لم يكن محمّد شكري يتيمًا تعهّدا نقديّا ورعايةَ متابعةٍ، بل وجد في صحْبٍ من النُقّاد والناشرين والقائمين على الأدب رفقةً ومساعدةً ووعيا بأديب فذٍّ يتحقّق، من ذلك ما كان يفعله محمّد برّادة من إبداءٍ للرأي الحقّ في ما يكتب شكري، ومن أمثلة ذلك ما ورد في رسالة من رسائله تقويما ونقدا لمسوّدة الجزء الثاني من سيرة شكري التي اتّخذ لها عنوانا «الشُطّار»، يقول برّادة في قراءة واعية للعنوان، وفي صراحة لا تجدها إلّا مع قارئ مخلص: «الملاحظة التي أشرت إليها في الهاتف حول كتابتك للجزء الثاني من السيرة (أنا لا أحبّ الشطار، فهي عنوان لا يخلو من تمحّل وإسقاط) هو أن تعمل على تكسير ذلك «التطابق» بين ضمير المتكلّم السارد، وبين «واقع» انقضى، وبينك الآن في 1980، إنّني أذكّرك بعبارة رامبو الشهيرة «أنا هي واحد آخر، وقد اتّخذ منه فيليب لوجون عنوانا لكتابه الأخير، وفيه يدرس الإمكانات المتعدّدة لكتابة السيرة الذاتية (.
واعتراضهم قويم إلى حدّ بعيد)، وقد يكون مرجع ذلك إلى فشل المؤسّسات الثقافيّة في البلدان العربيّة، وقد يكون مردّ ذلك إلى الناقد الذي لا يُتابع ما يجري من حوله من حركة روائيّة عميقة، لكن الأغلب في ظنّي أنّ الأمر يرجع إلى فقدان الإخوانيّات تواصلا ومشاركةً. إنّ تمزّق عُرى التواصل بين المثقّفين هو علّة يُتم الروائي العربيّ، وبقاء الرواية العربيّة في جانب كبير منها في خانة النسيان، أو التضليل والإضلال. هل الرواية العربيّة مقروءة عربيّا؟ إلى حدّ ما نعم، تحسّن وضعُ مقروئيّة الرواية العربيّة في السنوات الأخيرة، ولكن هل هنالك ضمان للقراءة، هل هنالك ذائقةٌ قارئة يعتمدها الناشرون، وتعتمدها المؤسّسات الثقافيّة وتعتمدها الصحافة ويركن إليها الروائيّ لقياس حالة إبداعه؟ أكيد وحتما الجواب هو لا.
لقد فرغتُ في هذه المدّة إلى الاطّلاع على الرسائل الأدبيّة الإخوانيّة بين الأدباء، وأدركتُ أنّ جانبا مهمّا من تطوّر الحركة النقدية راجع إلى المراجعات النقديّة في ما يدور من حوارات ثنائيّة، وفي ما يحدثُ من متابعات عميقة ونافذة للأعمال الإبداعيّة، وخذ مثالًا مضافا إلى الحوار الثنائي الذي ذكرته سلفا بين العَصِيّ، المتمرّد محمّد شكري، والرَّضيّ العاقل محمّد برّادة، ما دار بين طه حسين الأديب والجامعيّ والناقد، وتوفيق الحكيم الأديب، وما كان من عميق الخلاف، وبيّن الوفاق بينهما في مناسبات كتب فيها هذا وذاك. فطه حسين على فقدان بصره، لم يفقد نفاذ بصيرته، فكان طُلَعةً، مواكبا، متابعا، نافذا بعين الناقد العارف لعمق المكتوب، ففي كتاب «أيّام العمر» الذي ضمّ رسائل خاصّة متبادلة بين الناقد والأديب، نلحظ هذه العين الراقبة، المتابعة لأدب توفيق الحكيم، في توفّقه وتعثّره، في إحسانه وإرذاله، وطه حسين من الشخصيّات الأدبيّة التي خاضت معارك شتّى في تاريخ الأدب الحديث، وهَزَمت وهُزمت، وكانت هذه المعارك (لعلّنا نعود إلى كتابة سلسلة من المقالات حول المعارك الأدبيّة والنقديّة) حافزا ومحرّكا للحياة الأدبيّة والفكريّة.
