الجزيرة:
2025-05-09@22:35:31 GMT

فتح وحماس وسؤال الانفصال عن الواقع

تاريخ النشر: 26th, March 2024 GMT

فتح وحماس وسؤال الانفصال عن الواقع

من أكثر ما يلفت النظرَ في بيان حركة فتح الذي صدر في 15 مارس / آذار 2024، والذي وزَّعته وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"، اتهامُ حركة حماس بأنّها "مفصولة عن الواقع"!!

يتابع كاتب هذه السطور بيانات حركة فتح منذ عشرات السنوات كجزء من تخصصه واهتماماته؛ ولعله يرى أنّ هذا البيان هو أكثرها "انفصالًا عن الواقع"، وهو مليء بادعاءات عفا عليها الزمن.

كما أن الأسلوب الذي كُتب به لا يليق بحركة واسعة لها ماضيها النضالي، وتقود "الشرعية" الفلسطينية!!

جاء بيان فتح بسبب معارضة حماس للطريقة التي قام بها محمود عباس بتعيين محمد مصطفى رئيسًا لوزراء السلطة، وتكليفه بتشكيل حكومتها في 14 مارس/ آذار 2024. والحقيقة أنّ الاعتراض لم يكن من حماس وحدها، فقد صدر في بيان في اليوم التالي شاركت فيه الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثاني أكبر فصيل في منظمة التحرير، وحركة الجهاد الإسلامي، والمبادرة الوطنية.

والبيان الذي جاء هادئًا وموضوعيًا تحدث عن خطورة المرحلة ومواجهة العدوان والتصدي لجرائم الاحتلال، وضرورة التوافق الوطني في هذه الظروف، واستنكر نهج التَّفرد الذي تتبناه قيادة السلطة والمنظمة وفتح، والذي يُعمِّق الانقسام في هذه اللحظة الفارقة؛ بينما يتم استبدال شخصٍ من البيئة السياسية والحزبية ذاتها.

من ناحية ثانية، كان "الانفصال عن الواقع" هو أيضًا السمة الأبرز لكتاب تكليف عباس (رئيس فتح والمنظمة والسلطة) لمحمد مصطفى برئاسة الوزراء؛ وهو ما كان سببًا في استفزاز الفصائل الفلسطينية وصدور بيانها.

وفي هذا المقال لدينا بعض الوقفات مع كتاب التكليف ومع بيان فتح:

تكليف يتجاهل معركة "طوفان الأقصى"

ظهر القفز الأكبر على الواقع في تجاهل معركة "طوفان الأقصى"، والزلزال الذي أحدثته في الكيان الإسرائيلي لأول مرة منذ إنشائه قبل 75 عامًا، وسقوط نظريته الأمنية؛ وتجاهل حقيقة التأييد الشعبي الفلسطيني (والعربي والإسلامي) الواسع لهذه العملية؛ بينما اكتفى كتاب التكليف والبيان بالإشارة إلى الآثار الناتجة عن العدوان الصهيوني على غزة، متجاهلًا مرة أخرى البطولات الأسطورية التي سطرتها المقاومة في مواجهة العدوان، والخسائر الهائلة التي يتكبدها العدو لأول مرة بهذا الحجم منذ إنشائه.

ويتحدث كتاب التكليف والبيان عن الإغاثة وتوفير الاحتياجات والإعمار، وهي أمور مهمة، ولكن بشكل منفصل تمامًا عن أجمل ما في الشعب الفلسطيني من بطولات ومقاومة وصمود وتضحيات!!

تكليف يراعي الاعتبارات الإسرائيلية الأميركية

ويتجلى الانفصال عن الواقع، في أن يصدر كتاب التكليف بالطريقة التقليدية الرتيبة لـ"دولة فلسطين"، وكأن أعمال الحكومة ستُنفذ في "سويسرا"، وليس في أرضٍ تحت الاحتلال، وشعبٍ تحت الاحتلال، وفي ظروفِ أشرس وأقذر الحروب وأكثرها وحشية على شعبنا الفلسطيني بما فيها من إبادة وتجويع وتدمير.

