أُعلن في الرابع من الشهر الجاري في العاصمة المصرية القاهرة عن تأسيس "مؤسسة تكوين الفكر العربي" وضم مجلس أمنائها في عضويته مجموعة من الأسماء والشخصيات المثيرة للجدل كالإعلامي المصري إبراهيم عيسى، ويوسف زيدان، وإسلام البحيري، وفارس سواح، ونايلة أبي نادر وآخرين.

وعرَّفت المؤسسة نفسها بأنها "تعمل على تطوير خطاب التسامح، وفتح آفاق الحوار والتحفيز على المراجعة النقدية، وطرح الأسئلة حول المسلّمات الفكرية، وإعادة النظر في الثغرات التي حالت دون تحقيق المشروع النهضوي الذي انطلق منذ قرنين" حسب ما جاء في تعريف المؤسسة على موقعها الالكتروني.



لكنها ومنذ الإعلان عن تأسيسها قُوبلت بانتقادات شديدة، وتعالت أصوات عديدة تطالب بإغلاقها بسبب توجهاتها ورؤاها الفكرية التي ترمي إلى تفكيك الثوابت الدينية، وتهدف إلى خلخلة قطعيات الشريعة، بعناوين وذرائع ملتبسة كالتنوير والتجديد ومراجعة التراث وفق منتقديها.

ووفقا لباحثين فثمة أسئلة كثيرة تُثار حول حقيقة توجهات المؤسسة وأهدافها المعلنة والمضمرة كذلك، وتزداد تلك الأسئلة إلحاحا بعد الوقوف على توجهات أعضاء مجلس أمنائها، واستعراض مضامين كتاباتهم، وتحليل محتوى أحاديثهم، والتي تتمركز في مجملها حول ضرورة إحداث قطيعة معرفية مع الموروث الديني، وهو ما يعده علماء ودعاء مقدمات لمهاجمة الدين، وإشاعة ثقافة التشكيك واللادينية التي تفضي في نهاية المطاف إلى الإلحاد.

ومن اللافت في هذا السياق أن مهاجمي مؤسسة تكوين من الدعاة والمفكرين الإسلاميين لا يترددون في إطلاق مفردات محاربة الدين وهدمه على أهداف المؤسسة، ووصف بعض مجلس أمنائها بالزندقة، ويربطون في الوقت نفسه بين توجهاتها وبين توصيات مؤسسة راند الأمريكية، ففي إجابته عن سؤال: لماذا تم إنشاء مؤسسة تكوين؟ قال الداعية البحريني الدكتور حسن الحسيني "ينبغي ربط تدشين هذه المؤسسة مع وصايا تقارير راند.. وما أدراك ما راند"؟!

وتابع عبر حسابه على موقع إكس "مؤسسة راند مؤسسة أمريكية، تصدر بحوث ودراسات خبيثة وخطيرة، وتقاريرها التي تُصدرها ترسم خطة للسياسة الأمريكية في التعامل مع الأحداث في العالم أجمع، ومنها الدول الإسلامية وأحيانا تمكث 3 أو 5 سنوات لإصدار دراسة واحدة، وتحتوي هذه الدراسات والبحوث على وصايا".

وأردف "تخيلوا.. أحد تقارير مؤسسة راند أعلن صراحة ضرورة العمل على تغيير الإسلام (وليس المسلمين فقط) عبر شركاء مسلمين، داخل إطار العالم الإسلامي، أي بعبارة أخرى أكثر بساطة، تغيير الإسلام بأيادي شخصيات محسوبة على المسلمين! فخطى الدول الغربية متسارعة وحثيثة وجريئة بهدف هدم الإسلام" وفق قوله.

