لقد عرفت عُمان القيمة التنموية للوقف عبر حضارتها الممتدة؛ إذ كان للوقف تاريخ أسهم في إحداث آثار حضارية عدة سواء أكانت على المستوى التربوي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، وقد أدى تنظيمه في عهد النهضة الحديثة باعتباره قطاعا تنمويا مهما إلى تأسيس العديد من المؤسسات الوقفية، وهي وإن كانت حديثة النشأة إلى حد ما، إلاَّ أنها تقوم على أُسس واضحة، قائمة على معايير استثمار الأموال والأملاك الوقفية بما يخدم المجتمع ويعين أفراده المستحقين للتمتع بالحياة الكريمة.
ولهذا فإن الاستثمار الوقفي يهدف إلى تنمية الأصول الوقفية بما يضمن استدامتها، وقدرتها على الوفاء بمتطلباتها، وهذا الاستثمار يأتي ضمن مجالات عدة منها الاستثمار في العقارات أو في الأنشطة الزراعية أو المشروعات الخدمية أو الإنتاجية، إضافة إلى الاستثمار في المجالات المالية ذات الطابع الإسلامي، وسنجد أن المؤسسات الوقفية بكافة أشكالها تعمد إلى اتخاذ سبيلا أو عدة سبل لضمان قدرتها على تثمير أصولها وتنميتها وبالتالي استدامتها.
ولعل التطور التنموي للقطاعات عامة، وتعدد منافذ المنفعة للأصول الموقوفة، دفع إلى تطوير آفاق الاستثمار الوقفي من خلال تعاون المؤسسات المعنية في القطاعات الحكومية والخاصة وحتى المدنية، فأوجدت المحافظ المالية والعقارية، التي أسهمت في تنمية الاستثمار المالي للتلك الأصول وإدارة المخاطر المحتملة الناتجة عنها، إضافة إلى الاستثمار في الأراضي الزراعية الموقوفة بما يُحقِّق قدرتها على الاستيفاء بأهدافها التي أوقفت من أجلها.
وبما أن تاريخ الوقف في عُمان مر بالعديد من المراحل والتطورات، وظهرت خلال ذلك الكثير من التحديات والإشكالات التي حدَّت في بعض الأحيان من إمكانات الاستفادة منه، وربما تم فقد العديد من تلك الأوقاف العامة في المحافظات المختلفة، فإن هذا التطوُّر أوجب من ناحية أخرى مراجعة السياسات والتشريعات الخاصة بها، لتقديم أفضل الممارسات الممكنة القائمة على الحوكمة والاستثمار المالي الإسلامي، بما يتَّسق مع السياسات الاقتصادية والخطط المعمول بها في الدولة.
إن المراجعات الشاملة للتشريعات والممارسات الوقفية، أسهمت في دعم العمل المؤسسي للأوقاف، وقدرتها على النماء والتطوُّر لتنويع مصادر إيراداتها الذاتية، وتحقيق الاستدامة المالية من ناحية، والمحافظة على الأصول وتنميتها من ناحية أخرى، بما يجنبها العجوزات المالية، أو فقد بعض أصولها، لهذا فإن هذه المراجعة تشمل تلك السياسات الخاصة بالحوكمة وأنماط أدائها؛ ذلك لأن الحوكمة تقتضي توفير الأُطر العامة التي تضمن حماية حقوق الواقف والموقوف عليهم، وتحديد الصلاحيات والمسؤوليات لإدارة المؤسسة الوقفية، وبالتالي اعتماد مبادئ الشفافية والإفصاح والمساءلة والرقابة، والاستقلالية والحفاظ على المصلحة العامة.
ولأن الحوكمة نظام إدارة فإن آلياتها يجب أن تتناسب مع خصوصية المؤسسات الوقفية، في التزامها بالنظام الأخلاقي والديني الذي يُعد أهم ركائز هذه المؤسسات، وعليه فإن تكاملها مع الأنظمة الاقتصادية المعمول بها في الدولة سيمنحها قدرة على التنافسية وتجويد الخدمات بما يضمن إمكانات تطويرها وتثميرها، وتحسين مستويات الضبط والتوجيه للممارسات الإدارية والمالية التي تعمل ضمنها، إضافة إلى كفاءة الموارد وتعظيم قيمتها الاقتصادية.
