الباحثون عن عمل.. الملف الساخن
تاريخ النشر: 26th, June 2024 GMT
إبراهيم بن سالم الهادي
سأتحدث بلغة بسيطة دون فلسفة، هل وقفنا مع أنفسنا لحظة تأمل في أن يفيق أكثر من 100 ألف شاب من نومهم كل صباح ولا يجدون معهم ريالًا واحدًا يقضون به مآرب حياتهم؟ هل تخيلنا وضعهم كيف يعيشون دون دخل شهري؟ هل وضعنا كل هذا العدد الذي يزداد يومًا بعد يوم في الحسبان؟! أليست كل هذه الأعداد خطرًا اجتماعيًا يُمكن أن يُهددنا في أي لحظة نتيجة الإحباط الذي يزامنهم صباح مساء؟! هل وضعت المؤسسات المعنية هذا الجانب ضمن أولوياتها؟
لا أحد مِنَّا- بالطبع- ينتقد سير العمل الذي لم تألُ فيه الحكومة جهدًا دون توقف، لكن ازدياد أعداد الباحثين بأرقام لافتة يجعلنا نعيد التفكير في مضي فترة طويلة حالت دون استيعاب الباحثين عن عمل، ونحول فيها مسار التفكير والخطط الى استراتيجيات حديثة تحول العمل إلى اقتصاد ناتج يفرز الوظائف الشاغرة، مُستثمرًا طاقات الشباب المُهدرة ليتضاعف المردود الوطني، وعلينا أن ندرك أننا في زمن يكشف المجتمع فيه حقيقة الأرقام التي تعلنها وزارة العمل بين حين وآخر؛ فالمجتمع اليوم واعٍ جدًا بما يحدث أمامه، ولا يمكن أن تغيب عنه حقيقة أن الأرقام تتناقض مع الواقع!
ففي ظل الوضع الحالي كنت أتمنى أن تعكف وزارة العمل على دراسة جديدة لإيجاد حلول لزيادة الفرص الوظيفية بالتعاون مع الجهات المعنية عن تنمية الاقتصاد الوطني؛ لتساعدها على إكمال دورها في تسجيل استمارات التوظيف وأن تُقدِّم مقترحات وأفكارًا جديدة لمجلس الوزراء لتخرج بخطة شاملة تشترك فيها وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار ووزارة الاقتصاد؛ فالمُجتمع اليوم ليس بحاجة إلى خطابات رنانة؛ بل يحتاج إلى توفير وظائف حقيقية يستطيع من خلالها الفرد أن يعيش في وطنه مُعززًا مُكرمًا، وأن يُكمِل المسير في بناء الوطن، وهذا حق كفله له النظام الأساسي للدولة.
الحلول كثيرة والأفكار والمقومات والعناصر متوفرة، لكن الهمة والعزيمة والجدية كما يبدو تحتاج إلى إنعاش لتفيق وتدرك أن الوطن به من الخير المهدور الكثير، ويحتاج إلى من ينفض عن بدنه غبار الكسل في الجسد والذهن. وقد نبَّهتُ في مقال سابق إلى خطورة ازدياد أعداد الباحثين عن عمل في الوطن وربط الأرقام بمؤشر ارتفاع الجرائم في مُجتمع لا يجب أن نسمع في محيطه عن خبر جريمة هنا أو هناك صغيرة كانت أم كبيرة.
هذا الملف الساخن لا يجب أن يوضع على أرفف الإهمال أو أن يذهب طي النسيان؛ كونه يلامس طاقات بشرية وطنية مهدورة؛ بل يجب أن يوضع على رأس الأولويات ويُصنع له اقتصاد جديد مُستدام من خلال تعزيز ورفع أداء القطاع الخاص إلى مستوى يستطيع فيه استيعاب الباحثين عن عمل، ووضع حوافز وتسهيلات لهذا القطاع بمختلف مجالات العمل فيه، من أجل الدفع به نحو النمو وفتح مشاريع ذات إنتاجية عالية تصب في صالح اقتصادنا الوطني.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الإدارة التي تقيس كل شيء.. ولا تُدرك شيئًا
خالد بن حمد الرواحي
حين يصبح القياس هدفًا لا وسيلة أمام لوحةٍ إلكترونية مزدحمة بالأرقام والألوان، يقف مديرٌ يراقب مؤشرات خضراء ونسب إنجاز مرتفعة وتقارير أسبوعية محكمة. كل شيء يبدو متقنًا على الشاشة، فتعلو ابتسامة اطمئنان على وجهه. لكن حين يغادر مكتبه إلى الميدان، يكتشف صورةً أخرى: معاملات متأخرة، موظفين مرهقين، ومراجعين ينتظرون أكثر مما ينبغي. هناك فجوة صامتة بين ما تعرضه المؤشرات وما يعيشه الواقع؛ فجوة تختبئ خلف الأرقام وتُخفي الحقيقة بدلًا من أن تكشفها.
