مع ظهور الإذاعة العمانية في نهاية يوليو 1970م، أخذ يتشكل لدى الناس طقس صباحي جديد يبدأ معه إيقاع الحياة اليومية. فقد أصبح في كل بيت ومجلس جهاز راديو يمكن أن تسمع صوته وأنت في أزقة الحارة، وأخذت السيارات تتكاثر في الشارع بعدما كانت نادرة، وفي كل سيارة راديو، وكذلك في الأسواق، وفي الحقول والمزارع. كل هؤلاء يستمعون للمحطة نفسها بكل ما تقدمه.
(Music For an Arabian in Birut) واسم المقطوعة (Wedding Dance) قام بتأليفها عام 1959/م.
كانت الفترة من هذه المقطوعة إلى نشرة الأخبار فترة ذروة استماع مهمة؛ لأنها تبدأ مع بداية إيقاع الحياة اليومية بعد صلاة الفجر، وربما أسهمت بموادها في تقديم جرعات مهمة روحية ومعرفية وإخبارية، ففي السادسة السلام السلطاني، بعده مباشرة يقوم مذيع الربط بافتتاح يوم إذاعي جديد بديباجة معروفة يصبّح فيها بالمستمعين معرّفا بالمحطة وبداية البث والتاريخين الهجري ثم الميلادي وبعض الموجات العاملة التي تبث من خلالها، وهما موجتا الـ Mw أي الموجة المتوسطة وتسمى أيضا Am وموج Sw أي القصيرة، قبل أن تظهر موجة الـ Fm، متمنيا لهم وقتا ممتعا ومفيدا مع ما ستقدمه الإذاعة طوال هذا اليوم، مستهلا بالقرآن الكريم، لمدة نصف ساعة، بعده حديث الصباح الديني لمدة حوالي عشر دقائق، ثم برنامج صباحي مسجل، يتغزل فيه المذيع والمذيعة بجمال الصبح وشروق الشمس، ويدعو محتواه لاستقبال اليوم الجديد بالبشر والتفاؤل والابتسام، ثم أغنية صباحية مختارة تصل بالساعة للسابعة يتم اختيارها بعناية مثل طير الوروار، أو جايبلي سلام عصفور الجناين لفيروز، الصبح في بلادنا أو صبح الصباح محلاه لنجاح سلام، فلاح لشريفة فاضل، صبّح صباح الخير لطلال مداح، يا نسيم الصبا سلم على باهي الخد لمحمد عبده، التي نسمعها يا نسيم الصباح وليس الصبا.. في تمام السابعة يعلن مارش الأخبار (القديم) بداية أولى نشرات الأخبار. وعدا دقات الساعة، كانت هناك شارة أخرى لإعلان الوقت تستخدم عادة للمواجيز، نسميها اصطلاحا بيبس Pips صوتها يشبه نطقها، وهي عبارة عن حوالي خمس نغمات ناعمة متقطعة لا تتجاوز ثانية واحد والأخيرة أطول قليلا.
نشرة السابعة- التي سهرت عليها دائرة الأخبار من منتصف الليل حتى ذلك الوقت- لم يتغير وقتها إلى اليوم وإنما تطورت إلى فترة إخبارية كاملة.
ولاحقا ظهر برنامج (صباح الخير يا بلادي) الذي يعد اليوم أقدم برنامج مستمر على الإطلاق في إذاعة سلطنة عمان، ولعل خير من يتحدث عنه هو مؤسسه الذي استمر فيه سنوات طويلة الزميل الصديق خالد الزدجالي، ومخرجه أحمد الأزكي الذي رسخ واحدة من أشهر المقدمات البرامجية بعبارة (رزقك على الله ياطير) وقد شاركت بتقديمه في البدايات وفي فترات متقطعة.
موسيقى شارة الافتتاح تلك تشكل الإنذار قبل الأخير لنا لنصل إلى الاستديو، أما السلام السلطاني فهو الإنذار النهائي لقصر مدته..
