وضع العلامة عبدالرحمن بن خلدون- رائد علم الاجتماع- إحدى نظرياته السياسية والاجتماعية بناءً على تأثير ما يأكله الإنسان على سلوكه وأفعاله وسرد جملة من الشواهد كما يلي: اكل الأتراك لحم الخيول فأخذوا منها القوة والشراسة ، واكل العرب لحوم الابل فأخذوا الصبر والحقد، واكل الأفارقة لحوم القردة فأخذوا منها اللهو والطرب، وأكل الأوروبيون لحوم الخنزير فأخذوا منها الدياثة، وهكذا كل إنسان يتأثر سلوكه بما يداوم على أكله، واذا كانت الابل هي رفيقة العرب في الجاهلية والإسلام والخيل، فإنه لم يؤثر على العرب في جاهليتهم والإسلام انهم اعتمدوا في مطاعمهم على لحوم القردة والخنازير التي حرمتها الشريعة الإسلامية وهو تحريم معلوم بالضرورة ولا يعذر أحد بجهله.
وبعيداً عن التعميم وجدنا من المفارقات العجيبة أن هناك أصواتاً ارتفعت ومسيرات في دول الغرب والشرق تضامنت مع الأشقاء في ارض غزة، منددة بجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية والحصار والتهجير، تحركات بدوافع إنسانية، فقد تكون رأي عام عالمي أثر على صناع القرار الإجرامي المساند للصهاينة في إجرامهم واحتلالهم، حتى أن الرأي العام الأمريكي الجديد الذي يمثله الجيل الصاعد، يرى أن إزالة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين هي الحل وليس التوطين البديل للفلسطينيين بنسبة 95% منهم، وهذا التحرك رغم أن معظم أبناء تلك المجتمعات مسموح لهم تناول لحوم الخنازير، وفي المقابل وجدنا من الحكومات والأنظمة والنخب السياسية والإعلامية العربية من ذهب لدعم الاحتلال الصهيوني بكل أشكال الدعم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإعلامي، بما في ذلك كفالة أطفال اليهود الذين قتلوا النساء والأطفال وأبادوا الأخضر واليابس على أرض غزة، حتى أن الموائد الرمضانية احتفت بهم ضيوفاً عليها إضافة إلى الهندوس وغيرهم، رغم أن العرب يتميزون بالشهامة والنجدة والحمية، وحماية الأعراض والأنساب وأغلب أكلهم لحوم الابل والأنعام التي أباح الله أكلها، ولذلك فقد استغربت كثيراً من حديث الصحفية اليهودية لوسائل الإعلام بأن هناك دولاً عربية لا تريد وقف الحرب بجرائمها وبشاعتها وقذارتها على غزة، وانها تضغط على الكيان الصهيوني للاستمرار فيها وأن ذلك يشكل أداة مساومة للصهاينة للمساهمة في تقاسم تكاليف الحرب الإجرامية إلى جانب بقية الحلفاء أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وأستراليا وغيرها من الدول الداعمة، وأشارت إلى اهم هذه الدول وهي الإمارات والسعودية وطبعاً إضافة إلى دول الطوق التي لم تستطع السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، واكتفت بالإنزال الجوي لها في عرض البحر حتى لا تخالف تعليمات وتوجيهات الصهاينة والحلف الصليبي المساند لهم.
