أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة تحت القصف
تاريخ النشر: 20th, March 2024 GMT
يقول الروائي الألماني أريش ماريا ريمارك في روايته الأشهر "كل شيء هادئ في الجبهة الغربية" الصادرة عام 1929، "من المستشفى فقط يمكنك أن تعرف فظاعة الحرب". وأنت تقرأ يوميات التشكيلية ورسامة الكاريكاتير الفلسطينية المعروفة أمية جحا المقيمة في غزة والتي ستُنشر حصريا علي الجزيرة نت، حتما ستذكر رواية ريمارك، للتشابه الكبير بين ما يحدث الآن عل الأرض في غزة من استهداف للفلسطينيين وما حدث في الحرب الكونية الأولى من فظائع.
سردت السيدة جحا في يومياتها ما يحدث يوميا على الأرض في مستشفى الشفاء بغزة، من مشاعر متباينة للمواطن الفلسطيني، مشاعر متوزعة وسط النزوح بين الصمود والخوف والقلق وضبابية معرفة موعد انتهاء كل تلك المعاناة بانتهاء الحرب.
كتب ريمارك روايته بعد أن شارك كجندي في الحرب العالمية الأولى. عاد إلى بلاده ودون تفاصيل دقيقة داخل الرواية حول ما حدث من فظائع لا تمت للإنسانية بصلة، حكى مطولا عن الأحداث الإنسانية اليومية للجنود من شجاعة وضعف وأمل وذكريات وحب، حكى عن الحرب كجريمة في خاصرة الإنسانية.
حكايات من "منطقة الموت"وثقت أمية جحا في يومياتها ذات الـ10 أجزاء والتي خصت بها شبكة الجزيرة، الأوضاع الإنسانية القاسية التي تدور أحداثها في مستشفى الشفاء بغزة، والذي وصفته منظمة الصحة العالمية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في تقريرها الدوري بأنه "منطقة موت".
تقول أمية"على الجانب الأيسر مني تفترش الأرض عائلة هيام. صبية تزوجت منذ 5 أشهر وحامل حديثا، تم قصف بيتها، فيما كان زوجها مسافرا لفترة قصيرة إلى مصر قبيل اندلاع الحرب بأيام. لجأت إلى بيت والديها، أمها تخشى عليها وعلى جنينها من رهبة القصف، قالت لي: ليتني أستطيع أن أخبئها هي وإخوتها في رحمي من جديد! أختها سندس ذات الـ15 ربيعا، أصيبت بحصر في البول من الخوف، كانت دائمة الاهتمام ببشرتها، تضع كريما مرطبا على وجهها ويديها قبل وبعد النوم، حتى في أيام الحرب".
"مأساة الأمهات هنا، في صعوبة توفير الملابس البديلة، وفي الإحراج الناجم عن غسل الفراش المبلل، وكيفية نشره ليجف، وفي صعوبة الاستئثار بالحمام، في ظل حاجة الجميع له، ناهيك عن إمكانية وجود الماء أصلا! فغالبا لا يتوفر الماء إلا بعد عصر كل يوم، ويكون مذاقه ملحا أجاجا".
ومثلما كتبت عن المواقف المأساوية لم تنس السيدة جحا سرد إيجابيات النزوح الجماعي في شخص الطفلة هاجر "هاجر طفلة في الـ11 من عمرها، كانت تعاني فوبيا صوت الصواريخ في بيتها، تقول أمها بأنها كانت لا تفارقها، حتى لو اضطرت أمها إلى دخول الحمام لقضاء حاجتها! لم تعد هاجر اليوم تخشى أصوات الصواريخ، وهي وسط النازحين! ولا تضع يديها على أذنيها لتلافي سماع أصواتها".
في خضم كل تلك المآسي لم تغفل السيدة جحا في يومياتها أيضا عن توثق المواقف الطريفة بين النازحين في مستشفى الشفاء. "أما أم البراء، فهي سيدة في بداية العقد الرابع من عمرها، موظفة في وزارة الأوقاف. كانت من أوائل النازحين إلى المشفى، بعد تهديد بيتها وبيوت بعض جيرانها بالقصف! آثرت أم البراء أن تجعل في مكوثها رسالة دعوة إلى الله أيضا، فتقوم بإعطاء المحاضرات الدينية القصيرة، يتجمع حولها النازحون، ويستمعون لها باهتمام. أم البراء تحمل حسا فكاهيا أيضا، قالت لي: اليوم يبلغ زمن مكوثي هنا 21 يوما، لو كان تحتي بيض، لكان حولي الآن صيصاني".
