صحيفة التغيير السودانية:
2024-06-03@00:48:01 GMT

السودان وفيدرالية الحرب

تاريخ النشر: 7th, April 2024 GMT

السودان وفيدرالية الحرب

 

ناصر السيد النور

إن ما تفرضه الحرب الجارية في السودان من وقائع، كنتائج تتصل ببداياتها وطبيعتها، وحرب شنت لأجل أهدافٍ غير محددة، أو معروفة لدى أطرافها، ولو كانت صراعاً على السلطة، فقد تجاوزت كل ما يبرر قيامها، مثلها مثل أنماط الحروب الأخرى بمختلف صورها الكارثية، التي تعبر عن حدوثها، بما تتسبب به من دمار وقتل، في دائرة تتسع يوماً بعد آخر.


وتدفع هذه الحالة إلى التساؤل حول مدى استمرارية هذه الحرب، في وقت تتداعي فيه فظائعها المرتكبة بحق المدنيين؟ فالوسائل المتاحة الآن أمام كل الأطراف المتصارعة، ليس البحث عن حل فوري لإيقاف الحرب، كما يفرضه منطق مجريات الأحداث، وما يبدو أن كلا من الطرفين يسعى لتعزيز موقفه عسكرياً، عبر المزيد من استخدام وسائل الحرب، وما يمكن أن يشكله ذلك التمدد العسكري على أرض المعارك، بالمعنى التفاوضي والسياسي.

بعد إكمالها عامها الأول لا جديد في حريق السودان، سوى ما يطفو على سطح أحداثها الدامية، وما يتعقد منها على صعيد الموقف العسكري بتصاعد وتيرة الهجمات هذا الأسبوع على نطاق الانتهاكات ضد المدنيين، خاصة في ولاية الجزيرة وسط السودان، حيث تسيطر قوات الدعم السريع منذ ديسمبر الماضي، والقصف الجوي الذي ينفذه طيران الجيش في مدن دارفور والخرطوم، والمناطق الواقعة تحت سيطرة الدعم السريع، التي يكون ضحاياها من المدنيين. ومؤخراً الهجوم الأبرز بطائرة مسيرة على أحد التنظيمات الإسلامية الشعبية «قوات البراء» في مدينة عطبرة شمالي السودان، الذي يعد المرة الأولى التي تصل فيها نيران الحرب إلى مناطق بعيدة عن مناطق النزاع، وهو ما يرشح لتصاعد موجات من العنف الجهوي لما تمثله هذه الولاية ومناطقها وسكانها في الخطاب الجمعي، وحالات الاستعداد الشعبي والتهييج العرقي، بطرد المقيمين فيها من الولايات الأخرى، خاصة من دارفور، أو ما بات يعرف مؤخراً بالحواضن الاجتماعية لقوات الدعم السريع.

ومن المثير التطورات المفاجئة التي أعقبت هذا الهجوم على المستوى السياسي والقضائي، حيث أصدرت النيابة العامة أوامر بالقبض على رئيس الوزراء السابق الدكتور عبد الله حمدوك، الذي يترأس «تنسيقية تقدم»، التي تضم عدداً من السياسيين المدنيين وقيادات حزبية، تحت دعاوى تقويض الدستور وإثارة الحرب ضد الدولة. على الرغم من فداحة هذه التطورات على الصعيد العسكري، ومجاعة تهدد حياة الملايين، تقترب حسب الأمم المتحدة من تهديد حياة نصف السكان بالبلاد، تتصاعد على الجانب العسكري حدة الخلافات بين قادته في خضم صراعاتهم، والشاهد أن ما حملته تصريحات قادة الجيش المتضاربة، في حملة تعبر عن تعدد مواقع اتخاذ القرار، وبالتالي المؤثرات والتدخلات المدنية الكثيفة للجهات المتهمة بإدارتها للجيش وظهور جماعات تصنف بالإرهابية، لها امتدادات إقليمية تتلاقى أيديولوجياً مع تيار الإسلام السياسي في السودان. الأمر الذي يرشح الموقف السياسي الرسمي للدولة لمزيد من الضغط الدولي والإقليمي، ويصعد بالتالي من مستوى المواجهة بين التنظيمات العابرة للحدود، وتلك التي أسفرت عن وجهها في المأزق السوداني.

