ليست حربا عبثية إنما سيناريو معلوم الأهداف غربة الخطاب السياسي عن الواقع الماثل توطئة (تتسم هذه الحرب الراهنة بخصائص وسمات نوعية عنوانها تدمير البلاد وحرقها، وربما تقسيمها إلى دويلات استجابة لمخططات مدروسة، وفي جانب آخر منها، فإنها حرب بالوكالة عن أطراف خارجية عينها على السودان الشاسعة الخصبة ومياهه الوفيرة ومعادنه النفيسة، ويعزز من ذلك موقع السودان الجيوسياسي، والذي جعله في مرمى نزاعات وصراعات الموانئ والممرات المائية الدولية والإقليمية * د/الشفيع خضر القدس اللندنية ٩ أكتوبر ٢٠٢٣ مقدمة اندلعت الحرب بين الجيش والدعم السريع، ولم تكن منبتة عن الحروب في المنطقة، ولا تخرج عن سياقاتها، وإن اختلفت الذرائع التي اتسم بها الخطاب السياسي لأطرافها فهنا كان العنوان مدنية الدولة وإبعاد المؤسسة العسكرية عن الحكم، وفي تقديرنا أنه عنوان مخادع يخفي بين طياته أهدافاً أخرى لا صلة لها بالحكم المدني وقيم الديمقراطية فأي ديمقراطية تلك التي تأتي باحتلال منازل المواطنيين، واستباحتها ونهب ممتلكاتهم ومقتنياتهم واغتصاب الفتيات القصر؟ يقيني الذي لا يخالجه شك بأن هذا السلوك الممنهج الذي لا يمكن إنكاره أو تبريره خبيث الغرض يهدف إلى التكريس للغبن الاجتماعي بين أبناء الوطن في إطار خطاب الكراهية والتسويق للعنصرية والجهوية ادخارا ليوم كريهة بدت نذره تلوح في الأفق.
دارت رحى الحرب بكل ما تحمله من مآسي وما تفرزه من تداعيات لتطحن المواطن المغلوب على أمره طحنا، وتدهسه دهسا هلعا وجوعا ومسغبة وموتا مجانيا وفزعاً ونزوح وتشرد بحثا عن ملاذات آمنة وظروف أفضل. انتشرت الفوضى في الخرطوم ومثلما لعلع صوت الرصاص ودك القصف الممنهج والعشوائي المنشآت والمباني كذلك اشتعلت أحزمة الفقر والبؤس من ضحايا رأس المال المعولم والشركات عابرة القارات، وتفجرت غبنا اجتماعيا في أبهى تجلي لسلوك البروليتاريا الرثة قضى على الأخضر واليابس. أقفرت الخرطوم، ولم تعد تلك التي ترتدي أجمل ثيابها مساء، وتتعطر بمياه العشق والياسمين، وتتسكع راجلة على شارع النيل، ثم تتكئ على جانبيها، وتغتسل بمياهه، والذي بدا وكأنه قد فارق مجراه، وتاه عن “الدرب الأخضر” ولم تعد خطواته نشوي كعادتها. جرفت الحرب الضروس الخرطوم من مظهر إنساني، حتى دعك عن جمالي، وتحولت إلى سرادق عزاء لوطن. تمددت السنة الحرائق كما مدت أيادي آلاف النساء المكلومات يسألون الناس في انكسار وذلة عساهن يجدن ما يسد رمق زغب حواصل تحجرت الدموع في مآقيهم من عضة الجوع، وهم يبيتون على الطوى ليلة وراء ليلة. غادر شباب الوطن عاصمة بلاده لا يحملون من متاع الدنيا سوى أحلام تداعب أخيلتهم عساها تزيح عنهم هذا الكابوس. خرجوا زرافات ووحدانا أصدقاء وإخوة يتسابقون على أرصفة الموانئ وصالات المغادرة جلهم يفاضل ما بين ما يسد الرمق أو سداد كلفة الإجراءات، وهو يتوسد الثرى، ويلتحف السماء. اتسعت رقعة الحرب لتنتقل حسب ما هو مخطط لها في دهاليز أجهزة استخبارات دول محور الشر ووكلائها الإقليميين وحلفائهم الداخليين من أصحاب مشروع مثلث حمدي أو دولة النهر والبحر أو الانكشاريين الجدد ممن يزعمون بأن الديمقراطية يمكن أن تخرج من فوهة البندقية تحت رعاية ممثلي الأنظمة الظلامية من ممالك النفط وإمارات الشر إلى دارفور كهدف استراتيجي. وربما لاحقاً إلى أقاليم أخرى لتدخل البلاد في نفق الفوضى وعدم الاستقرار كاولي مراحل التقسيم والتفكيك، ولعل السماء ستمطر قريبا بعد أن تلبدت سماء الفاشر بالغيوم، ولا إخالها ستمطر حصوا أو بدون براق، بل ربما برقاً عبادياً. كان