كانت هذه الفترة في الشتاء أجمل بكثير من الصيف، فبين الخامسة والسادسة في الصيف يكون الجو حارا والشمس ساطعة، أما في الشتاء فهذا الوقت لطيف جدا بالشتاء المسقطي المعتدل، لدرجة أنني أتعمد الخروج باكرا من البيت لأحظى بشاي وسندويتش (بيض جبن) ساخن من كافتيريا محطة الحواسنة (هذا هو اسمها المتداول) مقابل جهاز الأمن الداخلي، لأتناوله عند الشاطئ أو في المواقف حسب سعة الوقت.. ولكل مذيع ومذيعة جرب هذه الفترة الكثير من المواقف والورطات التي أودت بالبعض إلى عقوبات إدارية.. فمن بعض ذكرياتي، في رمضان عندما قرأت نشرة الثامنة صباحا (هي نفسها السابعة تحرك في رمضان إلى الثامنة)، ولأنني كنت أسهر للصباح وأواصل حتى النشرة، فقد كانت أسوأ نشرة قرأتها في حياتي، وكانت النتيجة أن وجدت رسالة من مجهول وضعها لي في بوابة الأمن يكيل عليّ فيها عبارات التعنيف والتوبيخ واللامبالاة وعدم الشعور بالمسؤولية في احترام نشرة الأخبار والمستمعين، فكانت درسا مهما لي، أشكره عليها. موقف آخر أنني من العجلة حتى لا أتأخر دهست كلبا في الشارع ورأيته من المرآة وهو يترقص من الألم ولا أعلم حجم الإصابات التي سببتها له وواصلت المسير، ولكنني إلى اليوم أتألم لذلك المشهد، وذات مرة أقفلت أبواب السيارة وهي تعمل والمفتاح والاحتياط داخلها فلجأت للاتصال بزميلي وجاري أ بدر الشيباني ليتوجه إلى الإذاعة بدلا عني لقراءة نشرة السابعة صباحا بينما أتصل بالشرطة لمساعدتي وقاموا فعلا بحل المشكلة، ولكن ظلت في الباب كدمة إلى أن بعتها... وورطة أخرى عندما لجأت للنوم في غرفة وكالات الأنباء الملاصقة للاستديو المؤقت الذي عملنا فيه حوالي سنتين انتقاليتين حتى يجهز المبنى الجديد والكبير للإذاعة الذي بدأ تشغيله عام 1988/م، حيث قضيت تلك الليلة في تحرير الأخبار، وكان علي أن أواصل لافتتاح الإذاعة، ووضعت ورقة على المكسر (طاولة وجهاز الإخراج) كتبت فيها: (أنا نائم في غرفة الوكالات، أرجو إيقاظي)، ولكن عندما وصل منفذ الفترة الزميل (عبدالله العزري) لم يجدني، ومع اقتراب السادسة أخذ يبحث عني في كل الإذاعة ولم يعثر علي، ولم يتخيل أنني نائم هناك فتلك الغرفة ليست مكانا مناسبا للنوم، ولكن أغرتني برودتها الشديدة. وأثناء بث السلام السلطاني قرر أن يطل على الغرفة ليجدني نائما فوق طاولة موظف الوكالات ويوقظني وينبهني أن السلام على الهواء فقفزت من مكاني مذعورا، وفي لمح البصر كنت عند الميكروفون الذي فتحه لي لأخرج للمستمعين وأنا ألهث في التقديم، أقول كلمتين أو جملة وأعود لغلق الميكروفون حتى أنهيت الافتتاحية وقدمت القرآن الكريم، لألتقط أنفاسي في النصف ساعة القادمة. أما الورقة التي كنت وضعتها على المكسر فقد طاف عليها العامل الذي ينظف المكان قبل أن نبدأ، ولأنه لا يقرأ العربية فقد رماها في سلة المهملات أسفل الطاولة.. موقف آخر لا أنساه في نفس الاستوديو وكان عليّ تسيير الفترة الصباحية كمذيع ربط، قبل أن أجاز لقراءة نشرات الأخبار، وقد حضر الزميل الأستاذ علي الجابري لقراءة نشرة السابعة، وأحرص على وجودي داخل الاستديو لأتابع زميلي وهو يقرأ النشرة لعلي أستفيد منه، ولكن غلبني النعاس، ولأن الأرضية سجاد فقد قلبت الكرسي وجعلت من مسنده وسادة وتمددت في الأرض، ودون أن أشعر استغرقت في النوم، وعند منتصف النشرة تقريبا بدأت أقدم عزفا منفردا خفيفا من الشخير أخذ يتصاعد، ليتورط معي زميلي أبو المعتز ليصل بيده وربما برجله إلى طرف رجلي ويهزها ويقول لي: محمد تراك تشخر وصوتك واصل للميكروفون.. فانتصبت جالسا القرفصاء كتمثال بوجه فيه كل التعابير البائسة والمضحكة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: نشرة الأخبار
إقرأ أيضاً:
ظفار تنتظرك.. ولكن ليس على نقالة!