إن الاستثمار الوقفي باعتباره أداة أساسية لتنمية مدخرات وأصول الوقف، يقوم على تلك المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات الوقفية، التي تحرص على تطوير ممارساتها وأنشطتها وبرامجها التي تخدم المجتمع، وتعمل على ازدهار الحياة الاجتماعية والاقتصادية للوطن، وبالتالي فإن إمكانات التكامل والمنافسة، ستتطلَّب تبني أفضل الوسائل التقنية الحديثة، واتباع منهج التخطيط الاقتصادي والكفاءة الإدارية، ومراعاة التنوُّع الاستثماري، وتطوير مجالات الخدمات التي تشملها الأوقاف وتعدُّد البرامج والقطاعات التي يمكن أن تخدمها.
فالمؤسسات الوقفية اليوم تطوَّرت بتطوُّر الحياة الحضارية الحديثة، وتنامي مجالاتها العلمية والثقافية والصحية وغيرها، وبالتالي فإن هذه المؤسسات اتخذت أساليب مختلفة في التعامل مع المستجدات، من خلال فتح آفاق جديدة للاستثمار من ناحية، ومجالات الدعم والتمكين من ناحية أخرى، ولهذا فقد شهدنا العديد من تلك المؤسسات الوقفية والمبادرات التي كانت بالشراكة مع القطاعات الأهلية والخاصة، منها المؤسسة الوقفية لدعم التعليم (سراج) التي تبنت مبادرة كفالة الطلاب الجامعيين من العائلات المعسرة أو المتعففة، وهي من المؤسسات الواعدة التي يمكن أن تقدِّم آمالا لتحقيق الطموح للكثير من الشباب إذا ما تبنت أُسس الحوكمة وأنماط الاستثمار المالي الذي يضمن لها استدامة تحقيق الأهداف.
وهكذا سنجد أن إيمان الدولة بتلك المؤسسات وأهميتها في رفد التنمية ومساهمتها الفاعلة في تحقيق رفاهية المجتمع، يتجسَّد في المرسوم السلطاني القاضي بإنشاء (المؤسسة العمانية الوقفية)، الذي صدر خلال الأيام القليلة الماضية، ليكون متَّسِقا مع هذا الاهتمام، ومجسِّدا لتطوُّر المنظومة الوقفية في الدولة؛ فهي مؤسسة (عامة)، تتمتع بـ (الصفة الاعتبارية)، وبـ (الاستقلال المالي والإداري)، وتتبع (وزير الأوقاف والشؤون الدينية). إنها إذن مؤسسة قائمة على نظام الحوكمة، وبالتالي فإنها ذات نظام مؤسسي مستقل، قادر على تأصيل فكره الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بناء على أفضل الممارسات الحديثة، وأولويات المجتمع وخصوصيته.
إن إنشاء المؤسسة العمانية الوقفية يعكس في تصورنا الوعي المعرفي والحضاري بأهمية هذا القطاع، وقدرته المتنامية على استيفاء حاجات المجتمع مهما تطوَّر وانفتحت آفاقه، ليكون بذلك نظام اقتصادي ثقافي قائم على أسس دينية شرعية تقتضي مجموعة من المبادئ والأسس التي تتطلبها المرحلة التنموية التي تمر بها الدولة، وكذلك الرؤى المستقبلية الواعدة التي تكفل تكامل الجهود والعمل المشترك بين القطاعات، ليكون بذلك رافدا أساسيا ومهما في الدعم التنموي.
فهذه المؤسسة الوقفية تأتي في سياق تعزيز التنمية المستدامة، ودعم برامج الحماية الاجتماعية، لتتكامل بذلك مع المؤسسات الوقفية المختلفة المتوزعة في ربوع المحافظات، وتقدِّم نموذجا مؤسسيا من نماذج الاستثمار في الأصول الوقفية بما يرسِّخ مفاهيم التعاون والشراكات الاستراتيجية المجتمعية، ويضمن تعدُّد برامج الدعم ومبادراته بما يحقِّق المصلحة المجتمعية العامة، ويكفل تغطيته لمجالات علمية وبحثية واجتماعية وثقافية جديدة.