حرياً بالساسة والكتاب من صناع الرأي تناول هذه الحرب من هكذا جانب لا حصرها في هذا الحيز الضيق واعتبارها جزءا من الصراع على السلطة ما بين المدنيين والعسكر. إنها حرب الكفلاء والصراع على الموارد بامتياز مع التأكيد على أغراضها الأخرى * لم تشتعل هذه الحرب بغتة، فقد سبقتها مراحل من التحضير ابتداء من جريمة فض الاعتصام وتخريب الانتقال وتعطيل مساره بشتى أنواع المكابح؛ ومن ثم انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر وانتهاء بالاتفاق الإطاري الذي أشرف على صياغته المبعوث الأممي فولكر ومعاونيه من الكتبة من قبيلة اليسار اللبرالي، وعهد بتنفيذه إلى دعاة النيولبرالية، ومن يتمشدقون بالثورة بلا نظرية ثورية، والذي كان بمثابة الشرارة التي أضرمت النار في الهشيم، ودق آخر المسامير في نعش البلاد. ليس من مشتغل بالسياسة إلا بائس الفكر، أو من تنكب طريق الوطنية، وحاد عنه ترهيبا أو ترغيبا من يمكن أن يتعامى عن العامل الخارجي دوليا وإقليميا في هذه الحرب ليحشد خطابه السياسي بمفردات تتناسب وسياقات تجاوزها الزمن وأبعد ما تكون عن الواقع الماثل وهو خطاب مضلل بامتياز، ويمكن وصفه وبكل ثقة بأنه عرضة خارج الحلبة. لا يمكن إغفال العامل الخارجي كمعطى أساسي عند تحليل المشهد، ومن المؤكد أنه، وعلى الرغم من الاعتداد بالمجتمع الدولي بكل تبايناته وتقاطعاته، إلا أن ذلك لا يعني بأي حال أن نمضي في طريق مفروش بحسن النوايا في المجتمع الدولي ومؤسساته، على الرغم من أنه واقع لا يمكن تجاوزه أو القفز فوقه عند تناول الشأن الداخلي لأي دولة، لا سيما دول العالم الثالث، ولكن الإقرار بهذا الأمر لا يعني أن ترهن الدول قرارها للهيئات الأممية أو الإقليمية أيا كانت، فقد ظلت البرغماتية هي السياسة المفضلة بكل ما تحمله من تناقضات. علينا أن نقرر في شأن بلادنا بأيدينا وأن لا نترك الفرصة لأيدي “عمرو” لتعبث بنا. نقرأ المشهد السوداني على ضوء متابعتنا لسنوات للواقع في المحيط، ومن قبل متابعتنا لحد ما للمشاريع أو الإستراتيجي الغربي تحديدا في المنطقة العربية والإفريقية فبلادنا وما يجري فيها ليست استثناء إن لم تكن حجر الزاوية على طريق إنفاذ تلك المشاريع التي تهدف إلى تفكيك الدول ونهب مواردها لإيقاف تطورها ونموها. لسنا معنيين بالأسئلة الغبية من شاكلة من أطلق الرصاصة الأولى أو أسباب الحرب فهي محض أسئلة تنم على استهبال سياسي كما نبين أننا لسنا من دعاة الترويج للمصطلح التضليلي حول (عبثية الحرب) فتاريخ الشعوب يقول إنه ما من حرب عبثية إنما تقوم الحرب لخدمة أهداف معلومة ذلك أن مثل هذه الحروب والانقلابات العسكرية في دول العالم الثالث لا بد لها من غطاء سياسي وأمني وما تستلزم من تحضير وإعداد ودعم لوجستي وتسويق سياسي ومن ثم، فإن ما يجري في بلادنا لا يختلف عما جرى في العراق وسوريا وليبيا واليمن إلا في جزئيات متعلقة بطبيعة الدول. إذن هذه ليست حرباً عبثية كما يشاع، بل هي في إطار مشروع دولي تقوم برعايته دول في الإقليم، وتنفذه جهات عسكرية وسياسية داخلية تحت ذرائع وشعارات زائفة لذلك تصدر هذا المقال مقتطف من مقال الدكتور الشفيع خضر يتسق مع ما نراه من وجهة نظر حول هذه الحرب، وإن كنا نختلف مع الدكتور ومع حفظ المقامات بالنظر إلى أن الرجل سياسي ضليع غزير المعرفة ثر التجربة أن ما أشار إليه بوضوح هو السبب الأساسي الحرب، وليس (جانب منها) ومن ثم، فإن المنطق يقول إن المطلوبات والمقترحات بحل الأزمة ينبغي أن تركز على الخارج حيث الفاعلون الحقيقيون والكفلاء لا الوكلاء عسكرا أو