وهاجم الحسيني المؤسسة ومؤسسيها بالقول "وبدأت هذه المؤسسة بحفل كبير، وبحضور شخصيات جدلية، لم تعرف إلا بمعاداة الدين وتشويه الإسلام، فمن أبطال هذه المؤسسة، نجد من بينهم: إبراهيم عيسى، إسلام بحيري، فراس السواح، ويوسف زيدان.. فمن هم هؤلاء؟ لو اطلعنا على تواريخ هؤلاء الذين أطلق عليهم أمناء المؤسسة، فهم رهط عُرفوا بالزندقة، وبغض الإسلام (فمثلا: عندما سئل إبراهيم عيسى عن دينه، أبى الجواب، وصار يراوغ، ويقول للمذيعة: لا شأن للناس بديني".

بينما نحن نواجه معارك حريية ضد الاسلام والمسلمين، في اكثر من بلد وموقع، إذ بنا نسمع عن تدشين كيان جديد، ليعلن عن لونٍ جديد من الحروب الفكرية ضد الإسلام والمسلمين!! نعم.. إني أتحدث عن مؤسسة تكوين، المعادية للدين!

هذه المؤسسة سميت مؤسسة تكوين!؟ تكوين الفكر العربي، ومن المفارقات… pic.twitter.com/uLxdxUsv0D

— د. حسن الحسيني (@7usaini7) May 9, 2024

وفي ذات الإطار رأى الأكاديمي السوري، الدكتور معتز الخطيب أن تأسيس مؤسسة تكوين هو باختصار "إعادة إنتاج لـ"مؤمنون بلا حدود" بعد أن تحولت إلى دار نشر، وانهارت سمعتها بسبب واقعة مديرها السابق.

وتابع عبر صفحته على الفيسبوك "ولا يمكن التغافل هنا – مع تكوين – عن أمرين رئيسين: 1- عدم نزاهة الوجوه البارزة في مجلس أمناء المؤسسة (لجهة الصدق والعدالة الشخصية) وانعدام الجدية والمؤهلات العلمية (غياب الكفاءة والجدية في التفكير والبحث).. 2- والوظيفية السياسية لمثل هذه المشروع كوظيفة سلفه".



 
يشار إلى أن مؤسسة تكوين الفكر العربي دشنت نشاطاتها الفكرية بتنظيم وإطلاق أعمال المؤتمر السنوي الأول يوم السبت 4 أيار/مايو الجاري في العاصمة المصرية القاهرة، تحت عنوان "خمسون عاما على رحيل طه حسين، أين نحن من التجديد اليوم"؟ والذي شارك فيه إبراهيم عيسى، ويوسف زيدان، وإسلام البحيري.. وآخرون وأدار الجلسة الافتتاحية المذيع المصري عمرو عبد الحميد.

من جانبه رأى الباحث والداعية المصري، علي قاسم أن "التكوينيين الجدد يحاولون إعادة تدوير شبهات أسلافهم لكن في ثوب عصري واقعي يمس بعض المشكلات الحياتية المحلية والإقليمية والدولية، كما يسعون إلى بسط شبهاتهم القديمة الحديثة عبر الفضاء الالكتروني مخترقين كافة التطبيقات الالكترونية الحديثة، مستغلين حالة الفراغ الديني والفكري الذي تحياه الفئات الشبابية المستهدفة".

وأضاف في حديثه لـ"عربي21": "يحسن بالمصلحين إدراك أن تكوين ليس الأول من نوعه ولن يكون الأخير، وهو ليس مجرد مؤسسة بل مشروع متكامل يدعمه الداعمون من الداخل والخارج، فالأمر ليس زوبعة في فنجان، بل مشروع مخطط له، وسيطول به الزمان".

وعن كيفية التعامل مع هكذا مؤسسات ومراكز دعا قاسم "الدعاة والمصلحين إلى أن يأخذوا زمام المبادرة، وألا يظلوا مجرد طرف خامل لا يسمع له صوت إلا إذا استفز، كما يجب على المصلحين لملمة شعثهم، وترك الأنا والفردانية، والابتعاد عن الخفة والسطحية التي قد تمكن عدوهم من استدراجهم لمعارك مصطنعة، ومواجهات تمت هندستها من قبل خصومهم بعناية وحرفية".