وهو ما كان يستدعي – على الأقل كما يفعل أي نظام سياسي يحترم نفسه – تشكيل حكومة وحدة وطنية، أو حكومة طوارئ، تُوحد الجهود والطاقات في مواجهة العدوان واستحقاقات المرحلة.

لقد قام العدو بتشكيل حكومة طوارئ ومجلس للحرب، بالرغم مما يملكه من إمكانات هائلة وتحالف عالمي يقف خلفه؛ أما قيادة السلطة (قيادة المنظمة وفتح) فتجاهلت كل جهود لمّ الشمل الفلسطيني؛ وفضلت أن تُشكّل حكومة جديدة وفق الاعتبارات والمعايير الإسرائيلية الأميركية الغربية؛ لتكون جاهزة ليس للوقوف مع المقاومة في مواجهة العدوان، وإنما لتسلُّم قطاع غزة والحلول مكان المقاومة بعد "سحق حماس"، بحسب المخطط الإسرائيلي الأميركي.

واختارت شخصًا كان المعيار الأساس لقبوله هو موافقة الأعداء والخصوم عليه؛ دون أدنى اعتبار للإرادة الشعبية الفلسطينية و"للقرار الوطني الفلسطيني المستقل"!!.. فهل ثمة أسوأ من هكذا انفصال عن الواقع؟!

ووصل الأمر – بحسب ما نقلت وكالة "قدس الإخبارية" في 21 مارس /آذار 2024- إلى أن لجنة أوروبية من موظّفي السفارات في رام الله تعقد مقابلات شخصية مع الوزراء الذين اقترحهم محمد مصطفى لحكومته؛ لتتأكد من مؤهلاتهم وصلاحياتهم "للوظيفة" وفق المعايير الغربية، وأن الذهاب للمقابلات كان بطلب من محمد مصطفى نفسه!!

وهذا الخبر يُعزّزه خبر نشرته "قدس برس" في اليوم نفسه؛ أن لجنة سداسية أمنية – تضم ممثلين عن أميركا ومصر والأردن والسعودية والإمارات، بالإضافة إلى السلطة – تقوم بدراسة ترشيحات محمد مصطفى للوزراء، وأن من أبرز شروط القبول ألا يكون للشخص ماضٍ نضالي، أو سبق اعتقاله في سجون الاحتلال!!

أما ما يصيب المتابع بالغثيان، فهو أن يأتي بيان فتح ليتحدث عما يُسميه ارتهان حماس لـ"أجندات خارجية"!! بل واستخدام لغة غير لائقة تتساءل: إن كانت حماس تريد "أن نُعيّن رئيس وزراء من إيران أو تُعينه طهران لنا"؟! وهو يعلم قبل غيره أن قرار حماس مستقل، وباعتراف وتأكيد الإيرانيين أنفسهم، وأن الالتقاء في خط المقاومة قد يعني التعاون والشراكة، ولكن لا يعني التبعية. وكان على من كتبوا بيان فتح أن يعلموا أن "من بيته من زجاج لا يرمي الناس بالحجارة"!!

أداء حكومي يتجاوز القوى الفلسطينية الفاعلة

 

يبرز الانفصال عن الواقع في كتاب التكليف الذي يطلب من مصطفى قيادة وتنظيم وتنسيق جهود الإغاثة في قطاع غزة، وتنظيم ملف إعادة الإعمار، ووضع الخطط والآليات لعملية إعادة توحيد المؤسسات بين المحافظات الشمالية والجنوبية كوحدة جغرافية واحدة.