إن المؤسسة العمانية الوقفية تقدِّم مثالا واعدا لكفاءة هذا القطاع التنموي المهم، من خلال استثمارها في الأصول والأموال وفق معطيات حديثة، واتباع أفضل الممارسات العالمية للاستثمار والحوكمة، التي تضمن كفاءة العمل الوقفي واستدامة أمواله، وبالتالي قدرته على أداء مهامه وتحقيق أهدافه، لذا فإن هذه المؤسسة يُنظر إليها باعتبارها تطوُّرا في العمل الوقفي واتساعا في مفاهيمه وقدرته على المساهمة الفاعلة في التنمية المجتمعية والاقتصادية.
لذا فإن هذه المؤسسة سيقع على عاتقها، تطوير المنظومة الوقفية في عُمان، من خلال أنماط حوكمتها ومجالات استثمارها وتنوُّعها، إضافة إلى اتساع دورها المجتمعي في القطاعات المختلفة، وبالتالي فإنه خلال المرحلة المقبلة سيكون لهذا القطاع أدوار تنموية رائدة، وسيسُهم مساهمة فاعلة في تعزيز التنمية المجتمعية بما يُحقِّق الرفاه الاجتماعي للأفراد، ويدعم الاقتصاد الوطني ويرفد برامجه المختلفة.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المؤسسات الوقفیة وبالتالی فإن الاستثمار فی إضافة إلى من ناحیة فإن هذه من خلال
إقرأ أيضاً:
إقرار نظام الاستثمار بالمدن الصناعية في سوريا
دمشق-سانا
أقرت وزارة الاقتصاد والصناعة نظام الاستثمار الجديد بالمدن الصناعية في سوريا، بهدف تعزيز البيئة الجاذبة للاستثمار الصناعي، وتشجيع الاستثمار الوطني والأجنبي في المدن الصناعية، ونقل وتوطين التكنولوجيا والمعرفة الصناعية.
ويسعى النظام الجديد للاستثمار في المدن الصناعية، الذي وقعه وزير الاقتصاد والصناعة الدكتور محمد نضال الشعار، في ختام اجتماع الجهات المعنية بهذا النظام، في مبنى الإدارة العامة للصناعة اليوم، إلى زيادة القيمة المضافة المحلية، عبر دعم الصناعات التجميعية والصناعات الثقيلة والصناعات التحويلية والصناعات الإلكترونية.
ويمكن النظام الجديد للاستثمار من تحقيق التنمية المستدامة والمتوازنة بين المحافظات، وخلق فرص عمل جديدة، وتعزيز كفاءة الموارد البشرية، ورفع القدرة التنافسية للصناعات السورية في الأسواق المحلية والخارجية، وتفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
ويؤكد على مبدأ تكافؤ الفرص من خلال ضمان الجهة الإدارية المشرفة على إدارة وتطوير وتشغيل المدينة الصناعية، وعدم التمييز بين المستثمرين، وتكافؤ الفرص في التخصيص والمفاضلة، والشفافية والحوكمة، عبر اعتماد آليات واضحة وعلنية في التخصيص والتعاقد والرقابة، إلى جانب الاستدامة البيئية، من خلال الالتزام بالمعايير البيئية المحلية والدولية في جميع مراحل المشروع.
ويشدد النظام الجديد في مبادئه العامة على المرونة الإدارية، من خلال منح الوزارة صلاحيات واسعة لتبسيط الإجراءات واتخاذ القرارات ضمن أطر الحوكمة الرشيدة، وعلى المسؤولية الاجتماعية، عبر تشجيع المشروعات على المشاركة في تنمية المجتمعات المحلية المحيطة ودعم التخصص الصناعي عبر تنظيم المدن حسب التخصصات الصناعية.