                                                      علي قاسم باحث وداعية مصري

ونبّه على أهمية "إدارة مثل هذه المواجهات، وأن لا يترك المصلحون المعارك الحقيقية وينشغلوا بالرد على النطيحة والمتردية وما أكل السبع، وأن يتبصر المصلحون والدعاة مواطن أقدامهم كي لا يتم دفعهم في أتون معارك يؤججها طرف ما، يعلم متى وكيف يستدرجهم، ومتى يعيدهم مرة أخرى إلى مناطق الظل".

ولفت قاسم إلى بعض السبل الناجعة في مواجهة الأفكار المشككة في ثوابت الدين كـ"الحرص على صناعة المحتوى الدعوي الاحترافي، مع الاجتهاد في التصميم والمونتاج والتسويق، وضرورة تعاون الدعاة والمصلحين في دعوة الناس إلى الثوابت والأصول الدينية والتأكيد عليها، فواجب الوقت هو تثبيت الثوابت في قلوب العامة، والناشئة الجدد".

بدوره قال الباحث الإسلامي، المهتم بالقضايا الفكرية، محمد أبو الوفا "يقدم القائمون على مؤسسة تكوين مؤسستهم بوصفها مشروعا تنويريا حسب أهداف المؤسسة المعلنة، والتي تدعو إلى التسامح ونبذ العنف، وفهم الدين بصورة صحيحة، لكن بالنظر إلى خلفيات وإنتاج أعلام هذه المؤسسة فإننا نجدهم يشككون في ثوابت الدين، ما يعني أن عملهم في هذه المؤسسة سيكون استمرارا لنشاطاتهم وإنتاجاتهم الفكرية المعروفة".

وأضاف في حواره مع "عربي21": "أما بالنسبة لتمويل المؤسسة فلا أعلم من يقوم على تمويلها، لكنها تحظى ـ فيما يبدو ـ بتمويل سخي جدا، وينفق عليها ببذخ، وهو ما كان واضحا في ترتيبات وإعدادات مؤتمر المؤسسة الأول الذي كان بعنوان "خمسون عاما على رحيل طه حسين، أين نحن من التجديد اليوم"؟ 

وعن الضجة التي أحدثها الإعلان عن تأسيس المؤسسة وتدشين مؤتمرها السنوي الأول، أرجع أبو الوفا ذلك إلى كون "القائمين عليها من المشهورين بالطعن في ثوابت الدين، والتشكيك فيما استقر عليه المسلمون طوال تاريخهم الطويل، لذا فإن أمثال هؤلاء الأشخاص حينما يدعون إلى تجديد الدين فدعوتهم عند عامة المسلمين لا تخلو من الريبة، وهو ما أحدث كل هذه الضجة بعد الإعلان عن المؤسسة ومؤتمرها السنوي الأول".

ورأى أن السبيل الأجدى في مواجهة مثل هذه المؤسسات المشككة في ثوابت الدين هو "تثقيف الشباب وتحصينهم ضد الشبهات، ما يمكن تسميته "ما لا يسع الشباب المسلم جهله في الأصول والحديث والبناء الفقهي، والمدارس العقدية، بعقد دورات تأسيسية تعطي عموم الشباب المسلم جرعة علمية منظمة عن كل فن يزعزع العلمانيون الثقة فيه..".


                          محمد أبو الوفا باحث إسلامي مهتم بالقضايا الفكرية

في مقابل ذلك كله فثمة من يدعو إلى التريث في الحكم على مؤسسة تكوين الفكر العربي، وانتظار نشاطاتها وفعالياتها وإصداراتها الفكرية والثقافية، ليصار إلى تقييمها ومحاكماتها بناء على رؤاها وأفكارها المنشورة، التي تتبناها المؤسسة وتدعو إليها، وهو ما دعا إليه الكاتب والروائي المصري، نادر الشرقاوي.