ويتجاهل الكتاب تمامًا الحقائق على الأرض في قطاع غزة. فليس الأمر متعلقًا بزلزال أرضي أصاب منطقة في دولة ما، كما يحدث في اليابان أو تركيا والمطلوب علاج تداعياته؛ وإنما هناك احتلال وعدوان وحشي مدمر يريد إعادة تشكيل النظام السياسي في القطاع وفق المعايير الصهيونية؛ وهناك مقاومة بطولية راسخة تلتف حولها الجماهير، كما تشير استطلاعات الرأي التي أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في رام الله، وظهرت نتائجها في ديسمبر /كانون الأول 2023 ومارس/ آذار 2024، والتي تتوقع انتصار حماس، وتتوقع سيطرة حماس في اليوم التالي للحرب، وتُفضل أيضًا سيطرة حماس على القطاع، وبأغلبيّات شعبية تقارب الثلثين.

وهي الاستطلاعات نفسها التي لا تعطي أكثر من 11% لسيطرة سلطة رام الله بقيادة عباس على القطاع. وبالتالي فالمنفصل عن الواقع، هو الذي يتجاوز المقاومة وحماس، ويتجاهل أي تفاهم وطني مسبق، مع القوى الراسخة شعبيًا وفعليًا على الأرض، على أمل أن يُهيِّئ له الاحتلال والأميركان بيئة أفضل للحلول مكان المقاومة.

شراكة "شعاراتية"

يتحدث كتاب التكليف عن تعزيز ثقافة الشراكة والحوار والمكاشفة والشمولية والمشاركة في اتخاذ القرارات، ويؤكد على اتخاذ الإجراءات اللازمة والتحضير للانتخابات الرئاسية والتشريعية.

وبعيدًا عن هذه اللغة "الرومانسية"، فإن كتاب التكليف نفسه وتعيين محمد مصطفى جاء مناقضًا لروح الشراكة؛ بينما استمرَّت ممارسات قيادة السلطة وفتح باحتكار السلطة ومنظمة التحرير ومؤسساتها على مدى عشرات السنوات، وبالتهرب من أي استحقاقات انتخابية تمثيلية حقيقية وإلغائها، وباستبعاد قوى فلسطينية فاعلة عن الشراكة في القرار، وإلغاء المجلس التشريعي، وقمع الحريات في الضفة الغربية، ومطاردة المقاومة ورموزها.

ويتجلى التناقض والانفصال عن الواقع في مطالبة كتاب التكليف بتقديم كل دعم ممكن للمنظومة القضائية وتمكينها من أداء دورها. بينما قام عباس الذي أرسل كتاب التكليف بعمل "مذبحة" قضائية، فأنشأ محكمة دستورية على هواه، واستخدمها في تعطيل المجلس التشريعي، وأحكم قبضته على مجلس القضاء الأعلى، واستخدم القضاء في التضييق على النقابات وعلى الخصوم.

كما يتجلى التناقض والانفصال عن الواقع في حديث كتاب التكليف عن إصلاح المؤسسات، وصولًا إلى نظام حوكمة شفاف، بينما قام عباس خلال الـ 17 عامًا الماضية، بتدمير العمل المؤسسي، والهيمنة على السلطة التشريعية والقضائية، وتكريس حكم الفرد، وإصدار أكثر من 400 قانون ومرسوم رئاسي، وتجاهل كل نداءات الإصلاح والشراكة السياسية وإعادة بناء منظمة التحرير.

المراهنة على الحصان الميت

الانفصال عن الواقع يتجلّى في أن قيادة فتح تُصرّ منذ أكثر من 30 عامًا على مسار التسوية السلمية الذي مات وشبع موتًا، والذي استخدمه الإسرائيلي كـ"ورق تواليت"، لتهويد الأرض والمقدسات؛ كما يتجلّى هذا الانفصال في الإصرار على التنسيق الأمني مع العدو، حتى وهو يمارس وحشيته وتدميره ومجازره ضدّ شعبنا، وحتى بمخالفة الإجماع الفلسطيني ضدّ هذا التنسيق؛ بل، وبمخالفة قرارات المجلس الوطني والمجلس المركزي بوقف هذا التنسيق.

