الصلة بين الفن والتاريخ صلة وثيقة، ولكنها شائكة ومعقدة: فطالما تأمل الفن أحداث التاريخ وشخصياته المؤثرة في مساره، وطالما وثَّق التاريخ أعمال الفن وتطور صناعاته وأشكاله عبر التاريخ. وعلى هذا يمكننا القول إن وقائع التاريخ وأحداثه هي موضوع مشترك بين الفن والتاريخ. ولكن هذه الصلة أعقد كثيرًا من ذلك؛ لأن هذه الصلة تتبدد حينما ننظر إلى كلٍ منهما من حيث نهجيهما في تناول هذا الموضوع المشترك: فالفن يهتم دائمًا بالمعنى الكلي الذي توحي به الأحداث الجزئية؛ بينما التاريخ يهتم دائمًا بالوقائع والأحداث الجزئية ذاتها، أعني: أنه يهتم بهذا الحدث الذي وقع في التاريخ الفلاني، وبتلك الشخصية التي كانت مؤثرة.
لقد فطن أرسطو مبكرًا إلى هذا الاختلاف، فقال قولته الشهيرة: «إن الشعر أوفر من التاريخ حظًا من الفلسفة؛ لأن الفلسفة تبحث عن الكلي، بينما التاريخ يبحث عن الجزئي». وهذه العبارة تحتاج إلى تحليل: ينبغي أن نلاحظ أولًا أن «الشعر» هنا يعني الفن بوجه عام؛ لأن الشعر عند قدماء اليونان هو الفن الجامع (أي: الذي يجمع عند أدائه فنونًا أخرى: كالنص الشعري المسرحي، والتمثيل، والموسيقى والغناء). وينبغي أن نلاحظ ثانيًا أن مناط مقارنة أرسطو هنا بين الشعر/أو الفن وبين التاريخ هو الفلسفة، أي الرؤية الفلسفية باعتبارها رؤية كلية: فالفن/الشعر يهتم بما هو فلسفي أو كلي، بينما التاريخ يهتم بما هو جزئي.
كيف نطبق ذلك على الفن الذي يتمثل وقائع التاريخ وأحداثه وشخصياته؟ كيف نطبق ذلك على ما نسميه «فن التصوير التاريخي» و«الرواية التاريخية» على سبيل المثال؟ ما الذي يميز الفن عن التاريخ حينما يتأمل الفن التاريخ نفسه؟ لنتأمل حالة «فن التصوير التاريخي»:
فن التصوير التاريخي Historical Painting هو فن قد ساد في عصر النهضة والعصر الحديث، وهو فن يهتم بتصوير الأحداث التاريخية الكبرى وشخصيات الملوك والأمراء عبر التاريخ. ولقد برع في هذا الفن معظم الفنانين عبر العصور، ومنهم فنانون معاصرون عظام، من أمثال سِلفادور دالي الذي صور في لوحته الشهيرة «جيرنيكا» وحشية الحرب النازية على قرية مسالمة من القرى الإسبانية، وهو معنى يتجاوز الواقعة التاريخية بتفاصيلها الجزئية إلى التعبير الكلي عن معنى «وحشية الحرب» بوجه عام. ولكن يظل أعظم أساتذة هذا الفن هما: رافائيل وكوريجيو اللذان ينتميان إلى عصر النهضة. فقد استطاع هؤلاء الأساتذة تصوير الروح الكلية للعقيدة المسيحية التي تتمثل في الإيمان بأن السعادة الحقيقية هي سعادة أخروية؛ وهذه الروح «الإسكاتولوجية» أو الأخروية هي المسؤولة عن روح السكينة التي تتجلى في الشخوص المسيحية المقدسة التي عكف هؤلاء الفنانون على تصويرها: فغالبًا ما نجد المسيح في هذه اللوحات طفلًا مع أمه العذراء، أو نجدهما معًا وقد حفتهما الملائكة، وقد تبدى في عيونهم وإيماءاتهم الجسدية حالة الإيمان والرضى التي تتعالى على أية سعادة عابرة.
يهتم التاريخ بتسجيل مواقف الحكام والشخصيات المؤثرة في صنع الأحداث، سواء أكانت أحداثًا كلية عامة أم أحداثًا جزئية عابرة. ينشغل التاريخ بتوثيق الأحداث وفقًا لمناهج البحث التاريخي. ومع ذلك، فإنه لا يبقى من التاريخ سوى تلك الشخصيات والأحداث التي كانت لها أهمية في تغيير مسار التاريخ، أو كانت لها دلالة إنسانية عامة تتجاوز الوقائع الجزئية التي تحدد إطارها الزماني والمكاني. ولذلك فإن اهتمام التاريخ بالحكام والأبطال عبر العصور (مثل: الإسكندر الأكبر، وكليوباترا، ومحمد علي، ونابليون، وهتلر، وموسوليني، إلخ)، هو اهتمام لا قيمة له إن لم ننظر إلى هؤلاء باعتبارهم نتاجًا لعصر ما أو لمرحلة تاريخية ما، أعني: إنه ينبغي تناولهم باعتبارهم جزءًا في سياق مرحلة تاريخية ما. وهذا هو في الحقيقة الفارق الجوهري بين التاريخ وفلسفة التاريخ: فالتاريخ يهتم بما هو جزئي، بينما فلسفة التاريخ تهتم بما هو كلي. ولذلك فإن المؤرخ الذي يتجاوز الأحداث الجزئية إلى فهم دلالتها الكلية في سياق عصرها، لا يكون مجرد مؤرخ، وإنما يكون أيضًا فيلسوفًا للتاريخ.