كتب الشرقاوي عبر صفحته على الفيسبوك يقول: "تكوين تحت المجهر: أثارت مؤسسة تكوين جدلا واسعا، وبينما قد ينظر البعض إلى هذا الجدل على أنه سلبي، إلا أنه في الواقع ساهم في زيادة الوعي بالمؤسسة وأهدافها بشكل لم يكن مؤسسوها ليحلموا به، حتى لو كان ذلك بطريقة غير مباشرة".


                                           نادر الشرقاوي كاتب وروائي مصري

وتابع: "يُعرف العقل العربي بميله للحكم على الأمور بناء على العناوين دون التعمق في التفاصيل، بدلا من إصدار الأحكام المسبقة، ومن المهم أن ننتظر ونرى ما ستقدمه تكوين من منتجات فكرية. تضم المؤسسة بالفعل شخصيات ثقافية من العيار الثقيل مثل فراس السواح، وألفت يوسف، وعبد الجواد ياسين".

وأردف "ونأمل أن ينفتح الباب لضم المزيد من القامات العربية، مثل الباحث العراقي الكبير الدكتور خزعل الماجدي، والمفكر المغربي الكبير أحمد عصيد" مشددا في ختام منشوره على أن "الأفكار تُقابل بالأفكار والنقاش الموضوعي العاقل، وليس بالعضلات والثرثرة". 

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير تقارير المصرية مؤسسة تكوين الأفكار مصر أفكار آراء مهمة مؤسسة تكوين تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة مؤسسة تکوین الفکر العربی فی ثوابت الدین إبراهیم عیسى هذه المؤسسة وهو ما

إقرأ أيضاً:

خطبتا الجمعة بالحرمين: العبرة في هذا الدين العظيم بما وقر في القلب وصدقه العمل.. وإن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم

