عن الاستبداد والطغيان وعلاقات القوة في العالم العربي
تاريخ النشر: 19th, April 2024 GMT
اعتبر فيلسوف الحداثة ميشيل فوكو أن كل المجتمع غاطس في حوض من علاقات القوة، فالكل يحارب الكل في حرب أهلية مبطنة غير معلنة. وفي هذا الخضم العارم من النزاع وعلاقات القوة فإن الأقوياء يسعون ليس إلى بناء علاقات إنسانية، بل إلى إزالة الطواغيت واستبدالهم بطواغيت جدد، ولذا فإن ما جاء بالقوة أعاد مرض القوة، وهذا سر استعصاء الحياة السياسية في العالم العربي لأنه مبني على علاقات القوة، فمن أراد التغيير عمد إلى القوة، فالعالم الإسلامي انفك عن أحداث العالم وانفصم عن صيرورة التاريخ وأمواج المعاصرة.
فمرض الطاغوتية يعم العالم أجمع بدءا من رأس الحية والطاغية الأكبر أمريكا والشرك الأعظم الفيتو، وانتهاء بالديكتاتوريين في العالم الثالث أو عمالقة المال الذين يشترون كل شيء وتمتد إمبراطوريتهم عبر كل القارات فلا تغيب عنها الشمس قط؛ بما لم يحلم به هارون الرشيد والملكة فكتوريا. والسؤال: ما الذي يوقظ الشهية إلى قوة لا تعرف الشبع؟ كيف يتقرر مصير من يسلك الدرب ليصل إلى القمة؟ وأخيرا كيف تؤثر متعة القوة في مزاج الأقوياء الجبارين؟
ما الذي يوقظ الشهية إلى قوة لا تعرف الشبع؟ كيف يتقرر مصير من يسلك الدرب ليصل إلى القمة؟ وأخيرا كيف تؤثر متعة القوة في مزاج الأقوياء الجبارين؟
هذه المشكلة هزت الدكتور فيليب زيمباردو أستاذ النفس الاجتماعي بجامعة ستانفورد لفهم ظاهرة الطغيان الإنساني؛ هل هي إفراز للوسط الاجتماعي؟ هي تابعة للأخلاق الفردية أو جينات الوراثة عند كل منا؟ فقام بتجربته الشهيرة التي عرفت بتجربة ستانفورد ونشرتها مجلة در شبيجل الألمانية (العد 11-2001) لفهم سيكولوجية "السيطرة والانصياع" والتخدر بأفيون القوة، وكيف يتغير الإنسان عندما يضع يده على مفاتيح القوة؟ وما الذي يحول الإنسان من رجل عادي بسيط إلى مجرم محترف وقاتل سادي كما يحصل مع الطغاة؟
قام زيمباردو بانتخاب 24 متطوعا من أصل 75 درسهم في اختبارات الذكاء، حيث طهروا أناسا عاديين أسوياء، ثم قام بتقسيمهم إلى مجموعتين على نحو عشوائي فأصبح فريق منهم "مسجونين"، والنصف الثاني "سجانين". وزيادة في فعالية التجربة قام البوليس بإلقاء القبض على المسجونين فعصبوا عيونهم ثم أودعوا القبو، أما السجانون الذين تلقوهم بملابسهم ونظاراتهم السوداء فكانوا يوحون بأنهم شرطة حقيقية ومعهم كل الصلاحيات، وفي أيديهم الهروات مع رزمة المفاتيح، وكاميرات الفيديو تراقب مع مسجل صوتي في كل زنزانة. وفي لحظات وصولهم الأولى تم نزع ملابسهم ومسح أسمائهم، حيث تحول كل واحد إلى رقم، ومع البودرة والحمام تم تنظيفهم من القمل، ولبسوا ملابس العنابر القطنية الطويلة المهترئة وأما اغطية الرأس فكانت جوارب نسائية.
