تحاول أوساط في الكيان الإسرائيلي القول إن الكيان حقق نجاحا في إسقاط جميع الطائرات المسيّرة والعدد الأكبر من الصواريخ الإيرانية، ليشيروا في النتيجة إلى محدودية القدرات الإيرانية. هذه الأوساط تتحدث عن استعادة الكيان لزخم الدعم الغربي، وإعادة تشكيل المشهد بصرف الأنظار عن الجرائم الإسرائيلية في غزة نحو تصوير "إسرائيل" من جديد دولة صغيرة تدافع عن نفسها من الأعداء "الأشرار" المحيطين بها.
– لكن هذا التصوير الإسرائيلي لِما حدث فيه قدر كبير جدا من المغالطة التي تهدف إلى تعزير الوعي الإسرائيلي والإقليمي بالقدرات الردعية والعسكرية الإسرائيلية.
– إيران أرادت ضربة مركبة لا عسكريّا فحسب، ولكن سياسيّا أيضا، بمعنى أنها أرادت ضربة تحظى بزخم إعلامي كبير، مع تحقيق أهداف عسكرية محدودة، من دون أن تؤدّي هذه الضربة إلى جرّها لحرب شاملة، بمعنى كانت الضربة مدروسة ومناورة غاية في الحذر تسعى إلى صياغة موقف ردعي جديد لا يتطور إلى حرب أو تعريض عمقها ومصالحها الإستراتيجية داخل الأراضي الإيرانية لاستهداف أميركي أو إسرائيلي.
– افتقاد عنصر المفاجأة لم يكن ناجما عن بعد المسافة بين إيران وفلسطين المحتلة كما يذهب البعض، بل كان مقصودا، والمؤشرات عليه صريحة وكثيرة، منها الإعلان الأميركي المسبق عن موعد الضربة في الليلة نفسها، الاستنفار الإسرائيلي الواسع السابق للضربة بساعات، والإعلان المباشر من الحرس الثوري بمجرد إطلاق المسيرات، وإعلان الحرس الثوري عن الخطة المركبة للضربة بكون المسيرات سوف تتبع بصواريخ باليستية في اللحظات الأخيرة، فالإعلان الإيراني عن إطلاق الصواريخ سبق إطلاقها بالفعل، ومن ثمّ فإيران نفسها تعمدت إلغاء عنصر المفاجأة.
– وهذا يعني أن إيران تعمدت أن تكون الضربة بهذا القدر الذي سمته هي محدودا، أي ضربة مكشوفة مسبقا، تسحب من الإسرائيلي ذريعة ردّ أوسع، وتوفر للأميركي فرصة إقناع الإسرائيلي بعدم الردّ السريع والمكشوف على العمق الإيراني، مع إصابة عدد محدود من الأهداف العسكرية في النقب والجولان بعيدا عن التجمعات الحضرية الإسرائيلية، فالضربة الإيرانية مركبة عسكريّا وسياسيّا.
– فتعمد إلغاء المفاجأة، وعدم استخدام الصواريخ والطائرات الأكثر تطورا، وعدم تفعيل الطبقات الهجومية المرتبطة بإيران في الإقليم، أسهم في جعل الهجوم الكبير من حيث الكم محدودا من حيث النوع وهذا مقصود إيرانيّا.
– وبقدر ما تحدث الكيان عن نجاح في إسقاط المقذوفات الإيرانية، فإنه نجاح مشروط بطبقات الحماية المحيطة به، التي تتقدمها الولايات المتحدة الأميركية، ومشروط بإرادة إيرانية أصلا.
– إستراتيجيّا انكشف الكيان من جهة اعتماده المطلق على طبقات الحماية الدولية والإقليمية، وإحراج دولة عربية قيل إنها شاركت في إسقاط المقذوفات الإيرانية، وكذلك انكشفت طبقات الحماية وأدوات عملها وأماكنها وكيفيات عملها وتنسيقها بين بعضها سواء داخل الكيان أو في الإقليم.
– إيران من جهتها لم تضرب "إسرائيل" بشيء لا تعرفه هذه الأخيرة أو لا تتوقعه، فبينما كشفت "إسرائيل" عن كل أوراقها الدفاعية لم تكشف إيران عن كل أوراقها الهجومية.
– هذه المناورة تخدم إيران من جهة استطلاعها للقدرات العسكرية الدفاعية لـ"إسرائيل" وحلفائها وكيفيات عملها، وهو ما يمكن أن تستفيد منه إيران تاليا هي وحلفاؤها في مواجهة أكثر جدية لو فرضت عليها.