ألقى الشيخ الدكتور بندر بن عبدالعزيز بليلة خطبة الجمعة اليوم بالمسجد الحرام، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله عزَّ وجلَّ، فإنَّ من اتّقاه وقاهُ، وفرَّجَ همّه وكفاهُ، ويسّرَ أمرَه وأدناهُ، وبلّغَه مُناه وحققَ له مُبتغاهُ، وصرفَ عنه السُّوءَ، وجنّبه خُطاهُ.
وقال فضيلته: ها قد دارَ الزَّمانُ دَوْرتَهُ، وأظلّتكُمْ فيه خيرُ أيام الدُّنيا، أيام عشْرِ ذي الحجّةِ، الَّتي عَظَّمَ الله أمرَها، ورفَع قدرَها، وأعلى شأْنَها، فنَهَلْتُم مِن مَنبعِها العذبِ، واغترفتُم مِن معِينِها الَّذِي لا ينْضَبُ، أفضْلَ الأعمال وأزْكاها، وأجلَّ القُرباتِ وأَسْناها، تَسلَّمها المولى منكُم كما سلَّمَكُم إيّاها، مقبولة بقَبُولٍ حسَنٍ، مشمُولة منه بالرِّضَا الأتمِّ الـمُستحْسَنِ.
وأضاف: لقد آذَنَتْ أيّامُكُم هذه بالرَّحيلِ، فلم يبْقَ منها إلّا القليلُ، بقي منها الثّلُثُ، والثّلُثُ كثيرٌ، كيف لا؟! وفيه يومكُم هذا يومُ التّرويةِ، يومُ سقاية الحجيجِ، وقد صادفَ يومَ جمعةٍ، الَّذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْه الشَّمْسُ» رواه مسلمٌ في صحيحِهِ. يليه يومُ عرفةَ، اليومُ الذي أكملَ الله فيه الدّينَ، وأتمَّ نعمتَه على سيّدِ المرسلينَ عليه الصلاة والسلام، ثم اليومُ العاشرُ، يومُ النحرِ، وما أدراكُم ما يومُ النحرِ، يومُ الحجِّ الأكبرِ، عنِ ابنِ عمرَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقفَ بينَ الجمراتِ يومَ النحرِ في الحجّة التي حجَّها، وقال: «هَذَا يَوْمُ الحَجِّ الأكبر» أخرجه البخاري في صحيحهِ، وهو أعظمُ الأيام عندَ الله جلَّ وعلَا، فعنِ النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «إِنَّ أَعْظَمَ الأيام عِنْدَ الله يَوْمُ النَّحْرِ» أخرجه أبو داودَ في سننِهِ. أقسمَ الله به وبيومِ عرفة بعدَ أن أقسمَ بالعشرِ، لـمكانتِهِما وعظِيمِ منزلتِهِما عندَهُ، وإِنَّ العشرَ عَشرُ النَّحرِ، ‌والوَتْرَ ‌يَومُ ‌عَرَفَةَ، وَالشَّفعَ يَومُ النَّحرِ. أخرجه الإمامُ أحمد في المسندِ والنّسائي في الكبرى.
وأوضح أن حج بيتِ الله الحرامِ مَنسكٌ عظيمٌ، فيه تتلاشَى النِّزاعاتُ، وتذوبُ الخلافاتُ، وتتهاوَى النَّعراتُ، وتتجه النفوسُ إلى ربِّ الأرضِ والسماواتِ، لا مجالَ فيه للتّباهِي بالألوانِ والأجناسِ، ولا فضلَ فيه لأحد من النَّاسِ على النَّاسِ إلّا بالتقوى، خيرُ لباسٍ.. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّـيَّة الْجَاهليَّةِ، وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، ‌وَآدَمُ ‌مِنْ ‌تُرَابٍ» أخرجه الإمامُ أحمد في مسنده وأبو داودَ في سننِهِ. والعُبِّـيَّةُ: الكِبْرُ والفَخْرُ.
وأكد إمام وخطيب المسجد الحرام أن العبرة في هذا الدّينِ العظيمِ بما وَقَرَ في القلبِ وصدَّقه العملُ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله لَا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ ‌يَنْظُرُ إلى ‌قُلُوبِكُمْ وَأعمالكُمْ» أخرجه مسلمٌ. فتزوَّدُوا عبادَ اللهِ، فإنَّ خيرَ الزّادِ التقوى، واستمسِكُوا مِن دينكُم بالعُروة الوثقى، وعليكُم بالجماعةِ، فإنَّ يدَ الله مع الجماعةِ، ومَن شذَّ شذَّ في النّارِ عياذًا بالله.
