استهلاك إنسان القرن العشرين أحدث أزمة بيئية
تاريخ النشر: 7th, August 2023 GMT
يقول آخر التقارير المناخية إن درجة حرارة سطح المحيطات ارتفعت إلى 21.2 درجة مئوية منذ بداية شهر ابريل الماضي، وهي أعلى معدل لها منذ أن بدأت السجلات المناخية.
وتُظهر أحدث البيانات الصادرة عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية أن متوسط مستوى سطح البحر العالمي وصل إلى مستوى قياسي جديد في عام 2021، حيث ارتفع بمعدل 4.
الحديث عن المناخ ليس جديدا، فقد تحول إلى أمر مقلق منذ عقود، وبذلت الجهود للتعرف على أسبابه. وكان واضحا أن التطورات الصناعية والتكنولوجية وما يصاحبها من انبعاث الغازات وارتفاعها إلى الطبقات العليا في الجو، كل ذلك ساهم في التداعيات البيئية التي بدأت تنعكس على حياة البشر اليومية. في الثمانينيات كان الحديث يدور عن حدوث ثقب في طبقة الأوزون المحيطة بالغلاف الأرضي، وأن ذلك يؤدي لاختراق أشعة الشمس نحو الأرض بمعدلات أكبر، الأمر الذي يساهم في ارتفاع درجة حرارة الأرض. واتخذت يومها إجراءات من بينها الحد من استخدام غاز الكلوروفلوروكربون (سي اف سي) المستخدم في القنينات المضغوطة وأجهزة التبريد. ووجهت الأصابع إلى الصين بأنها من كبار مستخدميه وأنها مترددة في الحد منه. وتواصل السجال حول التداعي البيئي، وكتبت البحوث وصدرت الكتب وعقدت المؤتمرات على أمل الحد من ذلك التداعي من خلال التوافق على سياسات تصنيعية تتفادى الإضرار بالبيئة. وبعد عقود من التداول في ظل توسع التداعي البيئي تم التوصل في العام 2015 إلى ما يسمى «اتفاقية باريس» وذلك في إثر المفاوضات التي عقدت أثناء مؤتمر الأمم المتحدة الـ 21 للتغير المناخي في باريس. وصدّق على الاتفاق وفود من 195 دولة حضرت المؤتمر. يهدف الاتفاق إلى حصر زيادة درجات الحرارة في العالم بأقل من درجتين مئويتين، وسيعمل الجميع لعدم تجاوز 1.5 درجة. وخصصت ميزانية قدرها 100 مليار دولار سنويا كمساعدات مناخية للدول النامية. واليوم، بعد ثماني سنوات من ذلك الاتفاق لا يبدو أن التداعيات البيئية والمناخية تم احتواؤها. ولعل من أهم أسباب ذلك عدم التزام الدول بمقتضيات اتفاقية باريس، وكذلك رفض بعض الدول الانضمام إليها، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية في عهد دونالد ترامب.
أين هي المشكلة إذن؟ فما دام العالم يعي الأزمة ويحدد بعض أسبابها، ويستطيع التعاطي معها، فلماذا لم ينجح العالم حتى الآن في احتواء الآزمات المناخية والتداعيات البيئية؟ لماذا يتكرر السجال الذي طرح قبل اربعة عقود من قبل الجهات نفسها؟
منذ حلول موسم الصيف الحالي تصاعدت درجات الحرارة في مناطق عديدة من العالم بمعدلات غير مسبوقة. ففي منطقة الخليج والعراق وإيران بلغت درجات الحرارة معدلات غير مسبوقة تصل الى 60 درجة مئوية. وقررت الحكومة الإيرانية تعطيل العمل في القطاعين العام والخاص بسبب ارتفاع درجات الحرارة، في حين أدى الإعصار خانون إلى مقتل شخصين وانقطاع الكهرباء عن 166 ألف منزل جنوب اليابان، وأجبر الشركات والمدارس على الإغلاق بشمال تايوان. وانتشرت الحرائق في الأرياف الأوروبية على نطاق واسع، حتى اضطرت شركات السياحة لاتخاذ خطوات سريعة لإعادة زبائنها إلى أوطانهم من بلدان مثل إيطاليا وبعض الجزر في البحر المتوسط. وبدأ قطاع السياحة في بلدان مثل أسبانيا واليونان يتراجع بشكل مقلق سيؤثر على اقتصاداتها بشكل مباشر. وفي العادة يصل الأستراليون والاسكندنافيون والبريطانيون والروس جميعًا بحثًا عن طقس أكثر دفئًا. فبعد انتهاء أزمة وباء كورونا سعى الناس للعودة إلى حياتهم الطبيعية خصوصا في مجال السفر والسياحة. لكن هذا العام أودت موجات الحر الشديدة بحياة المئات في بلدان عديدة. وقد تضررت دول أخرى حول البحر الأبيض المتوسط. ففي إسبانيا ارتفع مقياس الحرارة بمقدار 15 درجة فوق المستويات العادية لموسم الصيف. كما عانت إيطاليا من موجات الحر مع ذوبان جزيرة سردينيا تحت 48 درجة مئوية، بينما عانت تونس الأسبوع الماضي من 49 درجة مئوية. وتم إغلاق بطاقات الجذب السياحية الرئيسية مثل الأكروبوليس في أثينا. بل أن علماء المناخ أنفسهم مذهولون من شراسة الحرارة. ومن الملاحظ انتشار أجهزة التكييف على نطاق واسع في البلدان التي كانت حتى السنوات الأخيرة لا تحتاجها، ومنها بريطانيا التي نشأت قطاعات مختصة بصناعة أجهزة التكييف وتركيبها. ومن المؤكد أن انتشار هذه الأجهزة يساهم في إحداث خلل في التوازن الحراري.