مدنيون؛ ومن ثم كشف وتعرية الانفصاليين وتفنيد أطروحاتهم. في ظل سعير الحرب واكتواء الشعب بلظى نيرانها ظل الخطاب السياسي لكل القوى السياسية ومعظم الكتاب من صناع الرأي موغلا في التاريخانية والماضوية بعيدا، بل غريبا عن الواقع الماثل، إذ لم تزل مفردات ومصطلحات الفترة التي سبقت اندلاع الحرب تشكل البنية الأساسية لذلك الخطاب، وكان عجلة الزمن قد توقفت ليظل الخطاب السياسي أسيرا لدى محطات الثورة وسجينا لذاكرة الصراع مع الفلول قابعا في قبو تاريخ العلاقة مع المؤسسة العسكرية المليء بدماء الجراحات النازفة مع أن الخطر الذي يهدد وجود الدولة ككيان لا يحتاج إلى زرقاء اليمامة لتصيح في قومها أني أرى شجرا بسير وكأننا لم نعايش مآسي تفكيك الجيوش الوطنية بشتى الحجج والذرائع ولا ما نجم عن ذلك من تفكك وتفتيت الدولة المركزية. إن لنا في ما فعله “بريمر” عبرة وما فعله طيران التحالف في باب العزيزية عظة، وحري بنا التفطن إلى مآلات اتفاق الطائف وقياس المسافة بينه وجدة. جدير بقادتنا أن يعوا الدرس بأن نهاية الرقص مع الثعابين لدغة قاتلة. ينبغي أن نبحث في تشابه القسمات بين قانون “اجتثاث البعث” والشعار الذي يصادم أهم مقتضيات العدالة، ولا يكفي أن نحتفي بمقولة المفكر الأستاذ محمود بأن “الحرية لنا ولسوانا” بل نجعلها سلوكا في مواجهة الآخر المختلف. علينا مراجعة العنوان فقط لأطروحة المفكر عبد الله بولا، فربما كانت شجرة نسب الغول تقودنا إلى حقيقة أن الإسلاميين لم يأتوا من السماء. ينبغي أن نؤسس لخطاب سياسي يتسق ودقة المرحلة وخطورة المنعطف الذي تمر به بلادنا. تعلمنا في كتابنا الأول ألا حياد في القضايا الوطنية، وأنه ينبغي التزام جانب الشعب ووحدة تراب هذي البلاد. في الجزء الثاني من المقال نكتب حول تفكيك الدول عبر تفكيك الجيوش الوطنية بالاستناد إلى التجارب التاريخية، ونستعرض كذلك التقرير الذي أعدته مجلة فورين بوليسي، ونشرته الحرة في موقعها بتاريخ 13 يوليو 2023، وكيف تحول الصراع في السودان إلى منافسة بين السعودية والإمارات للسيطرة على السودان. الوسوممجدي عبد القيوم «كنب»
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية:
الخطاب السیاسی
هذه الحرب
ومن ثم
إقرأ أيضاً:
السرديات المضللة في حرب السودان
السرديات المضللة في حرب السودان
فيصل محمد صالح
ليستْ هناك سردية واحدة لأسباب وبدايات ومجريات حرب السودان، ليس فقط لاختلاف التفسيرات، ولكن للاختلاف حول الوقائع نفسها، بدايةً من قصة بداية الحرب حتى الآن. هذه السرديات تتعامل بانتقائية شديدة مع الأحداث والوقائع، تأخذ ما تريده وتركز عليه وتتجاهل بقية المعطيات، وترفض ربط الأحداث ببعضها البعض، كما أنها تتعامل بتبسيط مخل… «إما أن تأخذ بضاعتنا كما هي، أو أنك عدونا».
سردية بداية الحرب تتعرض كل يوم لامتحان قاسٍ، عبر الفيديوهات التي تحمل إشارات وأقوالاً مباشرةً وعبر الأسرار التي تتكشف كل يوم عمن خطط لهذه الحرب وأعد لها من قبل شهوراً طويلة. هناك ثروة من التسجيلات واللقاءات والتصريحات وبعضها بها اعتراف صحيح بالمسؤولية عن الحرب، إلا أنه ومن باب الأمانة، ليس ثمة طرف من هذه الأطراف كان يظن أن الحرب ستطول أكثر من ثلاثة أو أربعة أسابيع، وهذه جريمة أخرى. وكثير من التصريحات الحالية لقيادات عسكرية نظامية وأخرى ميليشياوية توضح أن «الدعم السريع» عدو ثانٍ، لكن عدوهم الأكبر هو كل من انتمى لثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، ودونك الحديث الأخير لقائد «كتائب الحركة الإسلامية» المصباح أبو زيد.