وبيّن الدكتور بندر بليلة أن كُبْرى القضايا التي قام عليها مَنسكُ الحجِّ العظيمِ، بل وقامَت عليه جميعُ الطَّاعاتِ والعِباداتِ، هي تحقيقُ التّوحيدِ، وتجريدُه لربِّ العبيدِ، وإظهارُ الاستسلامِ لله بالطاعةِ، والانقيادُ له بالعبادةِ، والبراءة من الشركِ وأهله.. يقولُ شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه اللهُ: التوحيدُ ‌هو ‌أصلُ ‌الدِّينِ ‌الذي ‌لا ‌يقبلُ الله من الأولينَ والآخرين ديناً غيرَهُ، وبه أرسلَ الله الرسلَ، وأنزلَ الكُتبَ. والتوحيدُ هو الحسنة التي لا تعدلُـها حسنةٌ، والقربة التي لا تُوازيها قربةٌ، فحسنة التّوحيدِ تأتي على السيئاتِ فتمحُوها، وعلى الآثامِ فتجلُوها. عن عبدِالله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه حينما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَأُعْطِي رَسُولُ الله عليه الصلاة والسلام ثَلَاثًا: أُعْطِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِي خَوَاتِيمَ سُورَة الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِالله مِنْ أُمَّتِه شَيْئًا، ‌الْمُقْحِمَاتُ» أخرجه مسلمٌ. قال أهل العلمِ رحمهُم اللهُ: الـمُقْحِماتُ: الذنوبُ العظامُ التي تُقحمُ وتُدخلُ صاحبَها النارَ ـ عياذًا بالله ـ.
وشدد إمام وخطيب المسجد الحرام على وجوب تحقيقِ التوحيدِ، والحذر ممّا يُعكّرُ نقاءَهُ، ويَخدِشُ صفاءَهُ، والتمسك بالسنةِ، وجانبُوا أهل الأهواء والبدعِ المُضلَّةِ، فالعبادة لا تُصرفُ إلّا لله وحدهُ، لا لملَكٍ مُقرَّبٍ، ولا لنبي مرسلٍ، فضلًا عمّن دونهُم من الأولياءِ والصالحينَ، ممّن لا يملكُ لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياة ولا نُشُوراً.
* وفي المدينة المنورة أوصى إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور عبدالباري الثبيتي المسلمين بتقوى الله تعالى، قال جل من قائل {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحدة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كثيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّه الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِه وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّه كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.
وقال فضيلته: في مثل هذه الأيام في موسم الحج تتجدد لدى المسلم بل المسلمين أجمع مواقف تنشرح بها صدورهم، وتهيم بها أرواحهم قبل مشاعرهم، يقلب المرء ناظريه فيرى بأم عينيه مشاهد تثلج الصدر، وتسر الخاطر في ردهات الحرمين، وفي صعيد المشاعر المقدسة. منظر مهيب حقاً، اجتماع الأمة في ملتقى إيماني روحاني، لباس واحد، نداء واحد، قبلة واحدة، نبي واحد، مقصدهم رضا رب واحد لا شريك له؛ فلا غرو أن أراد الله لهذه الأمة أن تكون عظيمة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكم تُتِمُّونَ سبعينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ» رواه الترمذي.
وبين فضيلته أن سنة الله وحكمته في هذه العبادات الموسمية يتجلى فيها التئام شمل الأمة متجردين من الشعارات والنداءات والعصبيات، في ظل أمن وارف، وحشد جبار للجهود، وبذل سخي من قيادة وولاة أمر هذه البلاد خدمة لوفد الله الحجاج والعمار.
ومضى فضيلته قائلاً: ما أعظم هذه الأمة المحمدية وهي ترفل في أبهى حلتها، وتكتسي أجمل كسوتها، متلبسة بعبادة تتساوى فيها مقامات الناس وطبقاتهم، دون اعتبار للون ولا جنس ولا مرتبة ولا منصب. مشيرًا إلى أنها تعلو قيمة المخبر على المظهر، والصدق في القول والفعل على الادعاءات، وتجلت هذه المعاني في خطبة الوداع بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحد. ألا لا فضلَ لِعربِي على عجَمِي ولا لِعجَمِي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلَّا بالتَّقوَى. إِنَّ ‌أَكۡرَمَكُمۡ ‌عِندَ ‌ٱللَّه أَتۡقَاكُمۡ”.
