في الرابع من أبريل/نيسان 1949 تم التوقيع على معاهدة إنشاء حلف شمال الأطلسي (ناتو) بهدف "توفير الأمن الجماعي ضد الاتحاد السوفياتي"، ورغم سقوط الاتحاد، فإن الحلف حافظ على استمراره وتوسعه.

لكن، في السنوات الأخيرة يشهد الحلف تحديات كبرى بشأن دوره ومكانته بفعل التباينات والاختلافات بشأن الحرب في أوكرانيا، والصراع الأميركي الصيني، وتقاسم الأعباء الاقتصادية لعمل الحلف، مما يدعو إلى مطالعة الأهداف التي أنشئ من أجلها، وتقييم مدى نجاحها في ضوء مسيرته التي بلغت 75 عاما، والتحديات التي تواجه عمله.

إنشاء الناتو

يلخص "مكتب المؤرخ" في وزارة الخارجية الأميركية الظروف التي أدت إلى إنشاء حلف شمال الأطلسي قائلا إنه بعد الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، كافحت دول أوروبا من أجل إعادة بناء اقتصاداتها وضمان أمنها.

كان ذلك يتطلب تدفقا هائلا من المساعدات لمساعدة المناطق التي مزقتها الحرب على إعادة إنشاء الصناعات وإنتاج الغذاء، وتوفير ضمانات ضد عودة ألمانيا أو التوغلات من الاتحاد السوفياتي.

وزير الخارجية الأميركي الأسبق جورج مارشال الذي اقترح خطة لمساعدة البلدان الأوروبية على إعادة إعمار ما دمرته الحرب العالمية الثانية (مواقع التواصل)

وحينها نظرت الولايات المتحدة إلى أوروبا القوية والمتكاملة والمُعاد تسليحها اقتصاديًا باعتبارها أمرًا حيويا لمنع التوسع الشيوعي في جميع أنحاء القارة. ونتيجة لذلك، اقترح وزير الخارجية جورج مارشال برنامجا للمساعدات الاقتصادية الواسعة النطاق لأوروبا. وكانت دول أوروبا الغربية على استعداد للنظر في حل أمني جماعي.

وفي مايو/أيار 1948، اقترح السيناتور الجمهوري آرثر فاندنبرج قرارًا يقترح أن يسعى الرئيس الأميركي إلى إبرام معاهدة أمنية مع أوروبا الغربية تلتزم بميثاق الأمم المتحدة ولكنها موجودة خارج مجلس الأمن حيث كان الاتحاد السوفياتي يتمتع بحق النقض. وبالفعل صدر قرار فاندنبورغ، وبدأت المفاوضات بشأن حلف شمال الأطلسي.

وكانت نتيجة هذه المفاوضات المكثفة التوقيع على معاهدة شمال الأطلسي في عام 1949، وشملت هذه الاتفاقية كلا من الولايات المتحدة وكندا وبلجيكا والدانمارك وفرنسا وآيسلندا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا والنرويج والبرتغال والمملكة المتحدة.

الرئيس الأميركي آنذاك هاري ترومان يوقع اتفاقية حلف شمال الأطلسي عام 1949 (مواقع التواصل)

واتفقت هذه الدول على اعتبار الهجوم على أحد هجوما على الجميع، إلى جانب إجراء مشاورات بشأن التهديدات ومسائل الدفاع. ولا ينطبق اتفاق الدفاع الجماعي هذا رسميًا إلا على الهجمات التي وقعت ضد الدول الموقعة في أوروبا أو أميركا الشمالية، ولم تشمل الصراعات في الأراضي الاستعمارية.

وفي عام 1952، وافق الأعضاء على قبول انضمام اليونان وتركيا إلى حلف الناتو، وأضافوا جمهورية ألمانيا الاتحادية في عام 1955. وأدى انضمام ألمانيا الغربية إلى قيام الاتحاد السوفياتي بالرد من خلال تشكيل حلف وارسو الذي شكل الخصم العسكري لحلف الناتو حتى نهاية الحرب الباردة.

وقد أدت ترتيبات الدفاع الجماعي في حلف شمال الأطلسي إلى وضع أوروبا الغربية بأكملها تحت "المظلة النووية" الأميركية.