أين هي المشكلة إذن؟ لماذا عجز البشر عن التوافق على سياسات فاعلة لاحتواء الأزمة البيئية والمناخية؟ ولماذا لم تستطع السجالات الدولية تحقيق الأهداف التي رسمتها الدول الكبرى سواء من خلال الأمم المتحدة والمنظمات المرتبطة بها أم من خلال التواصل والمفاوضات الثنائية والإقليمية؟ تحدث العالم عن السعي للحد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية كما ذكر أعلاه، ولكن لم يتحقق شيء من ذلك. ومن المؤكد أن تضغط هذه الحقائق على المشاركين في الدورة الثامنة والعشرين من مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ COP28 التي ستستضيفها دولة الإمارات (في مدينة إكسبو بدبي) خلال الفترة من 30 نوفمبر وحتى 12 ديسمبر 2023. وسيجمع المؤتمر ممثلي نحو 197 دولة حول العالم. ونظرا لانعكاس الأزمة البيئية على البشر فقد نشطت منظمات حقوق الإنسان الدولية في السجال بشأن ذلك. فقالت «هيومن رايتس ووتش» أن «على الحكومات الاتفاق في ما بينها ضمن قمة المناخ القادمة على الالتزام بالتخلص التدريجي من جميع أنواع الوقود الأحفوري للوفاء بالتزاماتها الحقوقية. ينبغي أيضا التأكد من أن الإمارات، البلد المضيف، ستعمل على السماح للمجتمع المدني بالمطالبة بحرية باتخاذ إجراءات بشأن المناخ قبل المؤتمر وأثناءه وبعده».
ومن خلال تجربة العالم مع الدورات الدولية حول المناخ لا يبدو في الأفق ما يدعو للتفاؤل بإمكان احتواء الأزمة لأسباب عديدة من بينها: أن الأزمة تبدو أكبر مما يستطيع السياسيون استيعابه بسهولة، وأسرع انتشارا من أية محاولات دولية لاحتوائها. ثانيها أن التعاطي الدولي مع المناخ والتداعي البيئي بطيء ومحدود ويخلو من الجدّيّة التي تتطلبها أساليب احتوائها. ثالثها: أن المصالح الاقتصادية تحظى بالأولوية لدى هذه الدول ولو كان ذلك على حساب محاولات احتواء الأزمة، وتحتل القضايا البيئية مراتب سفلى في جدول أولويات هذه الدول. رابعها: أن هناك مستوى عاليا من النفاق لدى الدول إزاء سياساتها من الأزمة، وكأن كلا منها يقول: الحل ليست مهمتي. فمثلا في الوقت الذي استضافت فيه بريطانيا مؤتمر المناخ (كوب26) بمدينة غلاسكو قبل عامين، لم تتردد حكومتها مؤخرا في منح الشركات رخصا لإصدار المزيد من النفط في بحر الشمال، برغم مطالبات نشطاء البيئة بالتوقف عن استخدام الوقود العضوي. خامسا: عدم تطبيق الاجراءات التي اتخذتها الدول حتى الآن ومنها ما يسمى «الانبعاث الصفري» اي إحداث توازن بين الكميات المنتجة من غاز ثاني أوكسيد الكربون والكميات المسحوبة من الجو، وكذلك تقليل نسبة الرصاص في وقود السيارات، وفرض ضرائب أكثر على استخدام السيارات في المدن، فالواضح انها خطوات بطيئة وغير فاعلة، تركز على فرض الضرائب وليس على منع التلوث.