وتختزل أخيرا كل المشهد في تجربة شخصية لها مع البرتقال بعد أسبوعين من اندلاع الحرب "اليوم فقط تمكنت من تناول نصف حبة برتقال، تمكن زوج أختي من شراء كيلوين من البرتقال، إنه موسم الحمضيات في غزة، ولكن من ذا الذي يجرؤ على قطف ثمار بستانه!! وكمْ من البساتين وآلاف الدونمات الزراعية تم تدميرها!؟".
خليفة ناجي العليتسكن أمية في برج زغبر بحي النصر شمال غربي غزة، وهو الحي الذي قصفته قوات الاحتلال في أول أيام الحرب. عشقت الرسم منذ نعومة أظافرها، كانت ترسم علي جدران وأرضية منزل أسرتها بالفحم أو الطباشير ولم تسلم بالطبع دفاتر إخوتها الكبار من خربشاتها. طوال فترة دراستها الأولى زاد التصاقها بالرسم بعد أن وجدت التشجيع من معلميها، وكان أكثر رسمها آنذاك ينحصر في رسم الطبيعة فقط، إلى أن لفت انتباهها فن الكاريكاتير عند الفنان الفلسطيني الشهيد ناجي العلي والرسام اللبناني محمود كحيل.
تقول أمية في تصريح خاص بالجزيرة نت: أسرني ناجي العلي بأفكاره القوية والتعليق الطويل المصاحب للرسم، وشكل الخط واللونين الأبيض والأسود. فناجي العلي لم يكن يحتاج للألوان ليلفت المشاهد لقوة وجمال الرسم.
تستطرد السيدة جحا: كنت لا أزال غضة العمر والتجربة والإدراك، حين عرفت فلسطين ومأساة اللاجئين وحجم المؤامرات التي تحاك على شعبنا وحقوقه. من هنا كانت بداياتي في متابعة الصحف والاهتمام بقراءة الأخبار والمقالات، وتقليد رسومات ناجي العلي حتى منتصف سنوات الجامعة، والتي صار حينها لقب "خليفة ناجي العلي" لصيقا بي. لاحقا أردت أن يكون لي بصمتي الخاصة الفريدة رسما وأفكارا، ولكنها في الوقت ذاته بصمة تصب في القضية ذاتها التي استشهد لأجلها هذا الفنان الرائد -رحمه الله- ومنها صرت أقيم المعارض الشخصية لي في جامعة الأزهر بغزة.
عملت أمية بالتدريس لـ3 أعوام، لكنها آثرت الالتحاق بالعمل الصحفي في مجال الكاريكاتير في العام 1996. التحقت أولا بصحيفة "الرسالة" الأسبوعية، ثم صحيفة "القدس" كبرى الصحف التي تصدر في فلسطين، وغيرهما من الصحف والمنصات الصحفية المحلية والعربية. حصلت أمية على الجائزة الأولى في الكاريكاتير التي أقامتها وزارة الثقافة الفلسطينية عام 1999، والجائزة الأولى في الكاريكاتير في الصحافة العربية بدولة الإمارات العربية المتحدة عام 2001، وأخيرا الجائزة الكبرى في مسابقة ناجي العلي للكاريكاتير في تركيا عام 2010.
في عام 2005 أسست أمية شركة لصناعة الرسوم المتحركة، أنتجت فيها العديد من الأناشيد والأغاني الكرتونية الخاصة بفلسطين، وكذلك أنتجت أول فيلم كرتوني يتحدث عن نكبة فلسطين باسم حكاية مفتاح"، كما أصدرت 10 أعداد من مجلة" يزن الشهرية الخاصة بالأطفال. تابعت أمية لاحقا دراساتها العليا وحصلت على الماجستير في التاريخ في عام 2019.
تقول السيدة جحا في مذكراتها، والتي شرعت في كتابتها بعد مرور 18 يوما على بداية الحرب وهي تصف المشهد في مستشفى الشفاء "كنت أبكي بصمت. ما ذنب هؤلاء الأطفال والنساء، ليتشردوا بهذا الشكل المهين؟ كان مشهدهم وهم نيام، أشبه بجثث لفظها البحر، فتوزعت بغير انتظام، بعضها فوق بعض! كيف ستمحى هذه التغريبة من ذاكرتهم؟".
