدات على الفلسطينيين في القطاع. هذه المؤسسة التي تم فرضها بعد إغلاق كامل ومطلق للمعابر، التي تفصل غزة عن محيطها، مع انهيار وقف إطلاق النار الأول في شهر مارس/ آذار المنصرم وحتى نهاية شهر مايو/ أيار، حيث لم تدخل أي ذرة طحين خلال هذه الثلاثة أشهر، وباتت المجاعة أمرا مفروضا على هؤلاء البشر، الذين كانوا يعيشون بكرامة ولم يعرفوا مشاهد طوابير الجوع من قبل.
لقد أنشأت هذه المؤسسة ثلاثة ممرات يذهب من خلالها الناس، إلى ثلاث نقاط، من أجل طلب الحصول على المساعدات، لكن هذه الممرات باتت تسمى اليوم ممرات الموت، بشهادة المنظمات الدولية كافة، سواء تلك التابعة للأمم المتحدة، أو المنظمات الدولية المختلفة، التي تعمل في العالم، لأنها حسب تعبيرهم هي ممرات تعمل عكس معايير العمل الإنساني، ومعايير العمل الإنساني الدولي تتناقض تماما مع وجود هذه الممرات، بالتالي جميع مؤسسات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الإنسانية، ممنوعون من العمل الآن، ولا يصل أي نوع من البضائع والمساعدات لهم، كي يستطيعوا توزيعها على السكان في غزة. كما أن منافذ توزيع الطحين على سبيل المثال، وضعوها قرب نقاط وجود الجيش الإسرائيلي.. بالتالي باتت فرص الاحتكاك عالية، وبسببها يسقط يوميا ما معدله 155 شخصا من أهالي القطاع.
لقد تزاوجت طوابير الجوع وطوابير الموت في غزة، وبات الموت له أشكال مختلفة، فمن كان يتصور أن في القرن الحادي والعشرين، يمكن أن يفقد سبعة أطفال حياتهم في يوم واحد، خلال انتظار في طابور الحصول على الماء، حسب تقرير منظمة إنقاذ الطفل الدولية.
كما يفقد آخرون حياتهم في طابور انتظار أمام مطبخ مجتمعي، فالمجاعة والعطش اللذان باتا يحصدان أرواحا كثيرة بسبب سياسة التجويع الممنهج، وصورها المروعة لأطفال ونساء وشيوخ، لم يبق على جسدهم سوى الجلد الذي يغطي عظامهم، باتت حقيقة لا يمكن التغاضي عنها. فالقصف المدفعي والجوي وبالمسيرات، لم يعد الشاغل الوحيد الذي بات يرفع أصوات قادة كثيرين في العالم، بل المجاعة هي السبب الأكثر من غيره.
وأن الهبّة الدولية على لسان قادة وزعماء دوليين، إنما هي تعبير واضح عن فظاعة المشهد في المدينة، وعلى الرغم من أن هنالك قولا شائعا، إن تأتي متأخرا أفضل من أن لا تأتي أبدا، لكن كل تأخير في غزة تقابله عشرات، بل مئات الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ. ويضيف البعض أيضا أن هذه الهبة الدولية أنتجت مؤتمر حل الدولتين الأخير، وقرار إرسال المساعدات ورميها من الجو، وهو إدراك لخطورة ما يجري حتى بعد حلول الكارثة بأبشع صورها.
لقد فقدت إسرائيل الحرب الدعائية، في خضم تعالي الأصوات المنددة بالمجزرة التي ترتكبها في غزة، وتم تشويه صورتها عند من كانوا إلى وقت قريب يعتبرونها صورة براقة، لكن هل هذا يكفي؟ يقينا أنه لا يكفي. فالمسألة ليست حربا إعلامية، أو حربا نفسية تجري على أرض فلسطين، بل الواجب هو إنقاذ الفلسطينيين من هذا الجُب العميق من الكارثة. المشكلة أن المسؤولية كبيرة وهناك تخلٍ عالمي، وتخلٍ عربي. وإذا كانت الإدارات الأمريكية المتلاحقة تتحمل المسؤولية الأولى، وكذلك الدول الأوروبية التي تأخرت في اتخاذ مواقف حاسمة.
وأيضا حتى روسيا والصين لم تصدر عنهما مواقف حقيقية واضحة. وإذا كان هناك تقصير فاضح من الكثير من المنظمات الدولية والإقليمية، فإن العار الأكبر سيلاحق العرب رسميا وشعبيا، لأنهم خذلوا أهلهم وأشقاءهم وأطفالهم الفلسطينيين في اتخاذ موقف حقيقي، تجاه أكبر كارثة عرفها التاريخ الحديث، إلى الحد الذي تقدمت فيه المواقف الشعبية الغربية عليهم في نصرة أهل غزة.
القدس العربي