وفي الخمسينيات من القرن العشرين، ظهر مبدأ "الانتقام الشامل"، أو فكرة أنه إذا تعرض أي عضو لهجوم، فإن الولايات المتحدة سترد بهجوم نووي واسع النطاق. وكان المقصود من التهديد بهذا النوع من الرد أن يكون بمثابة رادع لأي هجوم سوفياتي على القارة.

وعلى الرغم من أن تشكيله كان استجابة لمقتضيات الحرب الباردة، فإن حلف شمال الأطلسي استمر إلى ما بعد نهاية ذلك الصراع، حتى إن عضويته توسعت لتشمل بعض الدول السوفياتية السابقة.

في سبيل تحقيق مهام الناتو تعهد أعضاء الحلف بتعزيز قدرتهم الفردية والجماعية على الصمود والتفوق التكنولوجي وتعزيز الحكم الرشيد (رويترز) أهداف الحلف

تمحورت وثيقة إنشاء حلف شمال الأطلسي حول إجراءات التنفيذ الفعلي للتحالف العسكري والمناطق التي يشملها عمله. ومع انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، واجه الناتو تحديات جديدة وأدخل تعديلات على أهدافه ليشمل الاستجابة للأزمات والنزاعات الجديدة، و"مكافحة الإرهاب"، ودعم الاستقرار الدولي.

وفي العام 2022، حددت وثيقة "المفهوم الإستراتيجي لحلف شمال الأطلسي 2022" التي أصدرتها قمة الناتو، الغرض الرئيسي للتحالف بضمان الدفاع الجماعي ضد جميع التهديدات القادمة من جميع الاتجاهات، وارتكازه على "وجود قيم مشتركة بين أعضائه؛ وهي: الحرية الفردية وحقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون". مع التأكيد على الالتزام بمقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وأهمية الحفاظ على النظام العالمي القائم على القواعد.

في حين حددت ثلاث مهام أساسية للحلف، وهي: الردع والدفاع، ومنع الأزمات وإدارتها، والأمن التعاوني.

وفي سبيل تحقيق هذه المهمات، تعهد أعضاء الحلف بتعزيز قدرتهم الفردية والجماعية على الصمود والتفوق التكنولوجي، وتعزيز الحكم الرشيد، ودمج تغير المناخ والأمن البشري وأجندة المرأة والسلام والأمن في جميع مهام الحلف.

إنجازات

في البداية، كان لحلف الناتو دور محوري في الحد من نفوذ الاتحاد السوفياتي إلى أن تم تفكيك الاتحاد وإنزال علمه من الكرملين ورفع علم روسيا في أغسطس/آب 1991.

وفي العقود الثلاثة الأخيرة، تجاوز عدد الدول الأعضاء في الحلف 30 بلدا، وتعزز دوره بفعل مساعي الولايات المتحدة إلى فرض "النظام العالمي الجديد" الأحادي القطبية.

وعلى مدى تاريخ الحلف لم تتعرض أي من دوله إلى هجوم يستدعي طلب المساعدة العسكرية من بقية أعضاء الحلف باستثناء هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.

وفي 14 مارس/آذار 2024، أصدر الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ تقريره السنوي لعام 2023، والذي يعرض بالتفصيل عمل الناتو وإنجازاته على مدى العام، بما في ذلك ترحيب الحلف بفنلندا باعتبارها حليفه الحادي والثلاثين، وعقد قمة فيلنيوس حيث عزز الحلف دفاعه الجماعي وجعل أوكرانيا أقرب إليه، وتعميق التعاون مع شركاء الناتو في الهند وباكستان والمحيط الهادئ.

وأشار التقرير إلى ازدياد الإنفاق الدفاعي في عام 2023 بنسبة غير مسبوقة بلغت نحو 11% في جميع أنحاء أوروبا وكندا. وتوقع أن يحقق ثلثا الحلفاء أو يتجاوزوا هدف استثمار 2% من الناتج المحلي الإجمالي في الدفاع في العام 2024.

تحديات

لكن هذا التقرير لا يشير إلى عمق الخلافات والهواجس بين جناحي الحلف الأوروبي والأميركي، التي طفت على السطح في السنوات الأخيرة.