ويؤكد النظام على تقديم تسهيلات للمستثمرين بالمدن الصناعية، تتمثل بالتمتع بالإعفاءات والحوافز الضريبية، والتسهيلات الجمركية المقدمة وفقاً لقانون الاستثمار النافذ، وضمان عدم تغير القوانين المؤثرة على المشروع خلال مدة سريان العقد، و رقمنه العمل الإداري مع الإشارة إلى أنه في حال حدوث أي نزاع بين المستثمر والجهات الحكومية أو المحلية تتم تسوية النزاع من خلال التحكيم بين الطرفين.
ويضمن النظام حقوق المستثمر في استخدام الأرض المخصصة، ضمن شروط العقد والحصول على تراخيص البناء والتشغيل، وضمان عدم نزع اليد أو التأميم، وتوفير بنية تحتية متكاملة ومتطورة، تؤمن كل متطلبات الاستثمارات الصناعية.
ويمكن للمستثمر بموجب النظام الجديد القيام بدمج عدة مقاسم متجاورة، على أن تكون بملكية واحدة، ولذات الصناعة الأساسية لضرورات الصناعة، أو لضرورة التوسع مستقبلاً ،على أن يلتزم المستثمر بنظام ضابطة البناء المعمول به في المدينة، وبشروط الدمج التي تضعها الجهة الإدارية، وعدم وجود إشارات، أو حقوق للغير على المقاسم المطلوب دمجها، حيث يتحمل كل النفقات الناجمة عن الدمج، كما يمكنه إضافة صناعة مكملة إلى صناعة أساسية مرخصة، مع مراعاة الشروط البيئية والصحية وبموافقة الوزارة على أن يمنح السجل الصناعي للصناعة الأساسية فقط.
وبشأن تحديد سعر مبيع المتر المربع الواحد من مقاسم المدينة الصناعية يتم من خلال تشكيل الوزير للجنة مؤلفة من خبراء مختصين مهمتها تخمين أسعار المقاسم في المدينة الصناعية بشكل سنوي، على أن يصدر القرار من الوزير، يحدد فيه سعر المتر المربع الواحد من المقاسم بعملة الدولار الأمريكي، ويتم استيفاء المبالغ لقاء قيمة المقاسم بعملة الدولار الأمريكي، أو ما يعادلها بالليرة السورية بسعر المبيع وفق نشرة الأسعار الرسمية الصادرة عن مصرف سورية المركزي، وذلك بتاريخ استحقاق هذه المبالغ بحساب المدينة الصناعية.
ويتضمن النظام عدداً من البنود التي توضح آلية استثمار مقاسم المدينة الصناعية واستثمار المشاريع والمنشآت الصناعية، واستثمار المقاسم المعدة للاستعمالات والاستثمارات الخاصة كلياً أو جزئياً، وحقوق والتزامات المستثمر، ومحددات مخالفات المستثمرين، وآلية استثمار البنى التحتية والمشاريع المكملة، والأراضي غير المخدمة في المدن الصناعية، مع التأكيد على إنهاء العمل بجميع أنظمة الاستثمار السابقة المعمول بها في المدن الصناعية وتعديلاتها اعتباراً من تاريخ نفاذ هذا القرار.
وأكد وزير الاقتصاد والصناعة في تصريح عقب توقيعه القرار أن النظام الجديد يعزز بيئة الاستثمار ويجذب رؤوس الأموال ويحفز النشاط الاقتصادي في المدن الصناعية، التي تُعد ركيزة أساسية بمرحلة التعافي وإعادة الإعمار، مشيراً إلى أن النظام الجديد يستند إلى معايير مرنة وجاذبة، بما يتماشى مع المتطلبات الحالية، ويواكب التحولات الاقتصادية في المدن الصناعية.
ولفت الوزير الشعار إلى أن الوزارة ناقشت ضمانات المستثمرين، وتقديم إعفاءات وتسهيلات مع تبسيط الإجراءات الإدارية، لتعزيز الشفافية وحوكمة العملية الاستثمارية، لتعزيز قدرة المدن الصناعية في سوريا على المنافسة الإقليمية، وجذب الشراكات الدولية مع متابعة دقيقة لتطبيقه ومراقبة أثره على أرض الواقع.
تابعوا أخبار سانا على