تقول الشاعرة السودانية روضة الحاج:
«واحتجت أن ألقاك
حين تربع الشوق المسافر واستراح
وطفقتُ أبحث عنك
في مدن المنافي السافرات
بلا جناح
كان احتياجي...
أن تضمخ حوليَ الأرجاءَ
يا عطرًا يزاور في الصباح
كان احتياجي... أن تجيءَ إليَّ مسبحةً
تخفف وطأة الترحال...
إن جاء الرواح»
(1)
للحرب تجارها وكذلك لها ضحاياها.
حولنا الكثير من صور القتلى والجرحى والنازحين الذين اضطرتهم الحرب إلى الهجرة من أوطانهم، يحلمون إذا وصلوا إلى بلد المهجر أن ينجحوا في بناء ذواتهم أو تأسيس حياة ما، ثم ينظرون على نحو من الأنحاء إلى صور وطنهم الذي غادروه كَرها لا شجاعة ولا بطولة.
جاء في التقرير الإخباري ما يلي: «دفع استمرار الحرب في السودان، منذ نحو عشرة أشهر، آلاف الشباب السوداني للتفكير في المغامرة بحياتهم وركوب المصاعب بالهجرة خصوصا إلى أوروبا، بعدما قضت الحرب على أحلامهم، ودمرت منازلهم ومؤسساتهم التعليمية، وفقدوا مصادر رزقهم، وتضاعف قلقهم على مستقبلهم».
يستند التقرير إلى هذه الألفاظ: الحرب، الشباب، المغامرة، الهجرة، الأحلام، الفقد، القلق، ثم المستقبل. يُمكن بناء أفكار وتكوين سيناريوهات كثيرة تصلح لعمل فنيّ سينمائي أو مسرحي. على هامش هذا، أتذكر جملة قرأتها لوصف أطلقه الكاتب المسرحي النمساوي الساخر (كارل كراوس 1874-1936) الذي وثق حينذاك لصور الحرب الدائرة بين بريطانيا وألمانيا في عام 1914م، أنه كتب تحقيقا مسرحيا طويلا جدًا من (792) صفحة، أطلق عليه الوصف التالي للحرب: «الأيام الأخيرة للإنسانية»، ولا يقتصر التأثير والتوثيق والمعالجات للحروب المدمرة على الفن وحده، حيث أثبتت حياة البشر وانصهارها في التجارب الصعبة القاسية، قدرة الإنسان في الحياة والطبيعة على التوثيق. وإذا ابتعدنا نسبيا عن التقرير، ونظرنا إلى الخلف قليلا، فيما وراء تلك الألفاظ الكبيرة، لن نرى الأيام الأخيرة للإنسانية، بل التفكير بالحرب وبالعناصر والحيوات التي تتهشم من حولنا، وفي مشاعرنا وأفئدتنا!
من بين العناصر التي تباينت عندي تباينا شديدا هي صورة «السمبك» وهو مركب صغير مصنوع من البلاستيك يستخدمه المهاجرون للهروب من أوطانهم عبر المحيط، إلى البلاد الأوروبية؛ طلبا للحصول على لجوء سياسي بسبب طغيان الحرب، ويمكن أن يصعد على «السمبك» أكثر من خمسين هاربا، قد يصلُ بعضهم أحياء، وقد يموتون في المحيط تأكلهم حيتان البحر.
(2)
بدأت تسرد قصتها معددة فضائل السودان الذي تُحب وتهوى وتخشى عليه من الضياع.
قالت: «بسم الله الرحمن الرحيم... السودان معروف، وطن مليء بالخيرات والمقومات الطبيعية. ومن خلاله يمتد نهر النيل إلى مصر، حيث ملتقى النيلين في الخرطوم. وهناك مساحات شاسعة صالحة للزراعة، لكن اشتهر بزراعة الكركديه والصمغ والقطن. ويعرف السودان بأصله وطيبة شعبه؛ الشعب السوداني يتمتع بالعفوية وروح الدعابة. يحب الكرم والجود وإكرام الضيف، ويعد التواضع من القيم السودانية المهمة والشهامة والتضحية. وتشتهر نساء الشعب السوداني بلباس طويل مزركش بألوان يسمى الثوب السوداني والرجال الجلابية والسروال».
هل غيرت الحرب كل هذا؟ ورطت الحرب البشر جميعهم، وفككت حياة الناس إلى أقسام، كما كشفت عن الوجوه المستترة، والمتورطين في الجرائم.