فقد برز تضارب في التوجهات بشأن العلاقات الاقتصادية مع الصين وروسيا أثناء حكم الرئيس الأميركي دونالد ترامب؛ ففي حين ضغطت الولايات المتحدة باتجاه تحجيم هذه العلاقات، قاومت دول أوروبية عديدة هذا التوجه بدافع سياسي واقتصادي، إذ إنها لا ترغب بأن يتضرر اقتصادها نتيجة لحرب تجارية بين أميركا والصين.

كما أن الولايات المتحدة ليست بديلا عن الغاز الروسي الذي تعتمد الدول الأوروبية عليه لتوليد الكهرباء، إضافة إلى رغبة "القارة العجوز" في انتهاج سياسة خارجية أقل تبعية للولايات المتحدة، بما يحقق مصالحها الخاصة ويجنبها أي مخاطر غير ضرورية، وبما يجنبها خوض حروب سياسية وعسكرية بالوكالة عن الولايات المتحدة.

من جهة أخرى، شكّل الإنفاق الدفاعي قضية خلاف كبيرة بين الطرفين، إذ اعترضت إدارة ترامب على عدم التزام غالبية أعضاء الحلف الأوروبيين بالنسبة المتفق عليها للإنفاق الدفاعي، وهي 2% من الناتج المحلي الإجمالي.

وأعقب ذلك صدور العديد من تصريحات ترامب الصادمة لأوروبا والتلويح بسحب بعض القوات الأميركية من دولها، بل تشجيع روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين على "فعل ما يريدان" مع أي دولة عضوة في الناتو "فشلت" في دفع تكاليف الدفاع عنها، كما قال في تصريحاته في العاشر من فبراير/شباط 2024.

وأيضا دعوات أوروبية مقابلة لتعزيز القوة العسكرية الأوروبية انطلاقا من عدم الثقة في التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن حلفائها الأوروبيين في حال حصول حرب، كما في تصريحات وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبولندا في الثالث من أبريل/نيسان 2024.

وعلى الرغم من تحسن العلاقات الأميركية الأوروبية في فترة رئاسة الرئيس الأميركي جو بايدن، فإنها شهدت تحديات لا تقل خطرا عن سابقتها بالنسبة إلى دول الحلف، فقد شكل تشجيع الولايات المتحدة أوكرانيا على الانضمام إلى الناتو الشرارة التي أدت إلى الاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية.

شكل تشجيع الولايات المتحدة أوكرانيا على الانضمام إلى الناتو الشرارة التي أدت إلى الاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية (رويترز)

وهو ما خلق تهديدا إستراتيجيا للدول الأوروبية، في حين حقق رغبة الولايات المتحدة في تقويض العلاقات الروسية الأوروبية سياسيا واقتصاديا، وكذلك الحال بالنسبة إلى العلاقات الأوروبية الصينية. في حين كان تأثر الولايات المتحدة بالحرب في أوكرانيا محدودا بالنسبة لما عليه الحال في أوروبا.

كما يشكل تزايد شعبية اليمين القومي في أوروبا تحديا إضافيا للحلف، إذ يبدي هذا التيار استياء متزايدا من المؤسسات الدولية، ونفورا من الالتزامات المتبادلة وتحمّل أعباء حماية دول أخرى، وهو المنطق ذاته الذي يتكلم به الرئيس الأميركي السابق ترامب.

إخفاقات

تعدّ حرب أفغانستان إخفاقا بارزا للناتو الذي غزاها عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، ومكث فيها قرابة 20 عاما، متسببا في مئات الآلاف من القتلى وحجم واسع من الدمار، دون أن يتمكن من تثبيت نظام مغاير للنظام السابق للحرب، إذ اضطر الحلف للانسحاب تحت وقع ضربات حركة طالبان، وغادرت قواته العاصمة الأفغانية كابل وهي تحت سيطرة الحركة.

قوات من الناتو في كابل بأفغانستان (رويترز-أرشيف)

كما تعدّ نتيجة تدخل الناتو في ليبيا فشلا، برأي هوراس ج. كامبل أستاذ الدراسات الأميركية الأفريقية في جامعة سيراكيوز في نيويورك، وعدّد أوجه هذا الفشل في كتابه "الناتو العالمي والفشل الكارثي في ليبيا"، حيث تأتي في المقدمة حالة الفوضى التي دخلتها ليبيا، وتدمير البنية التحتية، والتداعيات السلبية للاعتماد على المقاولين من القطاع الخاص، وهيمنة المليشيات المسلحة، ومقتل الكثير من المدنيين بمن فيهم السفير الأميركي هناك وعدد من موظفي سفارتها.