وعلى هذا النحو نفسه ينبغي أن نفهم رسالة الفن: فرسالة الفن ليست رسالة أخلاقية كما يُروَّج العوام لذلك عادةً، وإنما هي رسالة في فهم معنى أو دلالة إنسانية عامة كما تتجلى من خلال مواقف شخصيات وأحداث جزئية. وبعبارة أخرى يمكن القول بأن هذا هو الفارق بين التاريخ وتأمل التاريخ. وفي ضوء هذا ينبغي أن نتأمل لوحة بيكاسو التي يصور فيها فظاعة ووحشية الحرب النازية على قرية مسالمة من قرى إسبانيا؛ وينبغي أن نتأمل أعمال نجيب محفوظ الروائية التي يصور فيها من خلال أحداث وشخصيات جزئية الروح المصرية كما تتجلى في مرحلة تاريخية معينة؛ والأمثلة على ذلك يمكن أن تتعدد إلى ما نهاية.
وعلى هذا، يمكننا القول إن الفن يكون قادرًا على التعبير عن روح التاريخ وحقيقته أكثر من التاريخ نفسه. وبهذا المعنى يمكن القول أيضًا إن الفن يكون أقرب إلى فلسفة التاريخ من التاريخ نفسه. ولهذا فإن المؤرخين العظام هم أولئك الذين تجاوزوا التاريخ نفسه إلى تأمل دلالة وقائعه وأحداثه، تمامًا مثلما فعل ابن خلدون منذ البداية، باعتباره المؤسس الحقيقي لفلسفة التاريخ، وهو ما يتبدى بوضوح في مقدمة كتابه الشهير الذي يحمل عنوانًا طويلًا هو «كتاب العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر».
د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التاریخ نفسه من التاریخ ینبغی أن أحداث ا بما هو
إقرأ أيضاً:
حفيد روزفلت يوثق قصة اللقاء التاريخي مع الملك عبدالعزيز
أكد الرئيس التنفيذي الثاني للمجلس الوطني للعلاقات الأمريكية – العربية “NCUSAR”، الرئيس التنفيذي لمجلس الأعمال الأمريكي – السعودي سابقًا هول ديلانو روزفلت، حفيد الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين ديلانو روزفلت، عمق العلاقات الإستراتيجية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية.
واستعرض جانبًا من المحطات التاريخية التي أسهمت في ترسيخ هذه العلاقات، مؤكدًا أن اللقاء الذي جمع الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – رحمه الله – بالرئيس فرانكلين روزفلت عام 1945، شكّل نقطة تحول تاريخية في مسار التعاون الثنائي.
وأشار إلى أن اللقاء تم على متن الطرّاد البحري الأمريكي “يو إس إس كوينسي”، إذ ناقش الجانبان مختلف مجالات التعاون، بما في ذلك التنمية الزراعية والصناعية وملف الطاقة، وذلك في ظل سعي المملكة في تلك المرحلة إلى الاستفادة من مواردها الطبيعية، وبناء شراكات دولية فاعلة لدعم مسيرتها التنموية.
اقرأ أيضاًالمملكةالقبض على 15928 مخالفًا للأنظمة بمختلف مناطق المملكة خلال أسبوع
وأوضح أن الاجتماع التاريخي بين جلالة الملك عبدالعزيز والرئيس روزفلت جاء إدراكًا لأهمية تعزيز التواصل بين البلدين، والشراكة المحورية, مؤكدًا أن هذا اللقاء أسس لعقودٍ من الشراكة المستمرة، التي شهدت تطورات ملحوظة في مختلف المجالات.
وأشار إلى أن العلاقات السعودية الأمريكية ترتكز على أسس متينة من المصالح المشتركة، والاحترام المتبادل، والتعاون البناء، مشددًا في هذا السياق على أهمية استمرار الحوار وتكامل الجهود، بما يحقق الأمن والاستقرار والتنمية للمنطقة والعالم.
وأكد هول ديلانو روزفلت أن زيارة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية للمملكة، تحمل دلالات إيجابية وتطلعات إستراتيجية تسهم في تعزيز الأمن والاستقرار، وخدمة المصالح المشتركة لدول منطقة الشرق الأوسط والعالم أجمع.