الفيدرالية كصيغة حكم يقتضي تطبيقها، دولة قائمة بكل مؤسساتها، إلا أن الحالة السودانية الناتجة عن الحرب أفسحت المجال بانقساماتها المتعددة لتكوين ما يشبه الكيانات الفيدرالية المتقاتلة

أدت المواجهات العسكرية في حرب الجنرالين، وما اتبع فيها من سياسات وخطط عسكرية في التحشيد الاجتماعي والتداخل بين ما هو مناطقي وما هو قومي، بناء على أسس جهوية وعرقية، إلى التسيب السياسي والأمني، وإلى تقوية الجماعات المسلحة خارج الدولة من كل طيف، وبات الفصل متعذراً بين شرعية القوات المسلحة، وأولوية التنظيمات الشعبية، في توظيفها للجيش وتوجيهها للحرب. ولعل ما جاء في خطاب نائب القائد العام للجيش السوداني الفريق الكباشي، ما يفهم منه أنه تحول في الموقف المتشدد الذي اتخذته القيادات العسكرية. فقد حذّر مما يسمى بالمقاومة الشعبية والاستنفار، وما تمثله من خطر مقبل، مطالبا بتقنين وضعها. وقد أثارت هذه التصريحات موجات من الغضب والاستنكار، من داعمي الحرب المحسوبين على الإسلاميين، ومن ثم ووجهت تصريحاته بتصريحات مضادة من داخل قيادة الجيش، بما يشبه الرد، وجاءت من الفريق ياسر العطا، منتقدة بشكل مبطن تصريحات الكباشي المناوئة للتصعيد الشعبي للحرب.

كشفت هذه التجاذبات بين قادة الجيش، مستوى آخر وصلت فيه إدارة الحرب إلى نقطة لم يعد معها إخفاء الصراع بين قيادات الجيش ممكنا، وهذا الوجود الكثيف للتمثيل العسكري في إدارة الدولة والحرب، ينبئ بحدوث اهتزازات سياسية في جسد الدولة المتصدع على الطريقة العسكرية في تداول شأن الحكم في السودان.

يرجح العديد من المراقبين تصاعد الخلاف بين قيادات المؤسسة العسكرية، بما يأخذ الأمور إلى تطورات خطيرة، في ظل وجود انقسام حاد بين استمرار الحرب، والتفاوض على إنهائها سلميا. وإذا كانت الحرب قد قسمت وفق جغرافيا الحزم الأمنية، ولايات السودان بين أطراف الصراع، بين ولايات آمنة تحت سيطرة الجيش والأخرى بيد الدعم السريع، بما فيها مواقع استراتيجية في عاصمة البلاد، ويكون بذلك التقسيم الفيدرالي قد تحقق، لا بالمعنى الإداري في علاقات الحكم بين المركز والأطراف، ولكن على الأقل بالمعنى العسكري. وهو تحقق ينقصه الاعتراف والإعلان، إلا أنه فعلياً تم تطبيقه بالممارسة العسكرية وشرعية الأمر الواقع.

السودان الذي يقسمه النظام الفيدرالي إداريا وجغرافيا ولو شكلياً، يخفي وراءه تقسيمات مجتمعية وقبلية حادة، فجّرتها الحرب وساعدت في ظل تنامي خطاب العنصرية والكراهية على تقبلها كحقائق أكثر منها حدودا جغرافية إدارية افتراضية. فكل ما جرى ويجري في مناطق النزاع يعبر عن هذا التقسيم الشائه، فمنذ تطبيق الحكم الفيدرالي الذي حوَّل أقاليم السودان السابقة إلى ولايات بكامل وطأتها الإدارية والدستورية والتشريعية على مستوى الوزراء، وأعضاء المجالس وجيوش جرارة من زعامات وساسة، أنهكت ما شحّ من موارد ودمر البنية التنموية؛ وتعود هذه الولايات في ظل الحرب الدائرة مرة أخرى إلى الدفع بمكونات عسكرية وشبه عسكرية جديدة، انطلاقا من دوائرها الفيدرالية المناطقية. فيدرالية الحرب ليست بديلاً عن التقسيم الذي تحددت قسماته في خطابات الكيانات القبلية الهوجاء، ولكن أن تتخذ الحرب وجهاً وموقعاً جديداً يعرف على أسسها الناتج عن كثافة نيران الحرب. وقد زاد نظام الحكم الفيدرالي المطبق مسبقا من اتساع التقسيم الجغرافي والإداري من حدة صراعات حدود مناطق القبائل، ما يجعل الاعتراف والتعامل مع أي سلطة أمرا مشكوكا فيه، خاصة بعد هذا التنازع السياسي والعسكري.