قالت: «بسبب تردي الأوضاع في السودان مؤخرًا، هاجر كثير من الشباب إلى خارج البلاد بحثا عن لقمة العيش. بعد «الكورونا»، وسقوط البشير الرئيس المعزول عانى الشعب السوداني أكثر مما مضى، الأمر الذي جعل الشباب يهاجرون بحثا عن العيش».
كل امرأة تمتنع عن حكي قصتها فهي تسجل وثيقة لانسحابها من الحياة. وكل صوت يحكي عن نفسه أو عن الآخرين الذين يُشبهونه في التجربة، فهو يضع التاريخ غير الرسمي في إطار منفتح على تجارب الآخرين.
قالت: «أصبح الشاب يرى أباه يعمل ليلا نهارا، وأمه كذلك، ولا يستطيع تلبية الطلبات الأساسية والضرورية، ناهيك عن الكماليات الأخرى، مثلا يَجد أخته تريد تسديد قسط الجامعة، والأخرى قسط المدرسة، وأخاه مريضا مرضا مزمنا يريد علاجا شهريا مستديما. وتجد في المنزل الواحد يَسكن الجّد والجّدة، وربما العمة أو الخالة، هي أيضا تريد من يُعيلها. وتجد في بعض الأسر رب الأسرة جاءته المنية، وترك خلفه ذرية ضعفاء يريدون المعونة، ومن يعينهم في سد الرمق. أصبح الوضع الاقتصادي سيئا جدا؛ إذ شهدت البلد غلاء في الأسعار لم تشهده من قبل. يَفيق الشاب من غيبوبة ذلك الوضع، ويصبح يريد اللازم من الدفء والمأوى والضروريات، فيجد لا شيئا أمامه غير الهجرة».
التورّط في الحرب معناه أحد أمرين: الرغبة أو دون الرغبة. عند اختيار أحد الأمرين، وكلاهما مرٌ يستعيد المرء قدرته على الاختيار، إما النجاة مع أقل الخسائر، أو الفناء مع المجموع!
قالت: «الشاب يفكر بالهجرة بعيدا عن وطنه؛ بحثا عن حياة آمنة... بعض الشباب يريد الزواج، فيعجز من الشروط التعجيزية للزواج بحسب العادات والتقاليد في البلد... يسافر أو يهاجر ليجني المال الذي يساعده على الزواج، والعيش في رفاه. من ضمن أولئك الشباب هاجر أخي؛ لأنه سئم البطالة، وأنا تخرجتُ من كلية اللغات لكي أعمل وأُعين أهلي، ولكن دون جدوى. الآن ليس هنالك شغل لحاملي الشهادات، وليس هناك تعليم أو صحة جيدة، أصبح كل من يَمتلك شهادة يُقدم على طلب العمل في الخارج؛ لأن السودان الأجور فيه زهيدة... ومطالب الحياة كثيرة. ومن لا يمتلك شهادة بسبب وضعه المادي الذي لم يساعده على أن يدرس يهاجر عشوائيا عبر «السمبك»، أو التهريب عن طريق البّر لكي يهنأ بعيشة كريمة له ولمن يُعيلهم».
(3)
وجاء في التقرير الإخباري: «ويخشى خبراء من مخاطر الهجرة غير النظامية إلى أوروبا، واستغلال شبكات التهريب والاتجار بالبشر وفقدان السودان عقولا وأيادي عاملة تحتاجها البلاد لإعادة الإعمار والتنمية في مرحلة ما بعد الحرب، وتمزق الأسر والتداعيات الاجتماعية المترتبة على ذلك».
كم تبدو هذه الجملة قاسية وعنيدة: «في مرحلة ما بعد الحرب!» إن ميادين القتال تتحول شيئا فشيئا حتى تصير أشبه بالمستعمرات الصغيرة، تغرق في وحل مليء بالجرذان. لا تهم الجملة في أي شكل من السياقات، إذا ما كانت الحرب قد قضت على البشر الحالمين بأدنى حد في الحياة. سيصنفها الخبراء مع مرور الوقت -المولعون بالتصنيف-، أنها حرب لأجل السلام! لا يهم عدد القتلى الضخم، من جثث ملقاة على الطرق منتفخة أو عائلات نزحت هروبا من الأسلاك الشائكة وأعاصير المجنزرات، بصورة لم يشهدها تاريخ في عصرنا المتحضّر!