وبناءً على النظرية الخلدونية سالفة الذكر، فقد طالعت تقريرا اخباريا نشرته الجزيرة الاقتصادية عن الدول المستوردة للخنازير (لحوما ودهوناً) أثناء أزمة (انفلونزا الخنازير) في العام 2009م، فقد استوردت الإمارات في غضون شهر (54 طناً مترياً لحوم) ومصر والبحرين وفقا لبيان وزارة الزراعة الأمريكية، مع العلم أن أمريكا ليست المصدر الوحيد، فهناك أكثر من مصدر من دول الشرق والغرب)، وتأتي ثلاث دول عربية من بين أوائل الدول المستوردة وهي (الإمارات ومصر والسعودية) على الترتيب وفقا لإحصائيات 2023م، ومن بينها لحوم وشحوم الخنازير، وهو ما يؤكد أن الخطوات الانفتاحية بتحليل المحرمات وإباحتها وسن القوانين المنظمة، تؤكد صحة النظرية السابقة، حتى أن التحول نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني ودعم جرائم الإبادة، والجرائم ضد الإنسانية بحق أشقائنا في أرض غزة وفلسطين، هو أحد التأثيرات لتناول لحوم الخنازير وشحومها التي أصبحت اليوم تستورد بالأطنان ويتم إدماجها في كافة المنتجات الصناعية من البسكويت والشكولاته، والأدوية ومعجون الأسنان، وغيرها من المنتجات، ولم يبق سوى إصدار الفتوى بالتحليل، أسوة ببقية المحرمات- كالخمر والمثلية والدعارة والدياثة وغيرها.
وإذا كانت الإمارات والبحرين قد سبقتانا في هذا المجال فإن السعودية وغيرها في الاتجاه ذاته، فقد تمت إباحة الخمر بدعوى أنه ممزوج بماء زمزم وسن القوانين لإتاحة المجال أمام المرأة لتفعل ما تشاء وبذلك يتم هدم بنيان الأسر والمجتمعات.
لقد تحولت تلك الدول العربية والإسلامية إلى النقيض في توجهاتها السياسية والاقتصادية والدينية وفي كافة المجالات – تحت ذرائع شتى، منها محاربة الإسلام السياسي، ومكافحة التطرف الديني، ووصل الأمر بوزير الخارجية الإماراتي إلى التحريض العلني على الجاليات والمسلمين في دول الغرب- ودعوته قادة تلك الدول لطردهم من بلدانهم واتهامهم بالإرهاب والتطرف، ولم يكتف بذلك بل إنه عمل على إلصاق اقذر وأحط الجرائم بها، فهي -حسب زعمه -أصوات تنادي بالقتل وسفك الدماء واستحلال ثروات الناس، نراها في (لندن وألمانيا واسبانيا وإيطاليا)، متناسيا أن أمريكا دمرت العراق وأفغانستان وغيرهما من البلدان العربية والإسلامية وأن الضحايا يتجاوزون الملايين، أما عن الثروات فهي تسيطر على نفط الخليج العربي، والآن ضمت إلى ذلك نفط العراق وسوريا.
وسواء كان هذا الانحدار السياسي والأخلاقي ناتجاً عن التأثير الذي أشار إليه العلامة ابن خلدون أنه أم ناتج عن نظرية أن المهزوم مولع بتقليد الدول المتحضرة، فإن اتجاه دول منظومة الخليج وغيرها من الدول العربية إلى إباحة المحرمات وإلغاء الأخلاق والقيم والمبادئ التي جاءت بها الشريعة الإسلامية وحفظت الإنسان ورفعته من السقوط إلى مراتع البهيمية واستبدال ذلك بالمنهج الغربي الذي يبيح كل شيء بدعوى الحرية، فإن كل ذلك لا يعني إعانة الكيان الصهيوني على إبادة الأشقاء في أرض فلسطين وتهجيرهم من أرضهم وبيوتهم ومزارعهم وتنفيذ أجندات الحركة الصهيونية العالمية، وخدمة التحالف الصليبي الصهيوني الذي يعمل على إطالة الفرقة والشتات بين أجزاء الوطن العربي من خلال السيطرة على أرض فلسطين وتوطين اليهود بها.. فهل يعي صهاينة العرب هذه الأسس والمبادئ والقيم ويعملون على تدارك أخطائهم قبل فوات الأوان؟، لأن المكر مهما كان فإن مصيره إلى زوال، فالله سبحانه وتعالى تكفل بإبطاله وهو القادر على كل شيء ” وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ».
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
قمة بغداد العربية والحاجة للمّ الشمل العربي !