في آخر اليوميات التي وصلت منها للجزيرة نت بتاريخ الجمعة 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 تقول السيدة جحا "كل المؤشرات كانت تدل على أن ليلة الجمعة ستكون حاسمة، فالقصف العنيف يشتد ويقترب من مشفى الشفاء، وبقيت الاشتباكات مع المقاومة مستمرة.
حتى إن إدارة المشفى تركت أبواب الطابق الأرضي مفتوحةً للرجال هذا المساء، في حال حدوث قصف مباغت للمشفى، فيتمكن الرجال من دخول الأقسام، لنجدة ذويهم في الطوابق الـ5، الخاصة بقسم الولادة، كان جميع من في العنبر يشعرون بالخوف والترقب، وكثير منهم لملم أغراضه، ليرحل في الصباح من المشفى، منهم من كان يريد العودة لبيته، حتى لو قصفوه عليه، وكثير منهم كان ينتوي التوجه للجنوب، حتى وهو يسمع من هنا وهناك عن مخاطر الطريق الآمن! أما أنا فقد قررت البقاء في المشفى".
بين يديك عزيزي القارئ -على مدار الأيام المقبلة- يوميات سيدة فلسطينية من حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، تحب القطط والعصافير والجيران وترسم اللوحات، تحتمي الآن بمستشفى الشفاء بغزة تحت القصف وتفترش بلاط المستشفى البارد في انتظار النجاة.
ملاحظة: تواريخ كتابة هذه المذكرات ليست يومية ومتتابعة وفق أيام الأسبوع، لكنها يوميات كتبت في أيام متفرقة وفق توقيت الحرب وعلى السادة القراء مراعاة فروق الوقت.المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 حريات فی مستشفى الشفاء ناجی العلی أمیة جحا جحا فی
إقرأ أيضاً:
نهال علام تكتب: وعملت إيه فينا السنين
لم يكن هذا الظلام الدامس الذي حل على تلك القاعة الفاخرة، أميناً ساتراً، نزيهاً منصفاً، وكيف له ذلك وقد كشف عن دمعة ندت من عينيها وارتعاشه يديها، وموسيقى عصبية اندلعت في ضربات قلبها التي أصبحت كدوي الطبول التي تعلن الحرب أو .. الحب.
"تخونوه وعمره ما خانكم"•• هي الجملة التعجبية التي فتحت شغاف قلب الوردة الحريرية، عندما انطلقت بانسيابية في قاعة السينما المظلمة والقابعة بإحدى المدن الفرنسية، ولم يكن الفضل للكلمات التي كتبها إسماعيل الحبروك، ولا لإنهيار صلاح بطل الفيلم الذي عامله والد سميحة كالصعلوك، ولكن بسبب ألحان تلك الأغنية التي ذابت الوردة بين نغماتها، كما يذوب البهاء في مواكب الملوك.
ومن هنا كانت البداية لأجمل وأتعس حكاية، حنين العزف على أنين النزف، حب بلا أمل، ثم زواج صاحبه كلل، فطلاق أودى بكليهما للعديد من العِلل، فصل خالد في رواية الحب المأثورة، اكتملت به مآسي حكاياتها الموسومة بالفرح القليل ،والحزن الكبير والفقد العظيم والحرمان الغفير، ثم تتطور فصولها لفِراق بلا افتراق، وحريق دون احتراق.
رواية فصولها قيس وليلي، عنتر وعبلة، شمشون ودليلة، نيتشه وسالومي، بليغ حمدي ووردة الجزائرية، قصة كتبتها الألحان وخلدتها الأغنيات لذا لن تصبح يوماً نسياً منسياً، فهي نهج لكل إنسياً، زاره طيف حب ظن أنه منه آمناً مزوياً ولم يفق إلا على إنفجار مشاعره بصخب مدوياً.
في عام 1957، كانت وردة ذات الثمانية عشر عاماً تشاهد فيلم "الوسادة الخالية" في إحدى دور العرض بباريس، وما أن استمعت للحن تخونوه، حتى وقع في قلبها دبيب حّرك الجَليد، النابع من الاغتراب وتحديات النجاح والشهرة في قلب الشباب، لذا خرجت من السينما عاقدة النية للمجئ لمصر ولقاء هذا الملحن العبقري الذي عزف على أوتار قلبها دون أن تراه.