وكان من المفروض أن تستمر التجربة 14 يوما، والذي حصل أن الوسط تحول إلى جو إرهاب خلال ثلاثة أيام، وفي اليوم السادس دق ناقوس الخطر واضطر عالم النفس الأمريكي أن يوقف التجربة تحت ضغط زميلته في العمل وأنه لا يمكن تبريره أخلاقيا باسم التجارب العلمية.
والنتيجة المفزعة التي خرج بها زيمباردو أن ما يحكم ليس الأخلاق الفردية بل الوسط الاجتماعي عندما تحين الفرص للتحكم بالآخرين ولا يوجد من يردع،
فكانت الرسالة واضحة في التجربة: يجب أن نستبدل قناعتنا بأن مثل هذا لا يمكن أن نفعله، بجملة أصدق: كلنا يمكن أن يفعل أي شيء مع تغير الوسط. وصدق ديكارت حينما قال: "إن أعظم النفوس عندها استعداد أن ترتكب أفظع الرذائل".
وبالعودة إلى الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة، فهو ينقل قصة مثيرة كان شاهدا عليها أثناء مروره على دمشق، حينما تعالي صراخ الناس في المسجد، وهم يحيطون برجل يشبعونه ضربا، فهرع مع الناس يستطلع الخبر، ليفاجأ بهجوم العامة الكاسح على فقيه تتعاون عليه الأيدي بالتأديب، وبالنعال على رأسه، فسقط الفقيه وطارت عمامته، واقتيد إلى أحد القضاة للتعزيز. ونفاجأ بأن الفقيه الذي أكل هذه العلقة الساخنة وطارت عمامته من خفق النعال على جمجمته لم يكن سوى العالم المصلح المجدد ابن تيمية رحمه الله.
هذه القصص وأمثالها لم تنته عند ابن تيمية بل بدأت في عالمنا العربي ولم تتوقف، وإن ما جرى في أحداث الربيع العربي الشواهد كثيرة وفظيعة ولا تروي سوى حقيقة واحدة مفادها أن التاريخ رسم بالدم والسم والدموع والدخان واللهيب، لا مناص منها ولا مفر ولا وزر منها أو مخبأ، وأن الاستبداد والطغيان وعلاقات القوة هي التي تتحكم بنا.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات القوة النفس الطغيان الديكتاتورية القوة النفس النفوذ الطغيان سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة مقالات صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
بين إفراط القوة وفرط الانتظار
سالم بن محمد العبري
حين أخذت المُقاومة بأسباب التَّحرك في السابع من أكتوبر ألفين وثلاثة وعشرين لم يكن قرارا غافلا عن استقراء الواقع الفلسطيني والعربي والدولي، لكن ربما لم يتصوروا هذا الوهن والذل؛ بل والخيانة من بعض الأطراف العربية وعلى رأسها سلطتهم المنكوسة وقد لا يكونون تصوروا هذا الاحتواء الغربي الأمريكي لشبه النظام الدولي، وإن بدت المحكمة غير مَيِّتةٍ مِيتةً مؤكدة.
وأظن أنَّ كل أطراف الصراع الدولي لم يتصوروا أنَّ الأمر سيمتد للفترة التي قد تحول حولين لإتمام الرضاعة فلا مجال للندم ولا حتى للإعلام والتنسيق والتخطيط؛ فكل القوى المقاومة بات أمرها مستحيلا في ظل الاختراق العربي والعالمي المدعوم بالثورة التكنولوجية والاستخباراتية الغربية والعربية العميلة المأجورة وفي ظل الإفقار المحكم المخطط للمُحيط العربي حول فلسطين كتسليط القصير الأمريكي مما ضاعف آثاره فقرًا ومنعًا.