وبما أن الفيدرالية كصيغة حكم يقتضي تطبيقها دولة قائمة بكل مؤسساتها، إلا أن الحالة السودانية الناتجة عن الحرب أفسحت المجال بانقساماتها المتعددة لتكوين ما يشبه الكيانات الفيدرالية المتقاتلة. فغياب الدولة بسلطة مركزيتها القابضة، وخروج عدد من الولايات من سيطرتها بهزيمة الجيش، وإقامة تشكلات للقوة المسيطرة في بعض المواقع، مثلما حدث في بعض الولايات بإقامة سلطة مدنية تحت سيطرة قوات الدعم السريع. فتكوين إدارة مدنية، كما حدث في ولاية الجزيرة بهذه الطريقة من قبل قوات الدعم السريع يشير إلى سيطرة مطلقة لهذه القوات، وهي عسكرية بالأساس، وهذا يعني أنه لا يمكن لأي إدارة مدنية أن تتمكن من تنفيذ مهامها تحت ظل واقع عسكري غير محسوم. فهي سلطات تعد أقل من الدولة وأكبر من السلطات المحلية لكنها لا تنتزع اعترافاً دستوريا، أو وضعا إداريا واضحا. فهي تكوينات إدارية تفتقر أول ما تفتقر إلى مرتكزات بنية السلطة، وهي غير الولاء القبلي والعنصري والصراع الدموي. فما انتهت إليه التقسيمات التي أفرزتها الحرب قد تضطر أي حكومة مقبلة على إعادة توحيد السودان على طريقة الحرب الأهلية الأمريكية في القرن التاسع عشر، فإن استعادة خريطة الجيوسياسية للسودان لم تعد قائمة.

 

الوسومالحكم الفيدرالي السودان انهاء الحرب حرب السودان ناصر السيد النور

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الحكم الفيدرالي السودان انهاء الحرب حرب السودان

إقرأ أيضاً:

“تجربة بمذاق الحرب”.. مطاعم سودانية تستهدف استقطاب المصريين

حققت جولي سمير حلمها بافتتاح مطعم للأكل السوداني، ولكن ليس في عاصمة بلادها الخرطوم حيث تتواصل الحرب الضارية، بل في العاصمة المصرية القاهرة التي فرت إليها مع أسرتها، ليصبح هدفها اليوم هو جذب المصريين للمطبخ السوداني.
ومنذ اندلاع الحرب في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023، ازداد تدريجيا عدد المطاعم السودانية في القاهرة، في ظل أعداد السودانيين الكبيرة التي وصلت إلى مصر.
وغادرت سمير البالغة من العمر 42 عاما مع أسرتها إلى مصر من مدينة بحري شمال العاصمة السودانية، بعد أسبوع من اندلاع المعارك.
وفي شرق القاهرة، جلست السيدة السودانية أمام طاولة وسط ساحة خضراء بأحد الأندية المصرية الشهيرة، على مقربة من لافتة مطعمها الذي يحمل اسم “قرية أولاد كوش” للأكلات الشرقية والسودانية والحبشية.
وقالت لوكالة فرانس برس: “اسم المطعم من اختيار الوالد.. وأرض كوش في الكتاب المقدس هي مصر والسودان وإثيوبيا، ونحن نقدم أطباقا من هذه البلدان الثلاثة”.
وتابعت: “أنا لا أستهدف الزبون السوداني، أنا أستهدف الزبون المصري حتى يتعرف على الثقافة السودانية”.
وساعد سمير على افتتاح مطعمها طاه سوداني كان يعمل في هذا المجال في السودان، قبل أن يفر إلى مصر.
وقالت سمير: “جميع العاملين هنا من السودان، وكلهم هربوا من الحرب”، مشيرة إلى أنهم تمكنوا من التواصل مع بعضهم البعض عبر منصات التواصل الاجتماعي.
وأدت الحرب إلى مقتل آلاف السودانيين، بينهم ما يصل إلى 15 ألف شخص في الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، وفق خبراء الأمم المتحدة.
كما دفعت الحرب البلاد البالغ عدد سكانها 48 مليون نسمة إلى حافة المجاعة، ودمرت البنى التحتية المتهالكة أصلا، وتسببت بتشريد أكثر من 8.5 ملايين شخص، حسب الأمم المتحدة، من بينهم 500 ألف شخص فروا إلى مصر.