لم تكن المشكلة في الأرقام، بل في الطريقة التي صارت تُستخدم بها. فالمؤشرات التي صُمِّمت لتكون بوصلةً للتطوير تحوّلت تدريجيًا إلى غايةٍ في ذاتها. صار همُّ بعض المؤسسات أن ترفع النسب وتُحسّن الرسوم البيانية، لا أن تُصلح المسار أو تُشخِّص الخلل. وهكذا، تزداد الأشرطة الخضراء بينما تتراكم الشكاوى، وتُكتب تقارير النجاح في الوقت الذي يشعر فيه الناس أن شيئًا لم يتغيّر.
وفي أحد الاجتماعات، عُرض تقريرٌ يوضح أن المؤسسة عقدت خلال شهرٍ واحد 42 اجتماعًا مقارنةً بـ18 في الشهر الذي سبقه، فصفّق الحاضرون. لكن السؤال الذي لم يُطرح كان: ماذا تغيّر بعد كل تلك الاجتماعات؟ فزيادة اللقاءات لا تعني زيادة الفهم، وكثرة المؤشرات لا تعني تحسّن الأداء. ما يُقاس غالبًا ليس النتائج، بل النشاط؛ لا الأثر، بل الجهد المبذول.
السبب في هذا الانفصال بين الصورة الرقمية والواقع العملي أننا نقيس ما هو سهل لا ما هو مهم. فعدد الاجتماعات أسهل من قياس جودة القرار، وعدد المعاملات أسهل من فهم تجربة المستفيد. ولأن الأسهل يتغلب على الأهم، تمتلئ التقارير بالأرقام التي يمكن جمعها بسرعة، لكنها لا تشرح شيئًا عمّا يجري حقًا. إنها أرقام بلا روح؛ تصف النشاط بحماس، لكنها تصمت حين يُسأل عن المعنى والغاية.
ومع مرور الوقت، تنشأ حالة من الرضا الزائف، فيظن المسؤول أن الإنجاز متحقق لأن المؤشرات خضراء، بينما يشعر الموظف والمستفيد أن الواقع لا يتحرك. وهنا تكمن أخطر مشكلة: فالفجوة بين الشعور بالنجاح وتحقيقه فعليًا قد تبتلع أعوامًا من الجهد دون نتيجة، لأننا اكتفينا بقراءة الأرقام دون قراءة الحياة داخلها.
الحل لا يحتاج إلى ثورة في الأنظمة، بل إلى مراجعة في الفهم. فالمؤشرات ليست خصمًا، بل أداة حين تُستخدم بحكمة. المطلوب العودة إلى السؤال الجوهري: ماذا نريد أن نفهم؟ هل نبحث عن زيادة الأرقام أم عن تحسين الواقع؟ حين يكون الهدف واضحًا، يصبح القياس تابعًا له لا متقدمًا عليه.
ولعل الخطوة الأولى تبدأ بتقليل الأرقام لا زيادتها. فبدل عشرات المؤشرات التي تشتت الانتباه، يكفي اختيار خمسة مؤشرات تمسّ جوهر الأداء، مثل رضا المستفيد، ووقت إنجاز الخدمة، وجودة القرار، ومستوى التعاون بين فرق العمل. ومع الوقت، يتحوّل القياس من سباقٍ لملء الجداول إلى ممارسةٍ للتعلّم والتحسين، تُحرّر المؤسسة من عبء الشكل وتعيدها إلى روح العمل.
وفي سياق التحول الرقمي الذي تتبناه «رؤية عُمان 2040»، لا تكفي الشاشات الذكية ما لم تُترجم بياناتها إلى قرارات تُحسّن تجربة المواطن وترفع كفاءة الجهاز الإداري. فالرؤية لا تدعو إلى مزيدٍ من المؤشرات بقدر ما تدعو إلى حوكمةٍ أفضل للبيانات وربطها بما يعيشه الناس، حتى يصبح كل رقم خطوةً ملموسة على طريق التغيير، لا مجرد قيمة تُضاف إلى ملف العرض.
في نهاية المطاف، لا تُقاس المؤسسات بعدد الشرائح في العروض، ولا بكثرة المؤشرات التي تتلوّن بالأخضر، بل بما يتغيّر في حياة الناس. فالأرقام قد تمنح شعورًا بالنجاح، لكنها لا تصنع النجاح ذاته إلا إذا رافقها فهمٌ لما وراءها. وحين نضع الواقع قبل الرسم البياني، ونبحث عن الأثر قبل النسبة، يصبح القياس أداةً للتطوير لا غايةً للتزيين. وعندها فقط، تصبح المؤشرات شاهدةً على التقدم لا ستارًا يخفي هشاشة الإنجاز.