وفي العالم الموازي يتلقى هذا الملحن الموهوب دعوة لمنزل الفنانة صباح، حيث دعاه زوجها عازف الكمان أنور المنسي للاستماع لبعض الأسطوانات، ومن بينها وردة وهي تغني إحدى أغنيات كوكب الشرق، وما أن استمع إليها بليغ حتى سكنه طيفها قبل أن يراها، وتمنى لو يراها ليجعل منها نجمة في عالم الغناء وهذا ما قاله علناً، ولتكون مليكة قلبه وهذا ما ردده قلبه سراً.
كانت لحظة أخلص فيها بليغ الدعاء، فما كان من أبواب السماء إلا أن فتحت على مصراعيها، لتستقبل دعواته وترتب لقائه بوردة حياته، ففي مطلع الستينيات كان اللقاء الاول في منزل المبدع الفنان محمد فوزي الذي رشح بليغ قبل ذلك للتلحين لأم كلثوم عندما أرادت تغيير القالب السنباطي الغالب على أغنياتها، ليمنحه نقطة تحول في مسيرته الفنية عندما لحن لها "حب إيه".
ويبدو أن فوزي أهداه أيضاً حب عمره دون أن يدري، أو ربما بحس الإنسان كان يدري، فمنحه لقاء رفيقة دقاته القلبية حتى بعد المؤامرات الحياتية، وفي هذا اللقاء تم الاتفاق على أن يقوم بليغ بتلحين أغنية يا "نخلتين في العلالي" التي سيتضمنها فيلم "ألمظ وعبده الحامولي"، والذي كان سبب زيارة وردة لمصر بدعوة من المنتج والمخرج حلمي رفلة لتقوم ببطولة الفيلم بعد أن رآها في فقرتها الثابتة التي كانت تؤديها في النادي الذي يمتلكه والدها بباريس، وكانت تقوم بتقديم أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ.
ولأن الحب كالعِطر لا يختبئ، ففي بروفات العمل والتي كان يحضرها وجدي الحكيم، تسرب العِطر لشقيق وردة الذي كان يرافقها في تلك الزيارة، وكيف لا وبليغ كان قد أعترف لوجدي بأنها " هزته" كما لم تفعل أي إمرأة أخرى.
أبلغ شقيق وردة ما نما إلى حدسه لوالدها فما كان منه إلا أن رفض استقبال بليغ حمدي ووجدي الحكيم ومجدي العمروسي عندما ذهبوا ليطلبها بليغ للزواج، لرفض والدها القاطع أن تتزوج ابنته من الوسط الفني واصراره أن تقترن برجل جزائري الجنسية، لذا بعد أن انتهى الفيلم سافر الوالد بصحبة ابنته فوراً للجزائر، وكانت الزيارة الأولى لوردة لبلدها، وزوجَها من ضابط جزائري قريب لها وانجبت ولدين وابتعدت عن الفن، ولكنها طُلقت بعد ذلك بسنوات قليلة.
ولأن للقدر كلمة، وللنصيب زمان وحكمة، كان العام 1972 أي بعد مرور قرابة العشر سنوات على حادثة كسر القلوب، وأثناء الاحتفال بالذكرى العاشرة لثورة الجزائر بمشاركة وفد من الفنانين المصريين وعلى رأسهم بليغ، والجزائرين وفي مقدمتهم وردة المحتجبة في ذلك الوقت، ولكن طلبها الرئيس الجزائري هواري بومدين بشكل رسمي لتشارك في الاحتفال، وهناك التقى الحبيبان مرة أخرى ونتج عن هذا اللقاء التحفة الفنية "العيون السود" وقرار الزواج الذي استحال لقرن من الزمان.
يمكن أن تستمع لقلب بليغ النابض في رائعته "العيون السود" التي كتبها صديقه محمد حمزة بمداد ألم قلب بليغ وأفكاره التي أمد بها صديقه، وقام بتلحينها وغنتها وردة، لنظل جميعنا لليوم نتسائل "وعملت إيه فينا السنين"!
لم تبارح وردة قلب بليغ لحظة طوال تلك السنوات، حتى إن أم كلثوم لاحظت أن بليغ يتعمد إستخدام قوالب معينة أو كلمات محددة يضيفها أو يغيرها لأغانيها فمازحته ذات مرة قائلة " أنت يا واد بتبعت رسائل للبنت اللي بتحبها عن طريقي، أنت عاملني كوبري يا ولد"، وتلك كانت حقيقة كشفتها أغنية العيون السود الرقيقة "كل غنوه عالفرح كانت عالجرح كانت، على الصبر كانت، عالحب كانت، كتبتها وقلتها كانت عشانك".
