قضاء فرنسا بمواجهة نظام الأسد.. هل تفتح المحاكمات بابا لتحقيق العدالة في سوريا؟
تاريخ النشر: 27th, May 2024 GMT
مع إصدار القضاء الفرنسي أول أمس الجمعة، حكما بالسجن مدى الحياة على 3 مسؤولين في النظام السوري، تتعزز الآمال بإمكانية تفعيل آليات مكافحة الإفلات من العقاب، وتحقيق العدالة في جميع الجرائم التي تعرض لها السوريون.
وجرت محاكمة المتهمين غيابيا، بعد إدانتهم، بتهمة التواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وطلبت ممثلة النيابة العامة، الإبقاء على مفاعيل مذكرات التوقيف الدولية، الصادرة بحق كل من علي مملوك، وجميل حسن، وعبد السلام محمود، الذين شكلوا ركائز للنظام السوري.
وقامت المحاكمة الغيابية للمسؤولين الأمنيين بتهم تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وضلوعهم بمقتل مازن الدباغ وابنه باتريك وهما "فرنسيان من أصل سوري" داخل سجن مطار المزة العسكري، الذي تديره المخابرات الجوية جنوب غرب العاصمة دمشق.
واضطلع الثلاثة بأدوار مختلفة، في منظومة الأمن السورية، حيث تولى مملوك إدارة جهاز مخابرات أمن الدولة، ثم أصبح رئيسا لمكتب الأمن الوطني خلفا لهشام بختيار الذي قتل في عملية تفجير شهيرة جرت في دمشق، ثم مستشارا أمنيا للرئيس بشار الأسد.
وتولى جميل حسن إدارة جهاز المخابرات الجوية، في حين تولى عبد السلام محمود رئاسة فرع التحقيق بالإدارة نفسها.
وثبت لقضاة التحقيق في اللائحة الاتهامية معاناة الضحيتين "مازن وباتريك" خلال فترة توقيفهما، مثل آلاف المعتقلين لدى المخابرات الجوية، من تعذيب قاس لدرجة أنهما ماتا بسببه.
واستمع قضاة المحكمة، لـ23 شاهدا بالقضية، من بينهم فارّين من الجيش السوري ومعتقلين سابقين في مركز الاحتجاز المذكور، كشفت إفاداتهم عن أنماط متكررة من القمع الممنهج وواسع النطاق، لأساليب تعذيب مرعبة، يتعرض لها ضحايا المركز، تشكل جميعها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وفي هذا الإطار، سبق لمسؤولين آخرين، أقل مرتبة، أن خضعوا لمحاكمات في أماكن متفرقة من أوروبا، كألمانيا والسويد وفرنسا وهولندا، بشأن انتهاكات مماثلة، أدت إلى مقتل الآلاف منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011.
أهمية المحاكمةواكتسبت المحاكمة بحسب خبير القانون الدولي المعتصم كيلاني أهمية كبيرة، لأنها تشكل جزءا أساسيا من الجهود المبذولة، لتحقيق العدالة السورية المنتظرة بشكل عام، والعدالة للضحايا وذويهم بشكل خاص، بعد أن تعطل الطريق إلى محكمة الجنايات الدولية.
وفي حديثه للجزيرة نت أوضح كيلاني أن سوريا لم تصادق على نظام روما الأساسي، الذي أنشئت بموجبه محكمة الجنايات الدولية، كما فشلت محاولات استصدار قرار من مجلس الأمن لإحالة القضية السورية إليها، "ولذلك فإن مجرد محاكمتهم، هو أمر في غاية الأهمية من الناحية القانونية، على اعتبارهم رموزا أمنية، ولم يسبق قبلهم أن حوكمت شخصيات على هذا المستوى".
ولفت إلى أن ملاحقة مرتكبي الفظائع في سوريا أمام القضاء في بلد ثالث، من خلال ما يعرف بالولاية القضائية خارج الحدود الإقليمية، هو أفضل الخيارات المتاحة في الوقت الراهن لضحايا نظام الأسد.
