العكاوة.. أكاليل عطرية تتوج رؤوس التهاميين وطقس سبئي يقاوم الاندثار
تاريخ النشر: 31st, May 2024 GMT
كجزء من هندامه وزيه اليومي المعتاد، يتوِّج التهامي رأسه بإكليل من الزهور والمشاقر ذات الروائح الذكية خصوصاً في مناطق شمال تهامة التابعة إدارياً لمحافظة حجة وصولاً إلى مناطق جيزان جنوب المملكة العربية السعودية، وحتى قبائل خولان بن عامر في صعدة وجيزان وعسير، ورغم اختلاف العادات والتقاليد والأزياء من منطقة لأخرى إلا أن "عكاوة" الرأس تبدو كرابط وجداني يجمع هذه القبائل المتناثرة في سهول وجبال تهامة وتأكيد على التاريخ المشترك الذي يجمعها والجذور الثقافية الواحدة.
عكاوة الفضة الزرنوقية..
يعتمر رجال قبيلة الزرانيق طوقاً من الفضة فوق شعورهم الكثيفة مع إضافة أغصان المشاقر أحياناً تحت الطوق الفضي أو العكاوة وهو الاسم الدارج لطوق الرأس على اختلاف أشكاله، فضياً كان، كما هو لدى الزرانيق أو من المشاقر والزهور العطرية الخالصة المنتشرة في حجة وصعدة وجيزان وعسير.
ويشير الباحث علي مغربي الأهدل، في منشور على فيسبوك، إلى أن اسم "عكاوة" مشتق من اسم قبيلة عك إحدى أشهر وأكبر القبائل التهامية والتي تتفرع منها قبائل الزرانيق والقحرى وغيرها من القبائل التهامية، ولعل قبيلة عك هي أول من استخدم العكاوة كتاج من الفضة ثم تحول في مناطق أخرى إلى تاج من الزهور والمشاقر.
ومن أنواع المشاقر والزهور التي يكثر استخدامها في صناعة العكاوات: البعيثران والسكب والوزاب وزهرة القطيفة المخملية المعروفة محلياً باسم "عين عناق" وقد كانت في الماضي تنبت في الحقول والمراعي بشكل تلقائي بعد المطر ودون الحاجة إلى العناية والاهتمام ليتم إنتاجها لاحقاً في مزارع خاصة ومواسم متعددة وتتحول إلى مصدر دخل لكثير من الأسر.
ارتباط روحي وتاريخي
ترمز المشاقر والزهور العطرية في الثقافات الشعبية إلى البساطة والمحبة والصداقة والسلام، كما ترتبط بأداء الطقوس الدينية منذ أزمنة غابرة، وقد امتدت تأثيراتها إلى عصرنا الحاضر وظلت ترافق أهم مناسبات وطقوس الإنسان اليمني من الديانات الوثنية القديمة إلى الإسلام، حيث يحرص اليوم كبار السن في عديد من المناطق اليمنية على نثر أغصان شجيرة الريحان في المساجد كل جمعة ويتم تطييب الموتى بوضع المشاقر فوق الجنائز، وهنا تكمن المفارقة العجيبة بقدرة المشاقر على الحضور في أفراح وأحزان اليمنيين على حد سواء كما في حياتهم اليومية العادية، وهذا إن دل فإنما يدل على قوة ارتباطها بوجدان اليمنيين.
ويسود الاعتقاد في كثير من المناطق أن المشاقر تطرد الأرواح الشريرة لذلك تزين بها العروس ليلة الزفة بوضع "العضية" وهي كمية من أنواع مختلفة من الشجيرات العطرية في الشعر بالإضافة إلى الفل والكاذي، ولهذه اللحظات طقسها الخاص حيث تبدأ جوقة مؤلفة من قريبات العروس والنساء الكبيرات في السن خصوصاً بترديد أغانٍ حزينة ممزوجة بالدموع والابتهالات الراجية حياة سعيدة للعروس وتحصينا لها من الشياطين والحساد.
ويشير الباحث اليمني محمد عطبوش في حديثه لـ"نيوزيمن" إلى أن لفظ "مشاقر" هو في الأصل لفظ سبئي، موضحاً أنه أفرد لموضوع علاقة المشاقر بطقوس الديانات اليمنية القديمة دراسة خاصة في كتابه الذي يحمل عنوان: "من مأرب الى مكة".
وأضاف عطبوش: خلاصة الفكرة أن كلمة شقر تأتي في النقوش بمعنى زينة أعلى البيوت، كانوا عندما ينتهون من بناء البيت يمشقروه أو يشقروه، أي يزينون قمته بزخارف أو مسننات أو أشكال أخرى ما زالت موجودة في بعض البيوت التقليدية إلى الآن وربما قارنوا البناء بالإنسان وهذا كلام الارياني، فسموا رأس الإنسان المزين بالأكاليل والنباتات العطرية مشقر وكأنه بيت مزين أعلاه وتلاحظ أنه في بعض المناطق في شمال اليمن يشقرون الثور في يوم العيد حيث يشقرونه ويحنونه وكأنه عريس، وهذا الموضوع له علاقة بطقوس الخصوبة، أي كانوا يعاملون الثور بتقديس كما لو أنه عريس يخصب الأرض فتنجب النبات كما يخصب العريس المرأة فتنجب الأولاد، حتى الآية القرآنية تقول: "نساؤكم حرث لكم" وكأنها أرض وكأن الرجل يحرث المرأة كما يحرث الثور الأرض.