وأوضح فضيلته أن المشهد الذي نراه اليوم في مناسك الحج يحكي كثيرًا من قيم الإسلام: المساواة والعدل والألفة والمحبة والتآخي وتحقيق العبودية والتجرد لله والإخلاص والتواضع.. وهذا سبب الانجذاب الفطري لمبادئه السامية. أحب الناس الإسلام؛ وانتشر وينتشر لأنه واضح المعالم، وحق أبلج، يسعد النفوس، ويشرح الصدور، ويشبع فراغ القلوب، ويهذب حيرة الأرواح، ويملأ خواء الفكر، ويلبي حاجات النفس، ويروي ظمأها، ويمنح الأمن.. مستشهداً بقول الله تعالى: {فِطۡرَتَ ٱللَّه ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا ‌تَبۡدِيلَ ‌لِخَلۡقِ ‌ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ}.
وأشار إلى أن هذه الجموع الغفيرة والألوف المؤلفة لم تأت إلى الحج بالقوة والقهر؛ بل سبقت أفئدتها أجسادها إلى أروقة الحرمين حبًا وشوقًا ورغبة، وتكبدت المشاق طلباً لرضا الرحمن، وهذا خير شاهد على أن انتشار الإسلام كان -وما زال- بالبرهان الساطع والدليل القاطع، والسماحة والقيم والأخلاق؛ إذ قال تعالى: {لَآ إِكۡرَاه ‌فِي ‌ٱلدِّينِۖ ‌قَد ‌تَّبَيَّنَ ‌ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ}، وقال: {أَفَأَنتَ ‌تُكۡرِه ‌ٱلنَّاسَ ‌حَتَّىٰ ‌يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ}.
وأكمل فضيلته بقوله: فلا تعجب أيها المسلم إن اجتمعت هذه الوفود من أقطار الأرض كلها من كل حدب وصوب؛ فإن قيم الإسلام وركائز الإيمان تتجاوز السدود، وتخترق الحدود، وتصل إلى شغاف النفوس في أي بقعة في الأرض؛ فترقيها وتطهرها وتجعلها خلقا آخر؛ قال الله تعالى: {صِبۡغَة ٱللَّه ‌وَمَنۡ ‌أَحۡسَنُ ‌مِنَ ‌ٱللَّه ‌صِبۡغَة}.
وبيّن فضيلته أن هذه الجموع أقبلت على الإسلام لأنه دين متوازن متجاوب مع متغيرات الحياة والعصور؛ يستوعب كل أحد، كل زمان، وكل مكان، يجيب عن كل مسألة، ويفكك رموز كل نازلة؛ قال الله تعالى: {ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ ‌دِينَكُمۡ ‌وَأَتۡمَمۡتُ ‌عَلَيۡكُمۡ ‌نِعۡمَتِي ‌وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِيناۚ}. مشيرًا إلى أن هذه الأمة الإسلامية أحبت دينها لأنه منبع الاستقرار ومصدره، الاستقرار النفسي، الاستقرار الأمني، الاستقرار الاجتماعي؛ يزيل أسباب القلق والتوتر، ويسكب في النفس الراحة والسعادة والطمأنينة؛ قال عز وجل: {فَمَن يُرِدِ ٱللَّه أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ ‌صَدۡرَه ضَيِّقًا ‌حَرَجا ‌كَأَنَّمَا ‌يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِۚ}.
وذكر فضيلته أن الإسلام قوى رابطة الأمة الإسلامية بتعزيز معاني الأخوة، والارتقاء بمشاعر المسلم ليكون محباً للخير لكل الخلائق؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخِيه ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ”. مضيفاً بأن أمة الإسلام تقف شامخة بإسلامها، قوية بإيمانها، عزيزة بمبادئها؛ لأنها أمة القيم والمثل والأخلاق، هذا الذي نشاهده اليوم يجسد الأمة الواحدة المتحدة في الشريعة والشعور.. نعمة عظيمة، تستوجب معرفتها واستشعار قيمتها والحفاظ عليها بشكر المنعم، وقد كفل الله ديمومتها بنعمة أخرى عظيمة، هي نعمة كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ الحصن الحصين والحرز المكين، وبقدر تمسك الأمة بها تدوم ألفتها، ويتماسك صفها، ويشتد بنيانها؛ وهذا يقتضي نبذ الفرقة بكل صورها بالقول أو بالفعل أو بحمل السلاح؛ قال تعالى: {وَلَا ‌تَنَٰزَعُواْ ‌فَتَفۡشَلُواْ ‌وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ}.