عندما أصدر توفيق الحكيم مسرحيّته «أهل الكهف» أثار نمطها وطريقتها وأسلوبها جدلا في الساحة الثقافيّة، فتعرّض لها كبار النقاد والكُتّاب، منهم العقّاد، وقال عنها المازني في صحيفة البلاغ ساخرا متهكّما: «إنّ مؤلّف أهل الكهف هو نفسه من أهل الكهف»، في خضمّ هذا الجدل كان لطه حسين الدور الرئيس في ترجيح ميل المسرحيّة إلى الفتح المبين في الكتابة الأدبية، فقال متحدّثا عنها: «أمّا قصّة «أهل الكهف» فحادث ذو خطر، لا أقول في الأدب العربي وحده، بل أقول في الأدب العربيّ كلّه، وأقول هذا في غير تحفّظ ولا احتياط، وأقول هذا مغتبطا به، مبتهجا له، وأيّ محبّ للأدب العربيّ يغتبط ويبتهج حين يستطيع أن يقول وهو واثق بما يقول إنّ فنّا جديدا قد نشأ فيه، وأضيف إليه، إنّ بابا جديدا قد فتح للكُتّاب (يقصد باب التمثيليّة الأدبيّة) وأصبحوا قادرين أن يلجوه وينتهوا منه إلى آماد بعيدة، رفيعة ما كنّا نقدّر أنّهم يستطيعون أن يفكّروا فيها الآن». هذا موقف قارئ حصيف، مدركٌ لما هو حالٌّ في الحركة الأدبيّة، مبشّرٌ بما هو قادم، قادرٌ على تعيير الأدب ووضعه في ميزانِ حقّ لا خلل فيه، بالرغم من أنّ طه حسين عندما قرأ قبل ذلك سيرة توفيق الحكيم «سجن العمر» قال مبديا عدم رضاه عن السيرة، مُظهرا التكلّف والصناعة في الكتابة: «مصنوع، متكلّف، متعمّل، بعيد كلّ البعد عن الحياة الطبيعيّة المألوفة، والنّاس يعرفون منك صورة ليس بينها وبين شخصك الحقيقيّ صلة من قريب أو من بعيد». هذا هو الأب الحقيقيّ الذي نريده للرواية العربيّة اليوم، الأب القارئ الذي يهزّ ابنه عندما يرتكب الخطيئة، ويهْنأ عندما يأتي الفضيلة، وينير السبيل في حال العتمة، ويشدّ دون أن يكسر ويُرخي دون أن يبسط كلّ البسط، فلا يُعاني الروائيّون اليُتم واللطم ويُجدّفون دون أرضيّة نقديّة تهزّ عروشهم الرماديّة، فلا يسكنون ولا يهجعون ولا يركنون؛ لأنّ هَجْعَة الروائيّ تعني موته.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أهل الکهف العربی ة الأدبی ة ة الأدبی دون أن
إقرأ أيضاً:
من غزة إلى نطنز.. جابوتنسكي يصوغ العالم وترامب يوقع باسمه!
ضربت أمريكا أخيرا منشآت نطنز وأصفهان وفوردو النووية في سياق خطة هجوم إسرائيلية أمريكية؛ من المؤكد أنّها نتيجة تدريبات تسبق إدارة ترامب (قال الإسرائيليون إنّهم تدربوا عليها مع الأمريكان منذ سنة، أي أثناء إدارة بايدن)، والمؤكد أنّ أكثر ما يشغل الناس الآن السؤال عمّا بعد ذلك، وهو أمر منوط بأمرين، الأول حقيقة الأهداف الأمريكية والإسرائيلية، وهو ما تنبني عليه مستويات العدوان حجما وزمنا، والثاني الردّ الإيراني، ولن نكون بحاجة إلى الكثير من الوقت لاستكشاف ذلك كلّه، بيد أنّه من المفيد الوقوف على جملة قضايا يمليها هذا العدوان على وعينا في هذه المنطقة.
إنّ أهمّ أهداف الحرب الممتدة من لحظة الإبادة الجماعية على غزّة مرورا بتوسيع الحرب على حزب الله في لبنان وصولا إلى إيران، هي "إعادة صياغة الشرق الأوسط"، بحسب تعبيرات بنيامين نتياهو، وهو التعبير الذي أخذ صيغة جديدة على لسانه ولسان دونالد ترامب بعد العدوان الأمريكي على منشآت إيران النووية؛ حينما قالا إن القوّة هي التي تأتي بالسلام، بيد أنّ هذا التعبير ليس جديدا تماما، وإنّما هو مستفاد من جابوتنسكي الذي تساءل: "هل يمكن دائما تحقيق هدف سلمي بوسائل سلمية؟" ثمّ أجاب: "ما هو مستحيل هو الاتفاق الطوعي. طالما شعر العرب بوجود ولو أدنى أمل في التخلص منا، فإنهم سيرفضون التخلي عن هذا الأمل مقابل كلمات لطيفة أو مقابل خبز وزبدة، لأنهم ليسوا حشدا من الغوغاء، بل شعب حيّ. وحين يتخلى شعب حيّ عن أمر بهذه الحيوية، فذلك لا يحدث إلا عندما ينعدم تماما أيّ أمل في طردنا، لأنهم لن يتمكنوا من اختراق الجدار الحديدي، عندها فقط سيتخلون عن قادتهم المتطرفين الذين يرددون شعار "أبدا!"، وسينتقل زمام القيادة إلى الجماعات المعتدلة، التي ستتوجه إلينا باقتراح أن نتوصل معا إلى تسوية".