أزمة البوصلة

تأتي أزمة الهوية والبوصلة والتموضع السياسي لدى من كتبوا بيان فتح، عندما اتهموا حماس بالتَّسبب بالنكبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وخصوصًا قطاع غزة؛ في لغةٍ تفشل (في خضم المعركة) في التفريق بين وحشية العدو، وبين بطولة المقاومة!!

فوَفق استطلاعات الرأي للشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع فإن اللوم على معاناة غزة ينصبُّ بنسبة 84% على الاحتلال الإسرائيلي وعلى الأميركان، ومن وضع اللوم على حماس لا يتجاوز 7%، حتى بعد خمسة أشهر من المجازر والدمار؛ أي أن فتح وقفت عكس الأغلبية الساحقة للرؤية الشعبية الفلسطينية، واختارت اللوم الذي يريح العدو وحلفاءه.

في المقابل فإن الغالبية العظمى- وبنسبة 71%- ما زالت ترى صوابيَّة قرار حماس بشنّ عملية "طوفان الأقصى"؛ مع أن 78% ممن تم استطلاعهم من قطاع غزة قالوا؛ إنه قد قتل أو أصيب شخص واحد على الأقل من أفراد عائلتهم. بل إن غالبية كبيرة بنحو 75% ترى أن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول أحيا الاهتمام الدولي بالقضية، وأعطى فرصًا أفضل للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو ما فشل فيه عباس وسلطته طوال ثلاثين عامًا.

استشارة إدارة التنسيق الأمني!

يخرج بيان فتح عن أي درجة من الواقعية عندما يستغرب أن حماس لم تَستشر قيادة رام الله أو فتح في عملية "طوفان الأقصى"!! وكأن هذه العملية الإستراتيجية الكبرى تحتاج استشارات كاستشارات اختيار العروس أو شراء العقارات!! وفتح تعلم قبل غيرها أن نجاح العمليات العسكرية من هذا النوع يكمن في سريتها المطلقة، لدرجة أن قيادات كبيرة في حماس نفسها لم تكن على علم بها.

هذا دون الخوض في أنه سيكون من السخف والمثير للسخرية استشارة من يمارس التنسيق الأمني اليومي مع العدو ويطارد المقاومة. ثم عن أي استشارة يتحدث البيان لقيادة سلطة أَصمَّت آذانها عن كل أشكال الإصلاح المؤسسي والشراكة الوطنية وإصلاح البيت الفلسطيني!. وهذا دون الخوض أيضًا، في سؤال فتح إن كانت استشارت الشعب الفلسطيني وفصائله الفاعلة في كارثة اتفاقات أوسلو وتنازلها باسم الشعب الفلسطيني وغصبًا عنه عن أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين للعدو الصهيوني.. وغيرها.

أين إرادة الشعب الفلسطيني؟

وأخيرًا؛ فإن الإصرار على تجاهل الواقع والانفصال عنه يتجلى في الإصرار على الاستمرار بالإمساك بزمام السلطة، بالرغم من أغلبية واسعة من الشعب الفلسطيني تقف إلى جانب المقاومة وبرنامجها، وبالرغم من أن نحو 84% من الفلسطينيين في الضفة والقطاع يطالبون عباس بالاستقالة، و65% يرون في السلطة عبئًا على الشعب الفلسطيني، بل وأيَّد 58% حلّ السلطة نفسها.