في نفس العام الذي لحن فيه بليغ "حكم علينا الهوى" آخر ما غنت ثومة 1973، أتم زواجه على وردة في منزل الفنانة نجوى فؤاد، وسط لوم اللائمين العالمين ببواطن الأمور عن نوبات الجنون التي تنتاب هؤلاء المعجونين بالفنون، لذا فلولا الملامة لم تكن إلا إشارة وعلامة عن تلك الحالة.
ست سنوات هي عمر تلك الزيجة، التي انتهت لأن هذا قدرها، دون أن نتيقن هل هي الغيرة النسائية من النجمة الصاعدة سميرة سعيد المغربية، أم هي العاطفة الأبوية التي كانت تلح على بليغ لينجب طفلاً من وردته الاستثنائية، الأمر الذي رفضته وردة بحزم حتى لا تتعطل مسيرتها الفنية!
وفي اليوم الثاني للطلاق التقت وردة بصحفي سألها عن علاقتها ببليغ فما جاء الرد إلا من كبرياء الأنثى التي تواري ضعفها بانفلات لسانها، فردت على الصحفي "هو مين بليغ"!
تلقى بليغ الواقعة بألم، فجاء رده ممزوج بالنغم وكانت بمثابة ميلاد تحفة فنية أخرى وهي "أنا الحب اللي كان، اللي نسيته أوام من قبل الأوان، نسيت إسمي كمان، نسيت يا سلام على غدر الإنسان"، ولم يكن هناك أفضل من ميادة الحناوي لتشدو بصوتها الدافئ تلك الكلمات وخاصة أن قلب ميادة يحمل غِصة من وردة على وقعة سابقة.
فقبل تلك الواقعة بعام كانت ميادة تستعد لإطلاق أغنيتها الجديدة "في يوم وليلة" والتي قام بتلحينها محمد عبد الوهاب، حيث خضعت لبروفات وتحضيرات ناهزت 18 شهر، لتخرج الأغنية بالشكل اللائق، ولكنها اضطرت للسفر لسوريا فجأة مما أثار حفيظة عبد الوهاب وحنقه، لعدم التزامها وقرر أن تقوم وردة بغنائها، حتى أنه قبِل اقتراحاتها وتعديلاتها في بعض مقاطع الأغنية، لتقدم لنا وردة واحدة من أروع الأغنيات على الإطلاق، وساهم في نجاح تلك الأغنية أنها تقاطعت مع ملامح قصة الحب الأشهر بينها وبين بليغ الذي بدأ قبل أن يلتقيا، وذلك ما جسده المقطع القائل "عمري ما شفته ولا قابلته، وياما شاغلني طيفه، وفي يوم لقيته، لقيته هو، هو اللي كنت بتمنى أشوفه، نسيت الدنيا وجريت عليه، سبقني هو وفتح إيديه".
ارتبط تاريخ وردة فنياً وقلبياً ببليغ حتى بعد طلاقهما، حيث تعاون بليغ ووردة خلال زواجهما وقدما ما يزيد عن 150 أغنية هي أروع ما غنت وردة ولحن بليغ، وبعد سنوات من الطلاق الفني وفي عام 1991 وقبل وفاة بليغ بعامين، قدم لها أغنية بودعك، ليمنحها وداعاً يليق بقدرها، ومدى حبه لها.
في 17 من شهر مايو تحل ذكرى رحيل وردة التي تركت عالمنا في عام 2012 إثر أزمة قلبية، ولكن كعادة العظماء رحيل مطعم بالحضور، غياب وكأنه الإياب، فِراق طازج الشعور، قصة حب خالدة وحياة كانت إلى حد بعيد غير هادئة، ولكنها بالطبع لم تكن عادية كانت استثنائية اللقاء والبقاء رغم تغير لعبة الأيام..
ويشاء القدر أن تكون "لعبة الأيام" هي أغنية من أجمل أغنياتها التي غنتها عام 1963 ولحنها السنباطي، بعد لقائها ببليغ وكأنها تشدو بالنهاية قبل البداية، نهاية اختار كلاهما ألا تعقبها أي بداية فلم يتزوج أي منهما بعد انفصالهما، فما في القلب سيظل محله القلب والكلمات رغماً عن أنف الحياة، وعنداً فيما تشاءه النهايات.