وفي كتاب "ما الخطأ في الناتو وكيف يمكن إصلاحه؟"، استعرض الباحثون مارك ويبر، وجيمس سبيرلينج، ومارتن سميث، بعضا من التطورات الرئيسية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة تهدد بقاء الناتو:

امتداد جغرافي إستراتيجي مفرط. حزمة سياسات أمنية غير عملية. الفشل في معالجة النقص في القدرات وتلبية معايير الإنفاق الدفاعي. السأم الأميركي والحذر الأوروبي الذي يضع حلف شمال الأطلسي موضع شك. الخلاف داخل التحالف حول مكانة روسيا في النظام الأمني ​​الأوروبي. كيفية التعامل مع "زعزعة موسكو" للاستقرار في جورجيا وأوكرانيا.

وفي الحرب الجارية في قطاع غزة، ظهر إخفاق دول الحلف، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، في حماية قواعد النظام الدولي، وحماية حقوق الإنسان، بما يقوض مبررا أساسيا لعمل الحلف خارج حدوده وهو "التدخل الإنساني" أو "المسؤولية عن الحماية"، كما حصل في تدخله العسكري في البلقان وأفغانستان.

يشكل احتمال عودة ترامب لسدة الرئاسة مجددا كابوسا للعديد من القادة الأوروبيين ولحلف الناتو على حد سواء (الفرنسية)

وفي الوقت الحاضر، يزداد التصعيد في الشرق الأوسط، وتزداد احتمالات توسع الحرب فيه، في وقت يتصاعد فيه الصراع بأوكرانيا مع إعلان روسيا حالة الحرب، ويقترب الموعد المتوقع لغزو الصين لتايوان.

في حين يشكل احتمال عودة الرئيس ترامب إلى سدة الرئاسة مرة أخرى كابوسا للعديد من القادة الأوروبيين ولحلف الناتو على حد سواء.

ولا يخفى أثر هذه التحديات في تقويض مهام "الردع والدفاع، ومنع الأزمات وإدارتها، والأمن التعاوني" التي حددها الحلف لنفسه.

وبالخلاصة، فرغم تحقيق الناتو نجاحات أساسية في حماية الدول المنخرطة فيه، فإن تدخلاته الخارجية اتسمت بإخفاقات واضحة، في حين تزداد الخلافات وتباين المصالح بين مكوناته، ولا تتمكن دوله من حماية مبدأ النظام العالمي القائم على القواعد، مما يضعه على الأرجح في مسار تراجع إستراتيجي في السنوات المقبلة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ ترجمات حريات الاتحاد السوفیاتی الولایات المتحدة حلف شمال الأطلسی الرئیس الأمیرکی الحرب الباردة أعضاء الحلف لحلف الناتو حلف الناتو فی حین فی عام

إقرأ أيضاً:

لماذا لا تنجح الحكومة في أداء مهامها في الولايات المتحدة؟

تولت إدارة ترامب الحكم في 20 يناير وهي تتعهد بتدمير ما دعته «الدولة العميقة» وأطلقت يد إيلون ماسك وما تُسمَّى «وزارة الكفاءة الحكومية» ضد الجهاز البيروقراطي الفيدرالي. فصل ماسك آلاف الموظفين من الخدمة وأغلق إدارات حكومية بكاملها بهدف القضاء على «الغش والهدر وسوء استخدام السلطة» في حكومة الولايات المتحدة وتوفير بلايين الدولارات لدافعي الضرائب.

ترجّل ماسك الآن عن الوزارة وخلَّف وراءه أثرا متواضعا إلى حد بعيد قياسا بما وعد به. بل في الواقع ربما أضرَّ بأكثر مما أفاد، رغم ذلك كان هدفه وهو جعل حكومة الولايات المتحدة أكثر فعالية سليما بالضرورة.