باختصار عباس وسلطته في وادٍ، والشعب الفلسطيني في وادٍ آخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات الشعب الفلسطینی طوفان الأقصى محمد مصطفى الواقع فی رام الله قطاع غزة آذار 2024 أکثر من

إقرأ أيضاً:

الثقافة والمعلوماتية وسؤال الذكاء الاصطناعي

اليوم وفي ظل الحديث عن الذكاء الاصطناعي، ترى إلى أين نحن ماضون كأفراد وجماعة وشعوب وأمم؟ وأين نحن كأمة من هذا كله، في ظل أننا كنا وما زلنا مستهلكين لهذه المنجزات التي "تعولم" الدول الصغيرة لصالح ثقافة الدول الكبيرة؟ وهل من دور ثقافي إزاء هذا كله؟

الثقافة والتعليم والإعلام ووسائل الإعلام الجماهيري والتواصل الاجتماعي كلها منظومة واحدة يصعب تجزئتها، وقد انتبهت لذلك حين بدأت عملي معلما، وإعلاميا معا كمحرر ثقافي، وسارا معا جنبا الى جنب حتى اللحظة، ومعهما وقبلهما، عملي مزارعا. إنه المنطلق الذاتي الموضوعي، أي المعرفة المقترنة بالخبرة العملية، والحياتية.

لم تمر بضع سنوات على التعليم، الذي قضيت فيه 4 سنوات، حتى بدأت الصحافة الجديدة في فلسطين، ومن ضمن ذلك كانت جريدة "الحياة الجديدة" التي تلتها جريدة "الأيام" بعام، إضافة للصحف والمجلات الأخرى.

كان سحرا ما زلت أذكره حين رأيت كيف نضع أي مقطع على موقع جوجول لنبحث عنه، حتى يزودك بكل ما له صلة به، من المواد التي تمت حوسبتها الكترونيا.

كان ذلك عام 1996، أي بعد عملي كمعلم بوقت قليل، لذلك تمازج فيّ المعلم والإعلامي من الدماء الجديدة التي دخلت الإعلام بعد عام 1994، تلك الفئة التي ارتبط عملها بثورة الاتصالات من خلال الشبكة العنكبوتية (المعلوماتية)، أي الانترنت.

كان جيلنا، ومن قبلنا ومن بعدنا بعديد سنوات، يتلقى ما تيسر من تعليم مدرسي بعد هزيمة عام 1967، ثم ما تيسر من صحافة كان مركزها المدن، ثم ما تيسر من إذاعات عربية، إلى جانب ما تيسر مما ساد من تلفزيون في تلك الأيام: التلفزيون الأردني، وأحيانا تلفزيونا سوريا ومصر. كان الإعلام السياسي والثقافي وما يتعلق بجوانب المجتمع أحد مكونات شخصياتنا ومصادر معارفنا.

بعد عام 2000، أصبح لدينا فرصة كتابة المناهج، وبذلك امتلكنا فرصة توطين المعارف، فقد انضمت الكتب المدرسية مع مصادر المعرفة المختلفة، ومن بينها الإعلام والثقافة، حيث كان للمعلوماتية دور في الوصول السريع ومواكبة الجديد، كذلك في الوصول الى ما تم نشره من قبل، حيث تمت حوسبة المكتوب والمرئي بشكل كبير.

للكتب المدرسة والجامعية، والمواد الإعلامية دور في الاطمئنان على ما ينبغي معرفته، وتوجيه السلوك نحو من اتجاهات متنوعة، شخصيا وأخلاقيا وقيميا وقانونيا ووطنيا وقوميا وإنسانيا، في الوقت الذي من المهم المحافظة على الفسيفساء الثقافية والفكرية بصفتها التعددية الطبيعية الملتزمة.

لكن من خلال ما شاهدنا ونشهد عليه، فإننا وجدنا اختلال التوازن، حيث صرنا نتشتت، بعيدا عن التعددية التي عشناها، وبالتدريج وجدنا أنفسنا ندخل عصر الخطاب المتهم، والمحرض والمقسم، وصولا لانقسامات سياسية ووطنية.