وإذا بدا أن هذه الجولة ممتدة فإنَّ الاستعمار والرجعية العربية والدولية وجدت فيها فرصة لتحكم أنيابها وتنشر قواها وخبراتها ولتضرب في كل الجهات ولكل القوى القريبة والبعيدة وتنفيذ خططها المبرمة منذ عقود، ها هي تنفذ عملية اغتيال نصرها بطريقة معقدة اشتركت فيها كل الأيادي والأدوات، مستغلين الفترة الزمنية وتوافق الحناجر العربية والعالمية للتخلص من ظاهرة وشخصية وكاريزما لن تعوض في زمن قصير، وسوف تتحمل الأيدي الآثمة المسؤولية التاريخية عن هذه الجريمة، كما تحملت الرجعية الإسلامية جريمة مقتل آل النبي والتمثيل بجثثهم؛ فهذه القوى قد أجمعت أمرها على تحويل المرحلة إلى لحظة فاصلة، فتخلَّصت أولًا من فرق أو جيش الرضوان الذي كان السيد حسن نصر الله يُفاخر به، ويعتمد عليه لنقل المعركة إلى داخل فلسطين في الجليل. وقد فعلت إسرائيل ذلك بتفجير البيجر وشقيقاته؛ فهم يصنعون القنبلة المخصصة للقضاء على أشرف وأكرم وأخلص النَّاس، وقد جمعت كل البيانات، وشارك بعض العرب، مؤسسات وأفرادا أعماهم حقد المذاهب والملل، ولم يفرقوا بين اختلاف فكري غالبُه غيْبيّ، وبين عدو مشترك تاريخي وواقعي وواضح وضوح آيات الله وسننه، والفكر الذي أوجده الاستعمار باستلاب الثروات وخلق طبقة قارونية صغيرة تستحوذ على غالبية الثروات وأدوات الإنتاج والتشغيل وربطتها بها؛ فهي لا تهتم إلا بالوكالات والبنوك وخدمات القوى الغازية، حتى في حروبها وهي تحتل العراق وليبيا وسوريا، واليوم تبيد غزة إنسانًا وبُنيانًا وحجرًا، تذكر ذلك الطبيب الذي كنَّا نستشفي بعياداته فإذا بها لا تحمل نشاطه وإذا به موردا لحاجيات القوات الأمريكية والدولية التي تتنقل من غزو إلى غارة.
وقد أجهزت تلك القوى على نصرها وأشباله وجنوده وعلى فرق عماد مغنية وأثخنت الحزب وجنوب لبنان وضاحية بيروت، حتى صارت كعاد وثمود وأصحاب الرس، إذن فلنقطع الحبل السُري للمقاومة، ونحط بسوريا من الشرق بسد أممي، يمنع الحشد الشعبي من التنقل بسوريا، وإلا فالإبادة والإسقاط لكل طائرة تحاول الوصول لسوريا.
أما هذا الذي يرى في نفسه خليفةً للمسلمين، فقد أقفل كل هواتفه وعيونه وأفئدته؛ فهو لا يسمع ولا يبصر لأي نداء أو رجاء، حضر عزرائيل لقبض روح سوريا، فلا حول ولا قوة لخليفة قد جرى عليه القلم الأمريكي الإسرائيلي. أفلم تسمعوا تحذير نتنياهو، وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان!
لقد منحتمونا الفرصة حين لم تدخلوا الخليل مع نهاية شتاء 2024، كُنا نتحضَّر للرد والكشف، لكنكم طال انتظاركم وحساباتكم غير المُوفقة، فقد أفرطتم بالشعور بالقوة التي تواجهونا بها، نحن العالم كله، أفرطتم في الشعور بالقوة، وتناسيتم قرآنكم، "وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا". نعم أفرطتم في الشعور بالقوة حتى فرّطتم في الانتظار ومددتم الميقات مرارا من خريف 2023 إلى ربيع وصيف 2024، دعونا نسخن الصيف لنقضي عليكم في خريف 2025، وذلك ما كان وما حدث؛ فالعرب نفسهم طويل، ونومهم أطول، ولا حول ولا قوة إلا بالله.