الحشد السياسي للحرب كان في قمته، لكن الاستعداد العسكري ثبت أنه كان في أدنى مستوياته، بدليل نتائج الحرب في أول أسابيع. خلال أيام انزوت كتائب الجيش في ثكناتها، المهندسين ووادي سيدنا في أم درمان، سلاح الإشارة ومعسكر حطاب في بحري، والمدرعات وجزء من القيادة في الخرطوم. وما فعلت كتائب الجيش ذلك عن جبن ولا عن استسلام، لكنها كانت بلا تسليح ولا إعداد كافٍ وبلا حتى مجموعات مشاة قتالية كافية.
في الوقت نفسه ثبت أن «الدعم السريع» استعدت للحرب وأعدت قواتها وخططها، تدفعها قبل كل ذلك الطموحات السياسية لقائدها، وكان منطقه البسيط يقول إن معارفه الفطرية من دون تعليم نظامي أو تأهيل عسكري قادته ليكون الرجل الثاني في الدولة، فما الذي يمنع أن يكون الرجل الأول…؟
انظر، من ناحية أخرى، إلى حوادث مهاجمة مدينة بورتسودان بمسيّرات «قوات الدعم السريع»، وما يمثله من تصعيد خطير للحرب ونقلها لمرحلة ثانية. المؤكد أن هذه المسيّرات استهدفت مواقع عسكرية في اليومين الأوائل، لكنها عادت بعد ذلك لتهاجم مواقع للخدمات، مثل خزانات النفط وميناءي بورتسودان وعثمان دقنة وأحد أكبر فنادق المدينة. هذا الهجوم يستحق الإدانة لأن فيه مخالفات واضحة للقانون الدولي الإنساني ولكل المواثيق وتقاليد الحروب في العصر الحديث، ونتائجه المباشرة ستتسبب في زيادة معاناة المواطنين المدنيين ومضاعفة المخاطر التي يتعرضون لها.
هل يجب أن يكون المبدأ أن استهداف المواقع والمنشآت المدنية مدان ومرفوض، وهو من جرائم الحرب، أينما كانت هذه المنشآت وأياً من كان يستهدفها، أم أن الأمر يمكن أن يخضع للانتقائية…؟
الحقيقة أننا شاهدنا الانتقائية وعدم الموضوعية من على منصات ومواقع وصفحات أفراد كثيرين. فقد سبق للطيران الحربي الحكومي أن هاجم منشآت مدنية وأسواقاً ممتلئة بالمدنيين وراح ضحية ذلك المئات بينهم نساء وأطفال. وكان من المقزز أن تقرأ للبعض وهو يصفق ويهلل ويسمي سلاح الطيران بـ«صانع الكباب» في الإشارة لجثث الضحايا المتراكمة فوق بعضها البعض. وكانت الكتابات التي تشجع وتدعو لتدمير المنشآت المدنية والبنيات الأساسية من جسور ومنشآت اقتصادية كبرى، مثل مصفاة البترول تتوالى كل يوم. بل إن أحد أهم أبطال السوشيال ميديا المؤيدة للحرب دعا في تسجيل شائع وموجود قيادة الجيش لمهاجمة أماكن اعتقال أسرى الجيش وقصفها وتصفيتهم «حتى لا يصبحوا ورقة ضغط في يد (الدعم السريع)».
من المؤكد أن سردية «قوات الدعم السريع» بأنها جاءت لمحاربة فلول النظام السابق ونصرة الديمقراطية وعودة الحكم المدني أضعف بكثير من أن يتعامل معها المرء بجدية ليعمل على تفنيدها، فقد ذاق المواطنون المدنيون ثمار ديمقراطيتهم هذه في الخرطوم والجزيرة وسنار ومناطق أخرى كثيرة، قتلاً ونهباً واغتصاباً. الحقيقة أنها ظلت طوال هذه الفترة عبارة عن بندقية تبحث عن قتيل، لا يسندها منطق ولا رؤية سياسية أو وطنية عامة. ولعل هذا ما دفع قيادة «الدعم السريع» للتحالف مع كيانات وأحزاب وحركات مسلحة لديها مشاريع سياسية، لعل وعسى. لكن ستظل الصور الدموية في ود النورة والتكينة والهلالية وقرى البطانة في الذاكرة دائماً، حتى يوم قريب يأخذ فيه كل مجرم ومنتهك، أياً كان موقعه أو منصبه، نصيبه من العقاب.
* نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط
الوسومالجيش الحركة الإسلامية الدعم
السريع السودان الشرق الأوسط المسيرات المصباح أبوزيد بورتسودان فيصل محمد صالح