أهمّ أهداف الحرب الممتدة من لحظة الإبادة الجماعية على غزّة مرورا بتوسيع الحرب على حزب الله في لبنان وصولا إلى إيران، هي "إعادة صياغة الشرق الأوسط"، بحسب تعبيرات بنيامين نتياهو، وهو التعبير الذي أخذ صيغة جديدة على لسانه ولسان دونالد ترامب بعد العدوان الأمريكي على منشآت إيران النووية؛ حينما قالا إن القوّة هي التي تأتي بالسلام
إنّ السلام بحسب زئيف جابوتنسكي، الأب الروحي لنتنياهو؛ هو خضوع العرب للمصالح الصهيونية، وهذا الخضوع لا يمكن أن يتأتى إلا بالقوّة التي وصفها بالجدار الحديدي، هذه القوّة وظيفتها الإخضاع، وتيئيس العرب من إمكانية هزيمة إسرائيل، وقلب الأوضاع بدفعهم للتخلي عن قادتهم "المتطرفين" الذين يقولون "لا" لتسليم القيادة لقادتهم "المعتدلين" الذين يقولون "نعم".
وكما أنّ جابوتنسكي يتولّى تعريف العرب بمن هو المتطرف ومن هو المعتدل، أو ما هو الاعتدال المطلوب منهم، فإنّ السلام الصهيوني بالضرورة ليس هو السلام العربي، لأنّ العربي سيرفض الهجرة اليهودية، العربي الفلسطيني كما رآه جابوتنسكي كبقية "الشعوب الأصلية في العالم تقاوم المستعمرين ما دام لديها ولو بصيص أمل في التخلص من خطر الاستعمار"، و"هذا بالضبط ما يفعله العرب في فلسطين، وسيواصلون فعله ما دام هناك بصيص أمل واحد بأن في إمكانهم منع تحوّل فلسطين إلى أرض إسرائيل". فالعرب الفلسطينيون يشعرون "بالحب الغريزي الغيور لفلسطين، كما شعر الأزتك القدماء تجاه المكسيك، وكما شعر شعب السيو تجاه براريهم المتدحرجة"، ومن ثمّ لا سبيل إلا إخضاعهم لمفهوم السلام الصهيوني، وهذا لا يتأتّى إلا بالقوّة، ولا ينبغي الشك بكون ذلك أخلاقيا، بحسب جابوتنسكي الذي يقول: "إما أن الصهيونية أخلاقية وعادلة، أو أنها غير أخلاقية وظالمة. لكن هذا سؤال كان يجب أن نحسمه قبل أن نصبح صهاينة. وقد حسمنا هذا السؤال بالفعل، وأجبنا عليه بالإيجاب"، أي ما دمت صهيونيّا فأنت أخلاقي، مهما كانت أهدافك ظالمة للآخرين ومجحفة بهم.
من المحتمل أن يكون ترامب قد تعلّم من نتنياهو حكاية السلام الذي لا تأتي به إلا القوّة، ثمّ هو في غنى بعد ذلك أن يسأل عن السلام المفروض، أي سياسات الإخضاع والهيمنة، إن كان أخلاقيّا أم لا، لأنّ أمريكا، أصلا، لا تفكر في أخلاقيات الهيمنة والأخضاع، لأنّ ذلك جزء من تكوينها الماهوي الذي لا فكاك لها عنه، فكيف إن كان على رأسها رجل مثل ترامب، يقول الإسرائليون عنه إنه يتفوق على نتنياهو بلادة ونرجسية؟!