“أغاشي ولقيمات”
داخل مطبخ المطعم الذي كان يشغل صالته بعض الزبائن، وقف الطاهي فادي مفيد بمئزره الأخضر وسط الأواني، يحضر الوجبات. وقال لفرانس برس: “الأغاشي هي أشهر الأكلات السودانية”.
وتابع مفيد (46 عاما)، أن الأغاشي عبارة عن شرائح من اللحم أو الدجاج أو السمك، تضاف إليها البهارات السودانية الحارة ويتم شواؤها على نار هادئة.
وقال مفيد الذي كان يمتلك في السودان شركة متخصصة في تقديم خدمات الطعام والخدمات الفندقية، قبل أن تُدمّرها الحرب: “المصريون لا يحبون الأكل الحار، لذلك نحاول تقليل البهارات السودانية حتى يتقبلونه”.
كذلك يقدم المطعم، حسب مفيد، “الأكلات الحبشية الشائعة في السودان، مثل الزغني، وهي لحم مُبهر على الطريقة الإثيوبية مع الإنجرا”، وهو خبز إثيوبي أقرب إلى الفطائر.
ويرى مفيد أن المنافسة في مصر في مجال المطاعم ليست سهلة، حيث “هناك مطاعم سورية ومصرية ضخمة، لذا قد نستغرق بعض الوقت لنتمكن من المنافسة”.
وقالت سمير إنها كانت توزع عينات من الطعام أمام المطعم بعد افتتاحه على أعضاء النادي المصريين، للترويج للأطباق السودانية.
وردا على سؤال عن رأيه في الطعام السوداني، قال المصري خالد عبد الرحمن (50 عاما) لفرانس برس: “أحببت مذاق البهارات وطراوة اللحم وهذه الطريقة المميزة في الطهي”.
وتنتشر المطاعم السودانية بشكل خاص في حي فيصل في غرب القاهرة، الذي شهد افتتاح عدد من محال الأكل باختلاف أصنافها بين الأغاشي والمشويات والفول المدمس والفلافل.
وفي حي الشيخ زايد في غرب العاصمة المصرية، افتُتح حديثا محل “جيب معاك” الذي يقدّم الحلوى السودانية الشهيرة “اللقيمات”، مع المشروبات السودانية الساخنة، وأبرزها “الشاي المقنن” الذي يشبه في طريقة تحضيره شاي الكرك بالحليب.
واللقيمات التي تشبه الزلابية المصرية، عبارة عن كرات من العجين تُقلى بالزيت ويضاف إليها السكر أو الشوكولاتة والعديد من النكهات.
وتمتلك سلسلة “جيب معاك” أكثر من فرع في العاصمة السودانية والولايات، حيث “تعطلت نظرا لظروف الحرب في البلاد”، حسب ما قال مدير فرع الشيخ زايد، قصي بيرم، لوكالة فرانس برس.
وتابع بيرم (29 عاما): “أحببنا فكرة مشاركة علامتنا التجارية مع المصريين.. وافتتحنا 3 فروع”.
وأكد المشرف على المحل، الشاب السوداني زياد عبد الحليم، أن “اللقيمات تختلف عن الزلابية المصرية في نسبة الملح في العجين”، موضحا: “في السودان، نحب الملح الزائد في عجائن الحلوى”.

“الحنين إلى السودان”
واستبعد مفيد العودة إلى السودان حتى في حال استقرار الأوضاع. وقال: “أنوي استكمال تجربتي في مصر حتى إذا استقرت الأوضاع في السودان، إذ ستكون فرص العمل صعبة للغاية”.
أما سمير فلم تكن تتوقع أن تطول فترة إقامتها في القاهرة على الرغم من طريقة الخروج “المرعبة” من البلاد، وفق وصفها.
وقالت: “اعتقدنا أننا سنقضي عطلة في مصر لمدة شهر على الأكثر وتنتهي الأمور.. لكن الحرب لم تتوقف”.
وعلى الرغم من ذلك، تعتزم سمير العودة إلى الخرطوم بمجرد استقرار الوضع العام في البلاد، مدفوعة بـ”الحنين إلى السودان”، على حد تعبيرها.
وقالت: “بلدنا حنون علينا مهما سافرنا”.
وفي انتظار ذلك، تسعى إلى إضفاء الروح السودانية على مطعمها، قائلة: “أعتزم توظيف حنانة (سيدة ترسم بالحنة على الجسم)، فأنا أعرف مدى حب المصريين لرسوم الحنة”.

الحرة

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • «جنوب السودان»:تأثر «الخط الناقل» للنفط بسبب الحرب في السودان
  • المطاعم السودانية في القاهرة.. تجارب وليدة فرضتها الحرب
  • “تجربة بمذاق الحرب”.. مطاعم سودانية تستهدف استقطاب المصريين
  • تجربة بمذاق الحرب.. مطاعم سودانية تستهدف استقطاب المصريين
  • الدين والدولة في السودان
  • حركة السودان الاخضر تطالب قيادة الجيش بالتنحي وتسليم الحُكم لحكومة (جسر) من خُبراء مستقلين
  • أمين حسن عمر لـعربي21: التيار الإسلامي مؤهل لقيادة السودان في مرحلة ما بعد الحرب
  • نِقوش على جِدار الحرب السودانية (5): حكومة بورتسودان
  • السودان.. “رفض” محادثات السلام ينذر بخطر تدخل “خبيث” لإطالة أمد الحرب
  • السودان.. رفض محادثات السلام ينذر بخطر تدخل خبيث لإطالة أمد الحرب