خصصت إدارة بايدن حوالي 40 بليون دولار لتزويد المجتمعات الريفية بخدمة الإنترنت فائق السرعة، لكنها لم تربط مستخدما واحدا بهذه الخدمة عندما تركت الحكم. وليس لدى ولاية كاليفورنيا خط سكة حديد عالية السرعة بعد 20 عاما من تخصيص المبلغ الخاص بذلك، كما لا يبدو أنها قادرة على حل مشكلة الإسكان التي أوجدت بها أعلى نسبة مشردين في أية ولاية أمريكية. واقع الحال، الإحساس العام بأن الأشياء لا تحدث على نحو ما كانت في الماضي يساهم بشكل مباشر في سخرية الأمريكيين الشديدة من كفاءة الحكومة. كما أنه أحد العوامل التي تفسر التأييد الشعبي لترامب.

عُرِضت أسبابُ هذا الفشل بوضوح في كتاب إيزرا كلاين وديريك طومسون «الوفرة» وأيضا في كتاب مارك دانكلمان «لماذا لا تنجح الأشياء» أشار هؤلاء المؤلفون إلى أن أمريكا تعاني من إفراط (تُخمة) في القوانين والإجراءات البيروقراطية التي تجعل عمل أي شيء باهظ التكلفة وبطيئا.

لم تكن تلك هي الحال دائما. ففي الفترة التي بدأت بالحقبة التقدمية في أواخر القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية كان الأمريكيون يرون في الحكومة قوةَ خيرٍ تستطيع تشييد البنية التحتية وكسب الحروب ونقل الناس إلى القمر.

لكن بداية من الستينيات تغيرت باطراد نظرة الناشطين من اليمين واليسار إلى الحكومة واعتبروها قوة سلبية فاسدة وخاضعة لسيطرة المصالح الخاصة أو ببساطة غير كفؤة ويجب تقييدها بطبقات متعددة من القوانين واللوائح التنظيمية.

لننظر في مثال واحد صغير لهذا الإفراط في القيود. تستخدم الحكومة الأمريكية وولايات عديدة، خلافا لمعظم الديمقراطيات الغنية الأخرى، ما يدعى «الحق الخاص في رفع الدعاوى أمام القضاء» بهدف فرض القوانين.

أجيز تشريع باسم قانون كاليفورنيا لجودة البيئة في عام 1970. يمنح هذا القانون كل سكان كاليفورنيا (40 مليون نسمة) حق رفع دعوى قضائية ضد أي مشروع سواء عام أو خاص إذا رغبوا في ذلك، ويمكن رفع الدعوى دون الكشف عن اسم الشاكي.

وفقا لأحد التقديرات رُفعت 13% فقط من الدعاوى القانونية بموجب هذا القانون من قبل منظمات بيئية، أما الباقي فبواسطة منافسين تجاريين وجيران يرفضون إقامة مشاريع بالقرب منهم أو نقابات، فهو أقرب إلى أن يكون أداة ابتزاز منه إلى قانون بيئي.

وفي إحدى القضايا مؤخرا أرادت جامعة كاليفورنيا في بيركلي إضافة عدة آلاف من الطلاب إلى جسمها الطلابي. لكن جيران الجامعة من الطبقة الوسطى العليا رفعوا دعوى قضائية بموجب هذا القانون على أساس أن العدد الإضافي من الطلاب يشكل عمليا «تلوّثا بيئيا» قَبِل أحد القضاة الدعوى ومُنِعَت الجامعة من استيعاب المزيد من الطلاب.

غالبا ما يشكو المحافظون من كثرة إجراءات الحصول على التراخيص والموافقات الرسمية. لكن التقدميين هم الذين أيدوا القانون في البداية لأنهم ما كانوا يثقون في تطبيق الحكومة لقوانينها (الخاصة بها لحماية البيئة.) قاد ذلك إلى مفارقة وهي أن الإجراءات البيئية من شاكلة هذا القانون حالت دون تشييد البنية التحتية للطاقة المتجددة. فقد جعلت من الصعب جدا تنفيذ أشياء مثل إقامة خطوط نقل الكهرباء أو مزارع الرياح البحرية.

إضافة إلى متطلبات الترخيص المفروضة على الشركات الخاصة تُضعف الحكومةُ فعاليتَها بطبقات من القوانين التي يُجبَر البيروقراطيون (الموظفون) أنفسُهم على العمل بموجبها، فلا يمكن لإدارة حكومة شراء منضدة أو حاسوب بدون التقيد بالقواعد الإجرائية الخاصة بالمشتريات الفيدرالية والتي توضح بالتفصيل وفي آلاف الصفحات شروط الشراء التي يجب على الموظفين اتباعها.