إنّ المراد إذن بإعادة تشكيل الشرق الأوسط هو إخضاعه للهيمنة الإسرائيلية، فبعدما كان منطق القوّة التي تأتي بالسلام، أي تأتي بالإخضاع والهيمنة، يعني فرض الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتحويل فلسطين إلى "أرض إسرائيل"، صار الأمر تاليا الحفاظ على الوجود الإسرائيلي بضمان التفوق الإسرائيلي، في اندماج مع الحاجة الغربية، التي ترى في إسرائيل حاجة قصوى لأجل تفكيك المنطقة وفرض التبعية الدائمة عليها، وكما أنّ إسرائيل معنية بأسباب التفوق الذاتي، فهي معنية بإثبات جدارتها للغربيين، الذين تتسع دوافعهم لتبني إسرائيل سياسيّا واستراتيجيا وثقافيّا وأيديولوجيّا، علاوة على سياسات الشراء والرشى المذلة التي ينتهجها اللوبي الصهيوني، والمليارديرات الصهاينة، لشراء السياسيين الغربيين وابتزازهم.
التحفظ الصارم على كلّ الحكايات التي ظلت تتردد بلا ملل منذ بدايات حرب الإبادة على غزة وحتى الآن عن التباين الأمريكي/ الإسرائيلي بخصوص إدارة المشهد الحربي، لقد كانت أمريكا لصيقة في عمق الإدارة الحربية الإسرائيلية، بتقطيع الجبهات وحشد الأصول والموارد لترهيب أعداء إسرائيل وممارسة الخديعة المتقنة، وصولا إلى لحظة المواجهة المكشوفة مع إيران
لم يكن الهجوم على إيران، والحالة هذه، لأجل منعها من امتلاك السلاح النووي، وإنما من أجل منعها من امتلاك أسباب المنافسة الإقليمية لإسرائيل. بالنسبة لإسرائيل هذا هو التهديد الوجودي، وبالنسبة للغرب، هذا تحرر وطني، وامتلاك للسيادة، وإرادة لإدارة الذات بالذات، وهو أمر ممنوع غربيّا على دول هذه المنطقة، هنا تتطابق الأهداف الأمريكية والإسرائيلية بغض النظر عن الدوافع.
علاوة على منطق القوّة الذي يأتي بالإخضاع، المسمّى أمريكيّا وإسرائيليّا بالسلام، وعلى كون هذه القوّة تدوس إن شاءت القانون الدولي ومؤسساته الدولية، فإنّه ينبغي القول إنّه وبقدر ما سعت إسرائيل لإثبات جدارتها في القيام بوظيفتها في المنطقة، فإنّها تظلّ بحاجة للولايات المتحدة الأمريكية، ليست إسرائيل في الهجوم على إيران أكثر من طفل مدلل مشاغب يعاني من مشاعر دلال مفرطة على والده؛ الذي هو أمريكا. احتاجت إسرائيل إلى أمريكا في كلّ شيء؛ الخديعة الاستراتيجية، والمعلومات الاستخباراتية، والدعم اللوجستي، والإمداد التسليحي والتقني، ونفوذ القوة، والغطاء السياسي والدعائي، وأخيرا القصف المباشر.
الطريف أن استجابة الكثير من العرب لهذه الحقيقة معكوسة، حينما يستجيبون لإرادة جابوتنسكي ويتجردون تماما من إرادة التحرر من الهيمنة الإسرائيلية، بالرغم من إثبات الحوادث الأخيرة المرّة تلو الأخرى بأن إسرائيل قابلة للهزيمة، وتعاني من قصور كبير بالقياس إلى دعايتها الاستعراضية، لولا تفكك هذه المنطقة لصالحها وخضوعها لهيمنتها وتخليها عن إرادتها الحرّة، وبالتأكيد لولا الدعم الأمريكي. ورغم كلّ ما يمكن قوله عن قصور إيران، فإنّه لا يمكن تقييم ذلك دون أخذ حصارها بعين الاعتبار، وأخذ التفوق الإسرائيلي في إطار الجبروت الأمريكي، وتطويع الجغرافيا السياسية المحيطة بإيران لصالح الهيمنة الإسرائيلية.
ما يجب الخروج به من ذلك، هو التحفظ الصارم على كلّ الحكايات التي ظلت تتردد بلا ملل منذ بدايات حرب الإبادة على غزة وحتى الآن عن التباين الأمريكي/ الإسرائيلي بخصوص إدارة المشهد الحربي، لقد كانت أمريكا لصيقة في عمق الإدارة الحربية الإسرائيلية، بتقطيع الجبهات وحشد الأصول والموارد لترهيب أعداء إسرائيل وممارسة الخديعة المتقنة، وصولا إلى لحظة المواجهة المكشوفة مع إيران وحيدة تقريبا، بعد الفراغ من الجبهات، جبهة تلو الأخرى.
x.com/sariorabi