وتتمتع المحاكم الفرنسية بموجب الاختصاص الخارجي أو مبدأ الولاية القضائية العالمية، بالولاية القضائية على الجرائم المرتكبة ضد المواطنين الفرنسيين أو أولئك الذين يحملون جنسية مزدوجة.
وبناءً على ذلك، تم إجراء تحقيق جنائي في واقعة مقتل أفراد عائلة الدباغ داخل سجون نظام دمشق، ثم أحيل ملف القضية إلى المحكمة، وقد رحبت العائلة بقرار المحكمة.
وتولت وحدة جرائم الحرب الفرنسية التي أنشئت في عام 2012، التحقيق في قضية عائلة الدباغ، من ضمن 10 قضايا تتعلق بجرائم من هذا النوع ارتكبت في سوريا.
وهذه الوحدة متخصصة وتتكون من فريق مؤلف من 5 مدعين عامين، و3 قضاة تحقيق مستقلين، وفريق من المحققين المتخصصين، وهم يعملون حصريا في قضايا دولية تتعلق بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
وكان قضاة التحقيق المسؤولون عن القضية قد أصدروا عام 2018 أوامر توقيف دولية، ضد المدانين الثلاثة، بتهمة المشاركة في جرائم ضد الإنسانية، والتعذيب، والاختفاء القسري، وجرائم حرب.
وفي بداية عام 2023 طلب المدعي العام الفرنسي، توجيه لائحة اتهام ضد الثلاثة أمام محكمة باريس الجنائية، بتهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية.
زوار الفجروتعود فصول القضية إلى الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني عام 2013، حيث قبض قبل ساعات قليلة من موعد أذان الفجر على باتريك الدباغ (20 عاما) من منزله في حي المزة في العاصمة دمشق، على يد مجموعة أمنية زعموا أنهم ينتمون إلى المخابرات الجوية السورية، من دون أن يفصحوا عن مبررات اعتقاله.
وفي اليوم التالي، عادت المجموعة بالتوقيت نفسه، برفقة ما يقرب من 12 جنديا مسلحا، واتهموا والد باتريك مازن الدباغ بعدم تربية ابنه بشكل صحيح، وألقوا القبض عليه، زاعمين أنهم سيعلمونه كيف ينشئ ولده.
وتوجز حنان دباغ زوجة شقيق الضحية مازن، التي انضمت إلى القضية كطرف مدني، ما حصل في تلك الليلة بقولها: "لم يسلم أي شيء في المنزل من الأذى، فقد فتش عناصر المخابرات الجوية خلال المداهمتين جميع محتوياته، وصادروا موبايلات أفراد الأسرة، وأجهزة الكمبيوتر، وما وقع بين أيديهم من أموال تخص العائلة، كما صادروا السيارة التي كان يستقلها مازن".
وتضيف للجزيرة نت أن العناصر الأمنية اقتادت الوالد وابنه إلى مركز احتجاز في مطار المزة العسكري، ومنذ ذلك الحين، لم يعرف أي شيء عن مصيرهما.
وتابعت أن العائلة تلقت في يوليو/تموز 2018 إخطارا رسميا بوفاة مازن وباتريك، ووفقا للوثائق فقد توفي باتريك في 21 يناير/كانون الثاني 2014، بينما توفي مازن في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أي بعد 4 سنوات تقريبا على وفاة باتريك.
ويعتبر مركز احتجاز مطار المزة العسكري، الذي شهد مقتل عائلة الدباغ، أحد أسوأ مراكز التعذيب التابعة لنظام الأسد، وقد شهد بحسب اللجنة الدولية لتقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة، معدل وفيات تجاوزت غيره من مراكز الاعتقال المنتشرة، بنسبة كبيرة.