لنتحدث عن الهدر، حسب دانييل هو، أستاذ القانون بجامعة ستانفورد، ألزم الكونجرس الإداراتِ الحكومية بإعداد أكثر من 5000 تقرير سنوي. والأغلبية الغالبة من هذه التقارير لا يقرأها أي أحد، فالموظفون يتم تحفيزهم على التقيد بهذه القواعد التفصيلية التي كثيرا ما لا يكون لها معنى وذلك بدلا من السماح لهم باتباع الحس السليم وحسن التقدير في تطبيق الأوامر التشريعية.

منذ عقود يقول المحافظون إننا نعيش في ظل طغيان «بيروقراطيين غير منتخبين» يضعون القوانين بأنفسهم وبعيدا عن سيطرة المسؤولين المنتخبين ديمقراطيا. لكن الحقيقة عكس ذلك، فلأن أمريكا لديها تاريخ طويل من عدم الثقة بالحكومة أضفنا طبقة وراء طبقة من الإجراءات البيرقراطية التي تَحِدُّ ما يمكن أن يفعله المسؤولون. وإذا كانت هنالك رغبة في أن تكون الحكومة أكثر كفاءة يجب منح هؤلاء المسؤولين المزيد من السلطة لاتخاذ القرارات وليس العكس، ويجب الحكم عليهم بالنتائج التي يحققونها للمواطنين وليس بالقوانين التي يتبعونها.

لكي أكون واضحا أنا لا أدعو إلى تفكيك «الضوابط والتوازنات» التي ضُمِّنت في دستور الولايات المتحدة. إنها الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى. فقد ظلت إدارة ترامب تنتهك القانون كل يوم تقريبا وهي في سدة الحكم، ويجب وقف التجاوزات في استخدام السلطة التنفيذية بواسطة المحاكم وفي نهاية المطاف بواسطة الناخبين.

بدلا عن ذلك على الكونجرس والمشرعين في الولايات التخلص من العديد من الإجراءات المتراكمة التي تمنع المسؤولين من تنفيذ ما يرغبونه بمرونة. فإذا صار بمقدور الحكومة إنفاق وقتها بالفعل في تطبيق السياسات بسرعة وفعالية يمكن أن يختفي أحد دوافع تأييد الشعبويين من أمثال ترامب.

في الواقع معارضة ترامب في حد ذاتها لن تقود خصومه إلى السلطة. يحتاج الديمقراطيون (قادة الحزب الديموقراطي) إلى تقديم رؤية إيجابية لما يمكن أن تبدو عليه الولايات المتحدة إذا عادوا إلى الحكم. لقد اعتبرهم ناخبون عديدون الحزبَ الذي تولى إدارة مدن عانت من الجريمة والتشرد والتردِّي الحضري كسان فرانسيسكو وبورتلاند ونيويورك.

وضعُ رؤية لحكومةٍ يمكن أن تعود مرة أخرى إلى تنفيذ مشاريع كبيرة أشبه بورقة نقدية ملقاة على الرصيف بانتظار من يلتقطها (أو بعبارة أخرى فرصة سياسية جاهزة وثمينة لأي سياسي طموح يرغب في الاستفادة منها).

فرانسيس فوكوما مؤلف «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» ومؤخرا «مآخذ على الليبرالية»

الترجمة عن الفاينانشال تايمز

مقالات مشابهة

  • لماذا لا تنجح الحكومة في أداء مهامها في الولايات المتحدة؟
  • بريطانيا تستعد لبناء 12 غواصة و6 مصانع ذخيرة وستارمر يؤكد أن التهديد الروسي "لا يمكن تجاهله"
  • إيران تطالب بـ”ضمانات” من الولايات المتحدة بشأن رفع العقوبات
  • حرب 1812.. صراع ناري على الهوية والسيادة بين الولايات المتحدة وبريطانيا
  • متى تتراجع الولايات المتحدة؟
  • وزيرة الدفاع الليتوانية: موسكو "تسخر" من واشنطن وتواصل حربها بلا رادع
  • ⛔ لاحظ التعابير التي استخدمها فيصل محمد صالح في هذا اللقاء
  • د. جمال القليوبي يكتب: حلف الأطلسي في طريقة إلى التفكك
  • وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود “إماراتية”
  • ترامب: الولايات المتحدة ستضاعف الرسوم الجمركية 50% على الصلب