– تكشف الضربة آفاق القوى الفاعلة في الإقليم، لا سيما إيران والولايات المتحدة، وتؤكد المؤكد بكونهما فعلا ليستا في صدد مواجهة أوسع وأشمل، ويمكن بهذه القراءة ملاحظة البعد الراهن المحدود للضربة بكونها حالة من التعادل النسبي بين الطرفين، والبعد الإستراتيجي الذي يحتاج وقتا ليتكشف وتتضح معالمه.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
إيران تعيد تموضع نفسها لمواجهة صعود إسرائيل وتركيا
«مشهد جيوسياسي متغير في الشرق الأوسط»، هذا «الكليشيه» السياسي المتكرر ما زال صالحا للانطلاق منه لفهم حالة إعادة التموضع وإعادة صياغة السياسات الخارجية لكل دولة من دول الإقليم. فكما في الاقتصاد، تجري الآن في السياسة الخارجية والدفاع والأمن الوطني عملية إعادة تكيف هيكلي مع هذا المشهد، بغرض أن تتأكد كل دولة في المنطقة من أنها ستكون فائزة في العملية الجارية لإعادة بناء خرائط النفوذ، أو على الأقل التأكد من أنه لن يكون على حسابها.
يمثل تاريخ ٨ ديسمبر الماضي، بسقوط النظام السوري السابق وصعود نظام موال للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين في المنطقة، أكبر وأهم إعلان عن بدء هذا المشهد الجيوسياسي المتغير.
يتوج أحدث تصريح من الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، هذا التغير الاستراتيجي، عن انتقال سوريا بعد ٥٤ عاما من نظام البعث المعادي لإسرائيل والولايات المتحدة، إلى معسكر واشنطن استراتيجيا، وإلى معسكر المنسحبين العرب عن المواجهة مع إسرائيل: «مستعدون لتحقيق الاستقرار الإقليمي وأمن الولايات المتحدة وحلفائها جميعا».
إلا أن التصريح الأهم للرئيس الشرع، في سياق التحولات المرتقبة في السلوك السياسي للجمهورية الإسلامية الإيرانية، هو الذي وجهه إلى الأمريكيين وحلفائهم من إسرائيليين، وأيضا من بين السطور، إلى حلفاء واشنطن العرب والأتراك السنة: «لدينا أعداء مشتركون مع تل أبيب (يقصد هنا الإيرانيين)».
يدرك الإيرانيون هنا أنهم خسروا أهم حليف عربي نشأ منذ اتفاق الخميني وحافظ الأسد على أن علاقتهم هي علاقة استراتيجية.. وأن سوريا التي كانت لهم أصبحت عليهم. يدركون أن خسارة سوريا لا تتعلق فقط بخسارة الممر الاستراتيجي الذي صنع نفوذ إيران الإقليمي الهائل في العقود الثلاثة الماضية، ومكنها من إيصال الأسلحة والدعم لمنظمات المقاومة اللبنانية والفلسطينية، ولكن أيضا في نشوء تخطيط استراتيجي أمريكي ستُوظف فيه إمكانات مالية مخيفة لدول عربية، يجعل من سوريا نقطة انطلاق لتقويض النفوذ الإيراني في العراق وما تبقى منه في لبنان. في هذا التخطيط، يجري إعادة رسم الخرائط بحيث يتم عزل وتهميش مصر واستبدال سوريا بها كقاعدة لنفوذ القوى المحافظة العربية، التي توجهها إدارة ترامب في الأسابيع الماضية كقيادة للمنطقة.
تراجع نفوذ طهران في الشرق الأوسط، وتراجع المعسكر الإقليمي صاحب النفس الاستقلالي الرافض للخضوع التام لواشنطن، يفرض على صانعي السياسة الإيرانية الواقعيين إجراء تحولات ملموسة في سياستهم الخارجية، تستوعب هذه التغييرات، ولكن تحافظ على إرث الخميني في إنهاء حالة التبعية للغرب التي اتصف بها حكم شاه إيران.
هذه التحولات لا يمكن التنبؤ بها سوى على المدى القصير، أو في أحسن الأحوال على المدى المتوسط، وهي مرتبطة بفرضيتين إذا تغيرتا تتغير معهما معادلة التحولات المرتقبة:
الفرضية الأولى: نجاح المفاوضات الإيرانية - الأمريكية حول الملف النووي، وبالتالي رفع العقوبات الاقتصادية الغربية عن طهران.
الفرضية الثانية: استمرار المرشد الأعلى خامنئي في قمة الدولة الإيرانية، وترتيب خلافة له تتبنى النهج الاستقلالي نفسه عن واشنطن، أو بعبارة أخرى: عدم ظهور قائد جديد ينقلب على النظام الجمهوري ويعيد إيران إلى الحظيرة الأمريكية كـ«شرطي للخليج» وحليف أمني، ومزود طاقة لإسرائيل كما كانت قبل ١٩٧٩.
وضع جديد سينشأ إذا تُوجت بالنجاح المفاوضات التي تديرها سلطنة عمان بحصافة كبيرة، والتي تقدم فيها جسورا بين المواقف، وتفكك فيها الأزمات التي تنشأ من تباين الأهداف في المفاوضات أو من التصريحات السياسية التصعيدية من الأمريكيين والإيرانيين بغرض الاستهلاك المحلي للرأي العام لديهم.