المصدر: نيوزيمن
إقرأ أيضاً:
د. عصام محمد عبد القادر يكتب: وجدان المصريين
مشرب الوجدان لدى الإنسان يكمن فيما ينهله من معرفة سليمة، تتأتى من تربية أسرية، تقوم على إدراك لمفردات الحضارة المتجذرة، وفيما يعيشه بين مجتمعه الصغير، والكبير، من ممارسات، وتعاملات في صورتيها الخاصة والعامة، وفيما ينغمس فيه من حب فطري، يكون صورة الاتجاهات لديه في مساقها الإيجابي، وهذا في مجمله يكون ملامح الشخصية، التي نستطيع أن نحدث فيها تغييرات حميدة، لا تتوقف عند حد تعديل السلوك في إطاره المحدود؛ لكن يشمل في طياته اكتساب خبرات جديدة، تسهم في تنمية مهارات التفكير المنتج لديه؛ لينعكس بشكل مباشر على تركيبة الطبيعة الإنسانية، التي تغرس بذور الخير في شتى الأرجاء.
التاريخ مصدر رئيس؛ لتكوين الوجدان بما يحمله، وما يسطره من أحداث متوالية، بعيدًا عن مقولة أن التاريخ يعيد نفسه؛ لكنه يصقل الخبرات لمن يمتلكون الفطنة، والحكمة، ومن لديهم قراءة متأنية لمجريات الأحداث، وهذا يعني أن الإنسان منا يعتمد على ماضية؛ كي يتعايش مع حاضره؛ ليحقق أهدافًا آنية، ويستشرف مستقبله؛ ليضع لبنات من شأنها أن تصل به لغايات طويلة الأمد في مهد من الزمن، ليس بالقريب؛ لذا إدراك العلاقة بين ماضينا، وحاضرنا، ومستقبلنا يجعل وجدانياتنا مستقرة مطمئنة، لا تعاني من ضبابية المشهد، أو أن تخشى على مقدراتها من تداعيات متواترة، سواءً أكان مخططًا لها، أم صناعة الأقدار.
الوجدان المصري له إرث حضاري، أدهش البشرية على مر التاريخ؛ فبلادنا تزخر بصنّاع المعرفة بمختلف دروبها، الذين يمتلكون عقولًا مستنيرة، وذوي الفن الراقي من مبدعين، يحوزون عاطفة نقية، جياشة، تستطيع أن تعبر عما يجول في الخاطر في مشاهد مؤثرة، ومالكي فنون العمارة ممن لديهم عطاءات، يقف لها القاصي، والداني؛ احترامًا، وتقديرًا، أمام تفاصيل تبهر النظر، وتسعد القلوب، وتشرح الأفئدة، والعلماء أصحاب الميراث المستدام، والأثر الباقي في مجالاتهم النوعية، الذين أخذ منه كمرجعية، لا يقابلها نظير على وجه البسيطة، ناهيك عن المهن المتفردة، ومن يمارسها عن حب غائر في النفس؛ يشاهد ملامح، وبصمات، تؤكد على الابتكار بتفاصيله مهاراته المتنوعة.
ما لدينا من وجدان دومًا يعيدنا سريعًا على الطريق القويم، مهما تعرض المجتمع إلى نوازل، أو واجه من تحديات، أو عانى من أزمات، أو واجه من إخفاقات، أو تعثر أمام صعوبات معقدة في كليتها؛ حيث يدفعنا بكل قوة أن خرج من بوتقة المحن، ونهرول إلى ساحة المنح، التي تجعلنا نتقبل، واقعنا، ونقدر مواقفنا، ونعيد ترتيب أولوياتنا، ونبحث عن مقومات تأمين النفس، والدار؛ لنعيش في أمن، وأمان، واستقرار، وطمأنينة، تعزز مقدرتنا على بذل أقصى الجهود؛ لنبني صروحا، تحمل عزتنا وتصون كرامتنا وتقوي شوكتنا؛ فلا يستطيع العدو أن يقدم خطوة في سبيل إيقاف مسيرتنا المفعمة بطاقة متجددة، جراء وجدان يفيض منه السماحة، التي تنسدل من قوة، واقتدار، لا من ضعف، أو استكانة.
تشكيل الهوية الوطنية مفصلها الوجدان، وركنها الأصيل، ووعاؤها، الذي لا ينضب من قيم نبيلة، يحوي الولاء، والانتماء، وكل صفات المواطنة الصالحة، التي نعززها، ونعمل على تنميتها بصورة تلقائية، عبر مؤسسات، تتضافر في الغاية؛ لتصبح الأسرة رأس الحربة، والمؤسسة التعليمية الوقود، الذي لا ينفذ، والإعلام الوطني شريك البناء، ومنابر العقيدة ضابطة السلوك، ومضيئة الطريق تجاه دروب الخير، والمثوبة، وهنا نضمن بأن تكون هيئات الدولة داعمة للقومية المصرية، التي تنبري عن ثوابت راسخة في الأذهان.
النفوس القوية، التي لا تقبل الانكسار، والخضوع، والخنوع، تستلهم طاقتها من وجدان راق، وفكر واع، يحض على الاصطفاف، والالتفاف، حول مصالح الوطن العليا؛ لذا تجد المصريين، يقهرون عدوهم بتماسكهم، ويبددون محاولات بائسة من جماعات الظلام، الذين يبثون شائعات مغرضة؛ بغية النيل من نسيج، لا يقبل أهله المساس به، ويثبتون للعالم كله أن مصر لها تاريخ، وجغرافيا، لا نظير لهما؛ ومن ثم فهي صاحبة سيادة، وريادة، دون مواربة.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.