آلاف المغيبين قسرياوترى حنان الدباغ أن الوصول إلى محكمة الجنايات الفرنسية، هو بمثابة إنجاز عظيم، وإنجاز أولي على صعيد مكافحة الإفلات من العقاب، فالاختفاء القسري والتعذيب وسوء المعاملة والوفيات في السجون السورية؛ أمور ما تزال مستمرة، وتواصل السلطات عرقلة جهود العائلات، التي تبحث عن مصير ذويها وأقاربها المحتجزين.
وأشارت إلى أن السلطات الرسمية، ترسل إخطارات وفاة إدارية للمحتجزين، دون أية تفاصيل عن ظروف الوفاة، أو سببها، أو مكان دفنها، كما ترفض تسليم جثامين الضحايا.
وتشكو الأمم المتحدة من عجزها عن الوصول إلى مواقع الاحتجاز، والأشخاص الموقوفين داخل السجون السورية.
وترى مسؤولة الشؤون السياسية في الأمم المتحدة "روز ماري أ. ديكارلو" أن هذا الفشل جعل المنظمة الدولية تفتقر إلى إحصاءات رسمية حول عدد المعتقلين والمفقودين".
وقالت ديكارلو في إحاطة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة: في الوقت الذي تبدو فيه الأمم المتحدة غير قادرة على التحقق، تشير التقارير إلى أن أكثر من 100 ألف شخص قد تعرضوا للاعتقال أو الاختفاء على يد الحكومة السورية. وأن العديد من العائلات ليس لديها معلومات عن مصير أحبابها.
ونفت ديكارلو إمكانية وصول المراقبين الدوليين إلى مراكز الاحتجاز التي يستخدمها النظام، أو سجلات المشافي، ومواقع الدفن الخاصة بضحايا التعذيب، مشيرة إلى أن بعض العائلات دفعت مبالغ هائلة من أجل الحصول على معلومات عن أحبابها، ولكن من دون جدوى في كثير من الأحيان.
ورأت أن الأمور تتفاقم أكثر، في ضوء ارتفاع عدد الوفيات أثناء الاحتجاز، بسبب صعوبة الحصول على شهادات وفاة، أو تسليم الرفات، التي يخفي تغييبها الأسباب الحقيقية لموت الضحايا.
وتشير تقديرات غير رسمية، إلى أن ما بين 250 ألف ومليون مدني، تعرضوا للاعتقال والاحتجاز من قبل القوات الحكومية والمليشيات التابعة لها، منذ اندلاع الاحتجاجات المناهضة للنظام.
ويحتجز المعتقلون بصورة تعسفية أو غير قانونية داخل شبكة من مراكز الاحتجاز السرية المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد.
ولم يتخذ بحق الغالبية العظمى منهم أي إجراء قانوني نظامي، كما لم يتم توفير تمثيل قانوني لهم أو لعائلاتهم.
واعتبر الكاتب الصحفي عمر البنية قرار المحكمة مسار عدالة لا بد منه، ووثيقة إدانة قانونية لنظام الأسد من جهة قضائية مستقلة، ودليل قاطع على تورط رموزه في الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري.
وتوقع في تصريح للجزيرة نت أن يحرج القرار الأحزاب اليمينية الداعمة للنظام في أوروبا، وكذلك الشخصيات البرلمانية التي تدعو لإعادة العلاقات معه، مضيفا أن عدم امتثال النظام السوري لمطالب شعبه، يكشف عن عقلية لا تقيم وزنا لأي اعتبارات، ما تزال تمعن في انتهاج أساليب مروعة داخل السجون.
موقف النظاموكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة في يونيو/حزيران 2023 قد تبنت قرارا بإنشاء مؤسسة دولية جديدة لمعرفة مصير المفقودين في سوريا، وأماكن وجودهم، وتقديم الدعم للضحايا وأسرهم، ووصفت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، القرار بالتاريخي.
وقال رئيس اللجنة باولو بينيرو إن هذه الخطوة طال انتظارها من قبل المجتمع الدولي، وقد جاءت أخيرا لمساعدة عائلات جميع من اختفوا قسرا، وخطفوا وعذبوا، واحتجزوا في الحبس التعسفي بمعزل عن الخارجي، على مدى السنوات الماضية.