قالت: «هذا الوضع كان قبل الحرب، أما في وقت الحرب فتفاقمت الأوضاع أكثر فأكثر؛ أصبحنا في حيرة من أمرنا: من كان يَعمل مقابل أجر زهيد أصبح لا يعمل، وقيل له مرحبا بك في رَكب العطالة! ومَن كان يقرأ، جلس في منزله مجبرا، وليس هناك إمكانيات تجعل المرء يعمل أو يَقرأ أونلاين، لم يبق أمامه إلا أن يهاجر. في الأول والأخير أنا شاهدتُ الحرب رأي العين... حضرتُ المقذوفات العشوائية، والدانات، والرصاصات الطائشة. ليس منا أحد ينتمي إلى طرفي النزاع».
(4)
فظائع الحرب أشد قتامة من الوصف. الدخول في التجربة وخوض مغامرة الهروب والهجرة وطلب اللجوء السياسي، ستظل محفوفة بالمخاطر والشراسة والتوحش. عندما يلتقي المهاجرون في شارع ما في دولة أوروبية، سيتحدثون عن تجربة المصير الجماعي... والبحث عن إقامة قانونية... وعن الوظيفة والعمل والبيت وتكوين عائلة جديدة. يغشى بعضهم الفرح، وغيرهم الألم والشوق إلى الوطن... وسيبقى الشعور المشترك بينهم، أنهم استطاعوا خوض تجربة العيش مع الموت والشجاعة في كفة واحدة.
وأخيرًا...
قالوا: «عائِدُونَ إِلَى سُودانِنا، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ».
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
ما أهمية سيطرة الجيش السوداني على منطقة العطرون الإستراتيجية بدارفور؟
الخرطوم- "ضربة قاصمة لظهر مليشيا الدعم السريع" هكذا وصف قادة ميدانيون ومحللون عسكريون تحدثوا للجزيرة نت استعادة الجيش السوداني لمنطقة العطرون الإستراتيجية بولاية شمال دارفور، صباح أمس، مؤكدين أنها تمثل نقطة تحول حاسمة في مسار الحرب التي اندلعت في 15 أبريل/نيسان 2023.
وتتحكم منطقة العطرون الواقعة بمحلية المالحة في أقصى شمال ولاية شمال دارفور بمحور صحراوي حيوي، يربط بين الولاية الشمالية وشمال دارفور، ويمتد نحو المثلث الحدودي الذي يربط السودان وليبيا وتشاد، كما يوجد بها مطار، مما يجعلها نقطة عبور رئيسية للإمدادات العسكرية.
وقال مصطفى تمبور، والي ولاية وسط دارفور، ورئيس حركة تحرير السودان للجزيرة نت إن "الانتصارات الكاسحة التي حققتها القوات المسلحة الباسلة والقوات المساندة في منطقة العطرون الإستراتيجية بشمال دارفور جعلت الطريق سالكا نحو مدينة الفاشر لفك حصارها".
وأفاد أن هذا الانتصار يمهد كثيرا لتقدم القوات نحو ولايات غرب وجنوب وشرق ووسط دارفور، لضمها قريبا لحضن الوطن، وأضاف "نبشر شعبنا الأبي بأن إنهاء التمرد بات قريبا، وكل المؤشرات تدل على ذلك".
قال معتصم أحمد صالح، الأمين السياسي لحركة العدل والمساواة السودانية، التي شاركت باستعادة منطقة العطرون من قبضة قوات الدعم السريع، للجزيرة نت، إن "استعادة السيطرة على المنطقة من قبل القوات المسلحة السودانية والقوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح -المتحالفة مع الجيش- يُعد تحولا إستراتيجيا في مسار الحرب".
إعلانوأفاد بأن فقدان الدعم السريع لمنطقة العطرون يعني حرمانها من أحد أهم خطوط الإمداد اللوجستي، مما يضعف قدرتها على المناورة والتحرك في شمال وغرب دارفور ودعم جيوبها في شمال غرب كردفان.
وأكد معتصم أن القوات المسلحة السودانية والقوة المشتركة تستطيع من خلال السيطرة على منطقة العطرون "مراقبة التحركات العسكرية للمليشيا في المنطقة، وقطع طرق إمدادها القادمة من ليبيا وتشاد، مما يُسهم في تقليص نفوذها في الإقليم".
وقال إن أهمية العطرون كمنطقة إستراتيجية تُحدد موازين القوى في دارفور، "وتُشكل نقطة تحول كبرى ضمن الخطط الرامية لفك الحصار عن الفاشر، وهزيمة قوات الدعم السريع في غرب كردفان، ودحرها في دارفور".
وأكد نور الدائم طه، مساعد رئيس حركة جيش تحرير السودان، التي يرأسها حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي، أن السيطرة على منطقتي المالحة والعطرون تمثل "ضربة إستراتيجية قاصمة" لقوات الدعم السريع ولمن يقف خلفها إقليميا.