أحمد البوسعيدي
كل عامٍ، عندما يهبّ نسيم الخريف على محافظة ظفار، تتحوّل هذه البقعة الساحرة إلى لوحةٍ طبيعيةٍ تسرق الألباب. السحب تلامس الجبال، والأرض تكتسي خضرةً نضرة، والهواء العليل يدعو الجميع إلى السفر والاستمتاع. لكنّ هذه الرحلة الجميلة تحمل بين طيّاتها قصصًا مؤلمة، قصص لم تُكتَب نهاياتها بعد، لأنّ ضحايا الطريق إلى ظفار ما زالوا يُضافون إلى القائمة كل يوم!
تخيّل معي للحظة أنك تقف على حافة الطريق، تشاهد سيارةً تتجاوز بتهوّر، تخطفها الكثبان الرملية فجأةً، أو تصطدم بسيارةٍ أخرى قادمة من الاتجاه المعاكس. في ثانية واحدة، تُحكَم على أسرةٍ كاملة بالموت أو الإعاقة الدائمة. طفلٌ يفقد أباه، امرأةٌ تفقد زوجها، عائلةٌ تُدفَن تحت ركام الحزن والأسى. كل هذا بسبب لحظة طيشٍ من سائقٍ لم يتحلَّ بالصبر، أو لأنّ أحدهم ظنّ نفسه بطل سباقٍ خيالي!
يا سائق السيارة، هل تعلم أنّ قدميك على دوّاسة البنزين قد تكونان أقرب إلى نعشك مما تتصوّر؟ هل تدرك أنّ تجاوزك الخاطئ قد يُنهي حياة أبٍ يعيل أولاده، أو شابٍ في ريعان شبابه؟ القرآن الكريم يقول: "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا" (المائدة: 32). فكيف بمن يقتل غيره بغير حق، لمجرّد أنه أراد الوصول ساعةً أسرع؟
النبي ﷺ قال: "إياك والتعرّضَ للتهلكة"، فكيف بمن يضع نفسه والآخرين في مهبّ الخطر لمجرّد إثباتٍ وهمي للشجاعة؟ السرعة الجنونية، والتجاوز في المنعطفات، والقيادة تحت تأثير الإرهاق، كلّها أسلحة فتّاكة تقتل بأبشع الطرق.
أخي المسافر، أختي المسافرة، ظفار لن تذهب بعيدًا، ولن تهرب منكم. الجمال الذي تبحثون عنه لن يختفي إذا وصلتم متأخّرين ساعةً أو ساعتين. لكنّ الحياة التي تُزهَق على الطريق لا تعود أبدًا. فلا تجعلوا فرحة العودة من ظفار محفوفةً بالدموع، ولا تجعلوا أطفالكم ينتظرونكم على الباب ليعلموا أنّكم لن تعودوا أبدًا.
السلامة ليست خيارًا، بل هي مسؤولية. مسؤولية تجاه نفسك، وتجاه أسرتك، وتجاه كل من يشاركك الطريق. فلتكن قائدًا واعيًا، ولتكن رحلتك إلى ظفار ذكرى جميلة، لا جرحًا لا يندمل.
تذكّروا دائمًا: الطريق إلى ظفار يجب أن ينتهي بابتسامة، لا بجنازة!