في المقابل، رفض النظام السوري على لسان مندوبه الدائم لدى الأمم المتحدة بسام صباغ مشروع القرار، وأوضح أن "بلاده حريصة على التعامل مع هذه المسألة الإنسانية، إلا أنها ترفض نهج التسييس الذي تم السير به بشأنها".
مناشدات للمجتمع الدوليوفي السياق ذاته، أصدرت 26 منظمة دولية وإقليمية، في وقت سابق، بيانا ناشدت فيه المجتمع الدولي، أن يدعم مطالبها بضمان العدالة والحقيقة، والإفراج الفوري عن جميع المحتجزين قسرا ضمن مراكز احتجاز سرية.
ورأت أن استمرار الحكومة السورية، بنهج الإخفاء القسري، الذي يشكل جريمة ضد الإنسانية، إنما تمارسه لإسكات معارضيها، وزرع الخوف في مجتمعاتها المحلية، منذ بدء الاحتجاجات المدنية السلمية عام 2011.
وطالب البيان الحكومة، بالإفراج الفوري عن جميع المحتجزين السلميين، لحقوقهم الشرعية بحرية التعبير والتجمع، والكشف فورا عن مصير المختفيين.
كما طالب بوقف اعتقال المدنيين تعسفيا، واختطافهم واحتجازهم بسبب أنشطتهم السلمية والصحفية والإنسانية، وذلك تماشيا مع قرار مجلس الأمن رقم 2139 الذي يدعو إلى "الإفراج عن أي محتجزين بشكل تعسفي" في سوريا.
معركة من أجل الحقيقةوفي هذا الصدد، أوضحت محامية الادعاء في القضية كليمانس بيكتارت أن مذكرات التوقيف الدولية، أظهرت كيف أن جدار الإفلات من العقاب الذي يحيط بكبار المسؤولين السوريين في أعلى المستويات، يمكن هدمه في خطوة غير مسبوقة نحو تحقيق العدالة لعائلة الدباغ ونحو الاعتراف بالفظائع المرتكبة بحق المحتجزين لدى النظام السوري.
وقالت في حوار مع مجلة "لوبس" الفرنسية إن "المحاكمة لا تتوقف عند جرائم الماضي، بل تتابع الانتهاكات التي لا تزال مستمرة حتى اليوم، لأن الحكومة لا تزال في مكانها تعذب وتسجن وتقتل، كما أن اثنين من المتهمين لا يزالان جزءا من النظام السياسي السوري، وهو ما يعني أن قرار المحكمة يمكن أن يشمل رسميا نظاما يتكون من مجرمين ضد الإنسانية "على حد قولها".
ونبهت بيكتارت إلى أن إضافة وصف الجرائم ضد الإنسانية إلى المحاكمة أمر أساسي، يهدف إلى توصيف نظام القمع، وإظهار نظام الأسد كجزء من سياسة القمع المعمم ضد الشعب السوري، وأن المحاكمة معركة من أجل الحقيقة وضد القمع المنهجي المنظم من أعلى مستويات الدولة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات جرائم ضد الإنسانیة المخابرات الجویة النظام السوری الأمم المتحدة نظام الأسد فی سوریا عن مصیر إلى أن
إقرأ أيضاً:
وفد سوري في موسكو.. لماذا؟
منذ سقوط نظام الأسد وسعي السلطة الجديدة في دمشق، ممثلة بالرئيس أحمد الشرع، الارتماء في الحضن الأمريكي ـ الأوروبي ـ الخليجي، لم يُخالج كاتب هذه السطور الشك يوما في أن هذا المسار لن يكون كافيا لسورية.