عادت ذاكرة الثلاثة عقود، ولعل استعدتها، وأنا أستمع لمداخلات تربويين وإعلاميين، ناقشوا "الوثيقة المرجعية لتطوير الاستراتيجيات الوطنية للتربية الإعلامية والمعلوماتية"، التي تمت بالتعاون بين وزارة التربية والتعليم وجامعة بيرزيت واليونسكو، وعدت أستعيد ما كتبته من خبرة ومن الخبرة الممكنة التي توفرت لي منذ عام 1998، والتي تراكمت وتطورت للكتابة والبحث في التعليم عن بعد والتعليم الالكتروني. وقد نبع ذلك الاهتمام من عملي في المجالات الثقافية والتربوية والإعلامية، في ظل المعلوماتية. وصرنا نرى مستويات البحث في المدارس الثانوية، الذي اعتمد على النقل، أما في الجامعات، فلم يختلف كثيرا عن المدارس، فكثر النسخ واللصق، وقد بدأ الأمر محزنا في عصر الذكاء الصناعي، حيث أصبح طلبة الدراسات العليا يعتمدون على النصوص التي يكونها الذكاء الصناعي.

في هذا المجال، واكبت المنجزات الأدبية للأدباء الشباب، ونشرت لهم، وخلال ما يقرب من عقد تقريبا، بدأ يظهر أدب الشباب، والذي نزع الى الذاتية، والتأثر باتجاهات الكتابة والنشر الالكتروني إن كان سمينا أو غثا، وربما ما يتفق مع خصوصياتنا، فشاع تقليد الآخرين في مواضيع هامشية تاركين مواضيعنا الحقيقية، ويبدو أن ذلك لاقى تشجيع ما من قبل من يهندسون ثقافة الشباب.

للأسف، في ظل انفجار المعلومات، صار المهتمون يلتقطون، دون إعمال الفكر بما يتفق مع جوهر البحث. ومن هنا فقد ارتبط بهذه الظاهرة أمر خطير، ألا وهو النشر غير المسؤول للمعلومات والآراء، والتي تضمنت داخلها الإشاعات، والتجاذبات والمعارك، والتي زادت من تشظي الأفراد والجماعات، ما أثر سلبيا على ما قصناه من وحدة وطنية وتعددية طبيعية ملتزمة، في ظل ما نتوقعه من الدور الراقي للأدب والثقافة.

لفت نظري التوصية الخامسة "تعزيز التفكير النقدي والمساءلة المجتمعية" من التوصيات الأساسية، ضمن ملخص "الوثيقة المرجعية لتطوير الاستراتيجيات الوطنية للتربية الإعلامية والمعلوماتية".

تجيء الدعوة لتعزيز التفكير النقدي، في إطار تكرارها كثير في المنتديات والمؤتمرات التي تخص تطوير التعليم، فلسطينيا وعربيا، ولعل الخطة الاستشرافية لتطوير وتجويد التعليم، التي تتبلور في أروقة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) ومؤسسات التعليم العربية، قد أشارت لها كوسيلة وغاية. إذن الحديث عن التفكير النقدي ليس جديدا ولا اكتشافا، لذلك فإن المهم هنا هو حضوره عبر مأسسة التعليم المعتمدة على التفكير النقدي حسب مرحلة النمو، والتي تحضر بقوة في التعليم العالي، والبحوث.

وبالطبع فإننا حين نتحدث عن التعليم، فإن الثقافة تقع في صلب ذلك كله، حيث تنمو من جهة، وتشكل الاتجاهات من جهة أخرى.

التفكير النقدي هو إذن بيت قصيد عملية التعلم والتعليم والثقافة والإعلام. وهو بيت قصيد التلقي الإعلامي والثقافي والفني، وبالطبع السياسي والفكري. انه بيت قصيد التلقي والتفاعل الإيجابي المسؤول. إننا إزاء نظرية التلقي لكل ما تصل إليه حواسنا من معلومات، يقوم الفكر بدورها في التعامل الإنساني لها، والذي يعلي من شأن الفكر عبر الفهم.