ليس من المبالغة في شيء القول إن قمة بغداد الرابعة والثلاثين، التي عُقدت في العاصمة العراقية بغداد يوم السبت الماضي، تُشكّل في الواقع علامة بارزة على طريق القمم العربية منذ القمة العربية الأولى في «أنشاص» عام 1946، والقمة العربية عام 1989 في العاصمة العراقية بغداد برئاسة الرئيس العراقي صدام حسين في ذلك الوقت، والتي اتُّخذ فيها قرار مقاطعة مصر ونقل مقر جامعة الدول العربية مؤقتًا من القاهرة إلى تونس، بسبب معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، ورفض الدول العربية الأعضاء في الجامعة رفع أعلامها الوطنية إلى جانب العلم الإسرائيلي على ضفاف النيل في القاهرة.
وبين عامي 1946 و1989 من ناحية، وعامي 1989 و2025 من ناحية ثانية، مرت أحداث وتطورات عديدة على الدول العربية، وعلى امتداد نحو ثمانين عامًا تقريبًا، جرت تغيّرات لم يكن يتصورها أحد. وآخرها الجولة التي قام بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وشملت كلًا من السعودية وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة، واختتمها ترامب قبل أيام قليلة باحتفالات غير مسبوقة وبإشادات لم يعهدها قادة المنطقة من جانب الرئيس الأمريكي، والأسباب معروفة ومبررة أيضًا إلى حد كبير في مثل هذه الحالات، في ظل الفجوة الكبيرة بين الدولة الأولى في عالم اليوم (أي الولايات المتحدة)، وبين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وأيًا كانت العلاقات بين الدول ومستوياتها، فإنها تحتمل الكثير من المعاني والمجاملات والتقديرات المتبادلة، على أكثر من مستوى، خاصة وأنها تخص القيادات في المقام الأول، ولا تتخطاهم إلى غيرهم في الغالب.
على أية حال، فإن جولة ترامب في الشرق الأوسط أرست في الواقع أساسًا جديدًا ومختلفًا للعلاقات الأمريكية مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والآفاق التي تنتظرها، أو تنتظر بعضها على الأقل، في السنوات القادمة، والتي تبلورت في عدد من الصفقات، تم الإعلان عن بعضها، وسيُعلن عن البعض الآخر خلال الأشهر القادمة، وفق كل حالة على حدة.
أولًا: إن استضافة بغداد للقمة العربية الرابعة والثلاثين تأتي في وقت بالغ الأهمية على المستويين الفردي والجماعي العربي، وهو ما تجسّد في الجدل حول مشاركة سوريا في القمة، ومعارضة بعض النواب العراقيين لتلك المشاركة، في ضوء أعمال القيادة السورية في السنوات السابقة، والتي حسبها البعض على القيادة، وترتب على ذلك عدم مشاركة الرئيس السوري أحمد الشرع في أعمال القمة، وتمثيل وزير الخارجية بلاده في أعمال القمة.
ومن بين أعمال كثيرة، يمكن الإشارة إلى بعضها، وأبرزها ما يلي:
أولًا: أن الظروف العربية في هذه الفترة تتسم بوجه عام بعدم الاستقرار وعدم الهدوء، ثم ترتب على ذلك تقاطع الكثير من المشكلات بين الدول العربية، ووصول بعض الخلافات إلى محكمة العدل الدولية؛ كخلاف الجيش السوداني مع دولة الإمارات العربية المتحدة، لاتهام الجيش السوداني للإمارات بتسليح قوات الدعم السريع، وهو ما نفته الإمارات، ولم تعترف به، وترتب عليه شطب الدعوى.
ومن جانب آخر، نشبت مواجهات مسلحة بين أكثر من دولة عربية؛ منها على سبيل المثال توتر العلاقات السورية اللبنانية، والعلاقات الأردنية السورية بسبب تهريب المخدرات عبر الحدود، وكذلك تهريب المرتزقة والميليشيات إلى داخل الدول. يُضاف إلى ذلك توتر العلاقات الجزائرية المغربية، والصدامات الداخلية في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع. هذا فضلًا عن تدخل دول عربية في مشكلات دول عربية أخرى، مما زاد من تعقيدها وعرقلة محاولات حلّها بشكل أو بآخر.