الأيديولوجيا والموقع الجغرافي
بحكم موقعها في الجغرافيا السياسية، وطبيعة تكوينها السياسي والأيديولوجي، وبتاريخها الحديث الممتلئ بالنزعة القومية، وفي القلب منها قضية فلسطين، أدركت الولايات المتحدة أن سورية لن تكون يوما جزءا من الفلك الأمريكي داخل المنظومة العربية المعتدلة.
فالقضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي للجولان، لا يسمحان لسورية ـ بغض النظر عن الشخوص الحاكمة ـ أن تكون دولة معتدلة تجاه إسرائيل على غرار مصر والأردن، وبعض دول الخليج.
بعيد سقوط نظام الأسد، بدأت السلطة الجديدة توجه رسائل عديدة للعواصم الغربية، خصوصا واشنطن، بدعم خليجي ـ تركي للحكم الجديد في سورية، بغية رفع العقوبات الاقتصادية عنها كخطوة ضرورة لتعافي البلد وإعادة بناءه، ولوضع حد للتدخلات العسكرية الإسرائيلية.ولذلك، لم تعمل الولايات المتحدة طوال العقود الماضية إلى دفع سورية نحوها، وأقصى ما حاولت القيام به هو تقديم صفقة لسورية بداية ثمانينيات القرن الماضي مشابهة لاتفاقية كامب ديفيد، شرط أن تتخلى سورية عن دعم الفلسطينيين مقابل الحصول على الجولان.
ومع فشل هذه السياسة، اكتفت واشنطن بإبقاء العلاقات مع دمشق في حدود الإمكان السياسي، دون أن تصل العلاقات بينهما إلى نقطة الصفر السياسي، بحكم موقع سورية وتأثيرها في الجوار الجغرافي لها، وهو ما حاول الأسد أيضا الحفاظ عليه، لإدراكه أن خيوط التواصل لا بد أن تبقى مفتوحة مع واشنطن، ولو كانت في الحدود الدنيا.
شكل الاتحاد السوفييتي سابقا، ثم روسيا لاحقا، فضاءً استراتيجياً وقطباً كبيراً حمى سورية وأمدها بحاجاتها العسكرية، وبفعل التقارب السياسي والاقتصادي والعسكري، أصبحت سورية جزءا رئيسا ضمن المصالح السوفيتية والروسية العليا في الشرق الأوسط.
المصالح الاستراتيجية الكبرى
بعيد سقوط نظام الأسد، بدأت السلطة الجديدة توجه رسائل عديدة للعواصم الغربية، خصوصا واشنطن، بدعم خليجي ـ تركي للحكم الجديد في سورية، بغية رفع العقوبات الاقتصادية عنها كخطوة ضرورة لتعافي البلد وإعادة بناءه، ولوضع حد للتدخلات العسكرية الإسرائيلية.
لكن السلطة السورية المؤقتة، بدأت تُدرك منذ أشهر قليلة، وخصوصا منذ لقاء ترامب بالشرع في الرياض في مايو الماضي، أن تحقيق المطالب السورية مرتبط بتحقيق المصالح الإسرائيلية، أي انضمام سورية للاتفاقات "الإبراهيمية" وتحقيق السلام مع إسرائيل، مع ترك مصير الجولان معلقا للتفاهمات الجانبية لاحقا.
وإذ كانت سلطة الشرع وما زالت تؤكد على رغبتها في السلام مع إسرائيل، إلا أنها أكدت أيضا أن ذلك لن يحصل إلا بتفاهم كامل حول مصير الجولان، قبيل توقيع أي اتفاق.
ثم جاءت أحداث يوليو الماضي، حين تدخلت إسرائيل عسكريا وقصفت أرتالا لقوات الحكومة السورية في السويداء، ثم قصفت مبنيي وزارة لدفاع والأركان في دمشق ـ وهي أحداث جاءت عقب اجتماع باكو بين وفد سوري وإسرائيلي بحضور أمريكي ـ لتزيد من القلق الاستراتيجي لدمشق، حيث بدا واضحا التراخي الأمريكي.