والسؤال اليوم وأمس وغدا، من هو المؤهل لإحداث ذلك ونحن نسعى الى هذا الهدف؟

في البدء، ثمة شكوك أن هناك إيمانا فعليا من المؤسسات ذات الصلة سياسيا وتربويا وثقافيا بالاقتناع بإيجاد هذا النوع من التفكير، والذي لا ينسجم مع منهجيات الحكم والإدارة ومؤسسات التعليم والثقافة والعلم والإعلام. ولكن لنفترض الظن الطيب. إذن ما العمل؟ ومن العامل الفاعل؟

من المهم، واللازم، والمنطقي، البحث عمن يتسمون بهذا النوع من التفكير، أو لنقل من نراهم يتسمون بالتفكير بحد ذاته، في مجالات الفعل المختلفة، بدءا في التعليم والثقافة والإعلام، كونهما المشكلين الأساسين للعقول. من هنا، يمكن البدء.

ربما يقودنا الحديث الى سقراط وأفلاطون ومن ثم أرسطو وجون ديوي حديثا، الذي قام بعمل فكري عميق حين اكتشف نظام تصنيف المعرف، أي مكانها في المكتبات.

إن بناء تفكير نقدي سيساعد في الحكم، بعد ممارسة الاطلاع عبر القراءة والمشاهدة والتأمل، التي تؤدي إلى الفهم؛ فلا بناء حكم بدون الفهم الحقيقي. فهم المقروء والمسموع، ثم التعرف على ما يحيطه من معلومات، والتأكد منها قدر الإمكان، وهذا ما سيخلصنا من الانفعالية الشعبوية، القادمة من نظم تفضل برمجة الشعوب وهندسة عقولها من الطفولة المبكرة.

إن التفكير الناقد هو مفتاح إنتاج المعارف والآداب، وهو من يضمن أي عبث بالجمهور، باتجاه التخريب والفرقة. وإن التربية عليه، سيجنبنا أيضا العنف بمعظم أشكاله، حيث سيستند الفرقاء الى أرض واحدة، تتم المحاججة علها.

إنه فعل وطني وقومي، لم يزدهر أمة قديما ولا حديثا لم تستند له. أم البدء فهو من البيت والمدرسة والمركز الثقافية والفنية. يبقل الصراخ والصوت العالي لصالح الاستماع، للفهم والتعبير والإبداع لا المحاكاة ولا الانفعال.

إنه الذكاء الإنساني الذي وهبنا الله، حتى نعبر مرحلة الذكاء الاصطناعي، والتي تجيء اليوم كاستئناف لتحدي المعلوماتية، وليس ظاهرة جديدة.

مقالات مشابهة

  • “الديمقراطية”: المطروح حول حكم أمريكي لغزة احتلال يرفضه الشعب الفلسطيني
  • أول تعليق من حماس علي اقتحام قوات الاحتلال مدارس أونروا
  • الثقافة والمعلوماتية وسؤال الذكاء الاصطناعي
  • حماس: شعبنا لن يسمح للاحتلال بالتمادي والعربدة مهما كانت التضحيات
  • “حماس”: عملية جنين أبلغ رد على كل محاولات العدو الصهيوني لإخماد جذوة المقاومة
  • ضغوط لنزع السلاح الفلسطيني في لبنان: ماذا نعرف عن أبرز الفصائل الفاعلة في المخيمات؟
  • دون حماس أو السلطة..مناقشات إسرائيلية أميركية بشأن إدارة غزة
  • رويترز: إدارة أمريكية مؤقتًا في غزة تستبعد السلطة الفلسطينية وحماس
  • “حماس”: المقاومة الفلسطينية تصر على اتفاق شامل لإنهاء الحرب وخارطة لليوم التالي
  • ‏حماس تنعى المسؤول العسكري خالد الأحمد الذي قتل في غارة اسرائيلية فجر اليوم في صيدا جنوب لبنان