كما لا يمكن تجاهل الخلافات الفلسطينية ـ الفلسطينية، وتعثر جهود الوساطة العربية والدولية، وما يترتب عليه من نتائج مباشرة وغير مباشرة، بالإضافة إلى الصدامات المسلحة بين الميليشيات في ليبيا، وآخرها ما حدث مؤخرًا في طرابلس. وقد أدى كل ذلك إلى مواجهات وتصفية حسابات بين القوى المتصارعة في أكثر من بلد عربي، ثم إلى إضعاف الدول وانحدارها إلى ما يشبه الدول الفاشلة، مما تتحمل الشعوب العربية كلفته في النهاية.
وأمام هذه الأوضاع، كان من الضروري السعي بقوة لعقد القمة العربية، في محاولة للخروج من أكبر قدر ممكن من المشكلات، أو على الأقل التوصل إلى تفاهمات تمهّد للحلول، حتى لو كانت عبر الإطاحة بالنظام القائم، كما حدث في سوريا في ديسمبر الماضي.
ثانيًا: إن تعدد المشكلات والخلافات العربية ترتب عليه تعدد وتنوع مصادر التصعيد، بما يعنيه من قابلية التوسع وامتداد الخلافات وتعقيدها، وعرقلة حلها. ومن ثم، فإن عقد القمة العربية كان أحد السبل الممكنة للبحث عن حلول، وتقريب وجهات النظر، ومحاولة التوصل إلى تفاهمات تُسهم في تخفيف حدة الأزمات. وهذا النوع من التفاهمات غالبًا ما يكون بيد القادة، بما يتيحه لهم من قدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة.
ثالثًا: إن حالة من الاستقطاب شغلت الأطراف العربية، خاصة حول حل القضية الفلسطينية، وحول خيار حل الدولتين، ومقترح ترامب بتهجير سكان غزة إلى دول ومناطق أخرى تتوفر فيها حياة أكثر هدوءًا. وهو ما عارضته الدول العربية بشدة، لمخالفته للقانون الدولي والشرعية الدولية، كما قوبل بالرفض داخل الأمم المتحدة وخارجها.
ورغم أن ترامب عاد مؤخرًا للحديث عن خيار التهجير، فإن الموقف العربي الرافض لا يزال يشكل عائقًا أمام هذا المسار، برغم ما يُشاع عن تقديم إغراءات لتسهيله. ومن المؤكد أن بلورة موقف فلسطيني وعربي مشترك، ستُسهم في دعم خيار حل الدولتين، وهو ما تخشاه إسرائيل بشدة، خاصة بعد تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون، ورئيس وزراء إسبانيا، عن احتمال اعتراف بلديهما بالدولة الفلسطينية.
هذا الاعتراف قد يشكل بداية سلسلة من الاعترافات الدولية، في إطار حل الدولتين الذي تسعى إسرائيل لعرقلته بشتى الوسائل. ومن هنا نفهم تصريحات نتنياهو الرافضة لهذا الحل تحت أي ظرف. ومع الوضع في الاعتبار التماسك العربي، والدعم الإقليمي والدولي المتزايد لحل الدولتين، فإن قمة بغداد تزداد أهمية، خاصة مع وجود ميل أمريكي ـ كما يبدو من تصريحات ترامب ـ لتفهم أهمية هذا الحل، والتعامل معه ضمن صفقة شاملة تشمل إطلاق سراح الرهائن، ومنح ترامب لقب «رجل السلام»، وهو ما يتطلع إليه، خصوصًا مع تأكيده عدم الترشح لفترة رئاسية ثالثة.
ومن هنا، فإن تركيز «بيان بغداد» على حل الدولتين، ورفض التهجير، يكتسب أهمية كبيرة في مواجهة أية ضغوط مباشرة أو غير مباشرة. وبرغم محاولات ترامب، فإن حق الشعوب، وخاصة الشعب الفلسطيني، لا يمكن التنازل عنه تحت أي ظرف.