أدرك الشرع أن ثمن التصالح مع الغرب ورفع العقوبات سيكون كبيرا، قد لا تتحمله أي سلطة في سورية، فمصير الجولان مسألة وجودية بالنسبة للسوريين، لا يُمكن تحمل تبعات التساهل بمصيره.
لا يقتصر الأمر على الجولان فحسب، بل يبدو أن الولايات المتحدة تتماشى مع استراتيجية إسرائيل في التدخل العسكري داخل سورية، وإذا كان ثمة تباين بين إسرائيل والولايات المتحدة فيكمن في أن إدارة ترامب لا تريد تفتيت السيادة السورية وإنشاء دويلات جديدة، بخلاف إسرائيل.
ضمن هذه التطورات، لم تكن مصادفة أن تأتي زيارة وفد رسمي سوري إلى موسكو في هذا التوقيت.
ماذا يوجد في موسكو؟
ليست زيارة وفد رسمي سوري برئاسة وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى روسيا مجرد زيارة عادية لبلد عادي، فالزيارة تحمل أبعادا استراتيجية مهمة، وتشير إلى أن مستقبل سورية لن يكون بمعزل عن علاقات قوية مع روسيا، كعامل توازن مع الغرب.
ثمة قضايا كثيرة عالقة، مثل القواعد العسكرية الروسية في سورية، ومصير الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية الموقعة مع روسيا زمن نظام الأسد، ومصير الأسد وأخوه وبعض الشخصيات الرئيسية أثناء حكم النظام السابق.
ليست زيارة وفد رسمي سوري برئاسة وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى روسيا مجرد زيارة عادية لبلد عادي، فالزيارة تحمل أبعادا استراتيجية مهمة، وتشير إلى أن مستقبل سورية لن يكون بمعزل عن علاقات قوية مع روسيا، كعامل توازن مع الغرب.غير أن طبيعة الوفد السوري ـ المكون من الأمين العام لرئاسة الجمهورية ماهر الشرع، ووزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة، ورئيس الاستخبارات السوري حسين السلامة، ومستشار وزير الخارجية السوري إبراهيم العلبي ـ تشير إلى أن دمشق تسعى إلى إعادة ترتيب العلاقة الاستراتيجية مع روسيا.
يمكن لروسيا أن تلعب أدوارا هامة في سورية في هذه المرحلة، مثل تقريب وجهات النظر بين دمشق و"قسد"، ومنع إيران من عرقلة الوضع في سورية والتدخل فيه، لكن هذه الأمور تبقى مسائل جانبية لا تحتاج إلى زيارة مثل هذا الوفد السوري.
وفي هذا الإطار، لا يمكن القول إن زيارة لوفد الروسي إلى روسيا تأتي ضمن سياسة دمشق الانفتاح على كل العواصم كما ذهب البعض إلى ذلك، فهذا في رأيي تبسيط للحدث.
سورية اليوم تحتاج إلى روسيا، أكثر من حاجة روسيا إلى سورية، لأن موسكو هي الجهة الوحيدة القادرة سريعا على تزويد سورية بالسلاح، فضلا عن أن الأخيرة لم تختبر في تاريخها سوى السلاح الروسي.
ويمكن القول إن البعد العسكري في الزيارة هو الأكثر أهمية مقارنة بالأبعاد الاقتصادية والسياسية الأخرى.
إن رغبة روسيا الشديدة في طي صفحة الماضي، والانفتاح على سورية الجديدة، مع دعم خليجي وتركي وأردني وأوروبي، من شأنه أن يسمح لدمشق بإعادة شيئا من التوازن الاستراتيجي في منطقة أصبحت ضعيفة جدا أمام إسرائيل والولايات المتحدة، ويسمح لحكام سورية اللعب بين خيارات إقليمية ودولية عدة، دون غلبة طرف على طرف، فيبقى الغرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة بوابة سورية على الاقتصاد، فيما تبقى روسيا بوابتها على التسلح، ليبقى الشأن السياسي مفتوحا على الجميع.