وقال نور الدائم الذي شاركت قواته الجيش السوداني باستعادة منطقة العطرون للجزيرة نت، إن هذه المناطق التي تم تحريرها لم تكن مجرد نقاط إمداد، "بل كانت ممرات حيوية لتهريب السلاح، والمرتزقة واستهداف السودان عبر الحدود الليبية".
واعتبر أن ما جرى هو "كسر فعلي لعمود الدعم اللوجستي والاستخباراتي الذي اعتمدت عليه المليشيا، وإغلاق لأحد أخطر المنافذ التي استُخدمت لإغراق السودان بالفوضى"، وأضاف "الرسالة واضحة، وهي أن السودان ليس ساحة مستباحة، والجيش والقوة المشتركة ماضون في حماية الدولة السودانية من الانهيار".
ورأى مراقبون أن الاستعادة المباغتة للجيش السوداني والقوة المشتركة لمنطقة العطرون الإستراتيجية تعني السيطرة بشكل كامل على مفاصل الحركة عبر الصحراء الغربية، وعلى نقطة تجمع المقاتلين القادمين من خارج السودان للقتال بجانب الدعم السريع، وهو ما يمنح القوات المسلحة والقوة المشتركة الأفضلية في الميدان.
إعلان سيطرة كاملةتقع منطقة العطرون في قلب الصحراء بشمال دارفور، وهي أرض منخفضة يوجد بها مطار قديم يصلح لاستقبال طائرات الشحن التجارية والمسافرين. و يرى المحلل العسكري والعميد المتقاعد بالجيش السوداني إبراهيم عقيل مادبو أن هذا الموقع جعل لها بعدا إستراتيجيا، كونها تُشكل ملتقى وتقاطع طرق لـ3 دول.
وقال العميد مادبو للجزيرة نت، إن سيطرة الجيش على المالحة والعطرون تمثل انفتاحا على مناطق الصحراء الأخرى مثل بئر راهب وواحة النخيلة، وقفلا لمنطقة المثلث الحدودي، وإعلانا للسيطرة الكاملة على الصحراء والحدود مع ليبيا.
وأضاف "وبذلك يتم قطع كل طرق الإمداد على المليشيا، التي كانت تستغل عدة بوابات، وتقوم بجلب الإمداد اللوجستي والمرتزقة".
وأشار العقيد المتقاعد إلى أنه "من خلال تتبع خارطة بنك أهداف وضربات طيران الجيش، ونتائج العمليات البرية الخاصة، يتضح أن منظومة وأولوية الاستهداف كانت على موعد مع العديد من التطورات النوعية المهمة".
وتوقّع أن تدفع هذه التطورات قوات الدعم السريع لنقطة "حافة الهاوية والانهيار"، أو لتجريدها ومنعها من تحريك وسحب قواتها من كردفان لحشدها في الفاشر، وذلك عن طريق قطع خط انسحابها التدريجي غير المنظم وغير المحسوب، الذي جاء كأحد ارتدادات التحرك النشط للقوات المسلحة بمحاور كردفان والنيل الأبيض وأم درمان.
تأمين الولاية الشماليةاعتبر قادة ميدانيون تحدثوا للجزيرة نت، أن استعادة منطقة العطرون في المثلث الحدودي شديد الأهمية بين السودان وليبيا وتشاد، تضيّق الخناق على قوات الدعم السريع وتمهد الطريق أمام تحرير كامل إقليم دارفور.
وحسب بيان للعقيد أحمد حسين، المتحدث الرسمي باسم القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح فإن "تحرير منطقة العطرون الإستراتيجية يُعد إنجازا عظيما، تم نتيجة عملية عسكرية دقيقة ومنسقة نفذتها القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح، بالتعاون مع القوات المسلحة السودانية".
إعلانوأضاف البيان أن "تحرير منطقة العطرون كبّد العدو خسائر فادحة بالأرواح والعتاد، ويمثل خطوة حاسمة في سبيل استعادة الأمن والاستقرار في إقليم دارفور، ويعكس التزامنا الراسخ بحماية المدنيين وتأمين الأراضي السودانية".
ويرى عسكريون أن تحرير العطرون يسهم في تعزيز تأمين الولاية الشمالية من الهجوم الذي توعدت به الدعم السريع على مدينة الدبة، بعد تجميع "المرتزقة" في العطرون، لأن ظهرها سيكون مكشوفا أمام ضربات الجيش السوداني والقوة المشتركة لو غامرت بالتفكير في الهجوم على الشمالية.