هذا الوضع سترفع فيه العقوبات عن صادرات النفط الإيرانية، وعن أموال إيران المجمدة في الخارج، وهو ما سيدفع الإيرانيين ـ على المدى القصير ـ لإعطاء الأولوية للداخل الإيراني على الخارج. سيجري التركيز على إصلاح أحوال الاقتصاد الذي أنهكته العقوبات، واستخدام العوائد المتوقعة من العودة التدريجية لصادرات النفط قرب مستوياتها السابقة، وعودة الأموال المجمدة، في تحسين الأحوال المعيشية، وإغلاق أبواب التململ الاجتماعي من تدهور المعيشة، وضخ موارد جديدة في شرايين الصناعة والزراعة والبنية التحتية، وجذب الاستثمارات الخارجية التي حدّت منها كثيرا سياسة العقوبات.
سيتم التركيز على سياسة خارجية وأمن قومي يستهدفان تعافي القوة العسكرية الصاروخية وقوة الدفاع الجوي التي تضررت من الغارات الإسرائيلية، وإعادة بناء قدرات إيران الشاملة كرادع لنتنياهو عن المقامرة بشن هجوم على المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية.
سيتم التركيز في هذه السياسة المرحلية على ضمان الأمن القومي المباشر للدولة الإيرانية، في حدودها مع دول الخليج العربية، وحدودها مع العراق وتركيا ودول آسيا الوسطى. في هذه السياسة، ستوثق إيران علاقتها القوية الخالية من الشكوك والقائمة على الاحترام مع عُمان، وعلاقتها ذات الطبيعة غير الصراعية مع قطر والكويت، وتحويل خلافها مع البحرين والسعودية والإمارات إلى خلاف سياسي يتم السعي لحله بالوسائل السياسية، عبر تثبيت الاتفاق الحازم القائم معهم الآن بتجنب الحرب التي قد تدمر المنطقة وتقضي على الجميع.
وبخصوص العراق، ستقاوم إيران ـ ولكن بالسياسة والنفوذ الناعم ـ الجهد المنظم الرامي لدفع السياسيين والمجموعات المسلحة الأقرب إليها بعيدا عن مركز السلطة في بغداد.
هذه السياسة الخارجية ستتبع نهجا «انكماشيا» فيما يتعلق بالعالم العربي، يُخفف فيه النمط التدخلي مع حركات المقاومة على غرار: «لن نكون ملكيين أكثر من الملك»، أو «عربًا أكثر من العرب». هذا النهج سيستمر ـ على الأقل ـ حتى تستعيد إيران عافيتها، وحتى تتضح نتائج حرب غزة ومستقبل حزب الله في لبنان.
سترُضي هذه السياسة فريقًا في النخبة الإيرانية كان يعارض ما يسميه «صرف المليارات على أطراف عربية كان الداخل الإيراني أحق بها»، كما تُرضي فريقًا آخر يرى أن بعض هذه الأطراف العربية كانت ناكرة للجميل في أكثر من موقف وأكثر من ساحة.
لكن هذه السياسة الانكماشية مع محور المقاومة، ومع المحيط العربي الأوسع لحين من الزمن، لن تمنع إيران من السعي لفك الحصار الجيوسياسي عليها. تسعى طهران لتوسيع نطاق حركتها السياسية في المنطقة، خاصة مع دول قديمة تتعرض للتهميش الاستراتيجي في التموضع الجديد الذي نشأ في المنطقة، والذي تقوده واشنطن، ويشمل تركيا والشام وأجزاء في الخليج.
تقع مصر على رأس هذه الدول التي ستجدد إيران محاولتها ـ المستمرة منذ عهد مبارك ـ لإنهاء الفتور القائم منذ عهد السادات. ورغم النجاح المحدود للغاية الذي تحقق لها من هذه المحاولة، فإن إيران تشعر الآن أنه إذا قابلت القاهرة هذه المحاولة الجديدة بإرادة سياسية للتقارب، فإنها قد تنجح هذه المرة.
فالتطور الجيوسياسي الراهن لا يُهمّش الإيرانيين فحسب، بل يُهمّش مصر وكل الدول «القديمة» السابقة على عصر النفط، عصر الاستعمار والهندسة الغربية للعديد من الدول الحديثة في المنطقة.
هل يمكن فهم زيارة وزير الخارجية العراقي، عباس عراقجي، غير المعتادة إلى القاهرة اليوم الاثنين، بأنها تأتي في هذا السياق من تحولات متوقعة للسياسة الإيرانية بعد الطوفان المضاد لطوفان الأقصى؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام المقبلة.
حسين عبد الغني كاتب وإعلامي مصري