ونبه إمام وخطيب المسجد النبوي إلى أن الأمة الإسلامية مطالبة بتحقيق الأمن الشامل الذي يتحقق به أمن الدنيا والآخرة، وذلك بتحصين العقيدة من الزيغ والشبهات، وتعزيز الأمن الفكري لشباب الأمة من التطرف والغلو والتحزبات، ومن السقوط في براثن الشبهات ومزالق الشهوات، قال تعالى: {فَأَي ٱلۡفَرِيقَيۡنِ أَحَقُّ بِٱلۡأَمۡنِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ. ٱلَّذِينَ ءَامنواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ أولٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلۡأَمۡنُ وَهُم مُّهۡتَدُونَ}.
وأشار إلى أن الأمة الإسلامية أمة العلم والعمل؛ تواكب التطور النافع، وتشارك في تنمية الحياة، وتحفز على السعي في مناكب الأرض وبناء الأوطان، وتنأى بنفسها عن الجهل والكسل والتواكل، مع المحافظة على ثوابت الدين وركائز الإسلام والقيم، وفي هذا السياق يتحتم على الأمة إبراز سماحة الإسلام ويسره وعدله وسعة أحكامه، والبعد عن كل ما يشوه صورة الإسلام ونصاعة تشريعاته، مضيفًا بأن المتدبر في الكتاب والسنة، ومن خلال آيات المناسك وغيرها، يرى دعامة ثابتة من دعامات هذا الدين من الحث على التيسير لا التعسير، والتبشير لا التنفير؛ قال تعالى: {يُرِيدُ ٱللَّه ‌بِكُمُ ‌ٱلۡيُسۡرَ ‌وَلَا ‌يُرِيدُ ‌بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ}، وقال: {هُو ‌ٱجۡتَبَاكُمۡ ‌وَمَا ‌جَعَلَ ‌عَلَيۡكُمۡ ‌فِي ‌ٱلدِّينِ ‌مِنۡ ‌حَرَج}.
وختم إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور عبدالباري الثبيتي بأن المسلم يعتز بهذه الأمة؛ فهي أكرم الأمم؛ قال تعالى: {كُنتُمۡ ‌خَيۡرَ ‌أُمَّة ‌أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ}. أمة وسط، لا غلو ولا تنطع ولا تهاون، محفوظة من الهلاك والاستئصال، فلا تهلك بالسنين ولا بالجوع ولا بالغرق، باقية ما بقي الزمان؛ ألا ترون هذه الصفوف التي نصطف بها في الصلاة قد خصت بها هذه الأمة؛ إذ جعل اصطفافها كصفوف الملائكة، والتكريم الأكبر يوم القيامة حين تأتي هذه الأمة غراً محجلين من أثر الوضوء، وهي الصفة التي يعرف النبي صلى الله عليه وسلم بها أمته، ثم تترقى منزلتهم؛ فتكون هذه الأمة أول من يجتاز الصراط، وأول من يدخل الجنة.

مقالات مشابهة

  • مستهدفة 610 مستفيدين.. مؤسسة اليتيم تدشن توزيع كسوة العيد بأمانة العاصمة
  • مؤسسة اليتيم تدشن توزيع كسوة العيد لـ 610 يتيم ويتيمة بأمانة العاصمة
  • محافظ بورسعيد يشهد احتفال مؤسسة مشكاة نور بتقديم 8 مليون خدمة على مستوى الجمهورية
  • خطبتا الجمعة بالحرمين: العبرة في هذا الدين العظيم بما وقر في القلب وصدقه العمل.. وإن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم
  • نجم النصر السابق إلتون جوزيه يتلو القرآن الكريم
  • من 24 دولة حول العالم .. “زايد الإنسانية” تنظم حفل استقبال لحجاج “برنامج زايد”
  • «زايد الإنسانية» تنظم حفل استقبال لحجاج «برنامج زايد للحج 2024»
  • "مؤسسة إدراك "تطالب بتعزيز الحماية القانونية والاجتماعية للفتيات
  • «الاستشاري» يجيز مشروع قانون تعديل «مؤسسة الشارقة للقرآن »
  • التحول الديمقراطي منصور خالد و عمانويل تود