إلى أين يقود هذا السجال؟ إن احتواء الأزمة البيئية والتداعي المناخي مهمة كبرى عجز العالم حتى الآن عنها ويتحمل مسؤولية الإخفاق في التعاطي معها كافة البشر، وليس الحكومات وعليه فإن عالم القرن الحادي والعشرين مهدد بالفناء نتيجة التداعي البيئي والتغيرات المناخية المدمّرة. فمن ينقذه من المصير غير السعيد الذي ينتظره، والذي تساهم رغباته ونزواته في التعجيل بحدوثه؟
(عن صحيفة القدس العربي)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير المناخية البشر المناخ البشر درجة الحرارة مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة صحافة رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة درجات الحرارة درجة مئویة من خلال
إقرأ أيضاً:
عُمان التي أسكتت طبول الحرب
في ركنٍ من هذا العالم العربي الملتهب، حيث تتشابك مصالح الإمبراطوريات وتتصادم استراتيجيات الدول الكبرى على حساب الجغرافيا والتاريخ، هناك دولة اختارت طريقًا مختلفًا.
سلطنة عُمان هذه الواحة الهادئة وسط صحراء النزاعات لم تسمح لنفسها أن تكون بيدقًا في رقعة الشطرنج الدولية، ولم تُبدّد مكانتها في لعبة المحاور والاصطفافات، بل وقفت كـ«السيدة الحكيمة»، كما يسميها المراقبون، تمسح عن الوجوه غبار الحروب، وتفتح للخصوم أبوابًا لم يكونوا يتوقعونها.
في منطقة تتوزعها الرياح بين الطموح النووي الإيراني، والوجود الأمريكي الصارم، والاشتباك العربي المزمن، رفعت سلطنة عمان راية أخرى: راية «الاحترام المشترك»، و«الحوار قبل الضربة»، و«اليد الممدودة بدل الإصبع على الزناد».
وهنا، يكمن الاستثناء العُماني: دولة لم تُقامر يومًا بدماء جيرانها، ولم تبنِ مجدها على ركام الدول الأخرى. بل آمنت أن دورها الحضاري ليس بالتحالف مع الأقوى، بل بالوقوف على مسافة واحدة من الجميع.
في السادس من مايو، بينما كانت شاشات الأخبار تغرق في صور الانفجارات، وبينما كانت المؤشرات تنذر بتوسّع خطير في الصراع الدائر بين جماعة أنصار الله والتهديدات أمريكية المتصاعدة تجاه استهداف الملاحة الدولية في البحر الأحمر، خرجت مسقط باتفاق ناعم لكنه جلل: وقف إطلاق نار مؤقت بين واشنطن وصنعاء، يضمن سلامة الملاحة، ويمنح للسلام فرصة ليلتقط أنفاسه.
ولم تكن هذه المبادرة وليدة لحظة، بل هي نتيجة شهور من الحوار الصامت الذي أجرته سلطنة عُمان، بهدوء، بعيدًا عن الأضواء، في قنوات خلفية لا تعتمد على التصعيد، بل على بناء الثقة، حجرةً بعد حجرة.
لكن الأمر لم يتوقف عند اليمن.
إذ حملت الأيام التالية مفاجأة أكبر: إيران تُعلن موافقتها على مبادرة عُمانية لاستضافة جولة رابعة من المفاوضات مع الولايات المتحدة.
في وقتٍ كانت فيه التوترات تنذر بالانفجار، وبين تحركات بحرية ومواقف سياسية حادة، قررت طهران أن تستمع لصوت مسقط.
لماذا؟ لأن هذه الدولة التي لا تلوّح بالقوة، تملك ما هو أثمن من ذلك: تملك المصداقية.
لقد فهمت سلطنة عمان منذ بداية الجمهورية الإسلامية في إيران، ومنذ لحظة دخول الأساطيل الأمريكية للخليج، أن دورها ليس الوقوف في الضد، بل الوقوف في المنتصف، لا كحياد باهت، بل كوسيط نشط، بكرامة وهدوء.
فما الذي يجعل هذا البلد العملاق برسالته، ينجح فيما فشلت فيه دول كبرى، ذات أبواق وسفارات وميزانيات مهولة؟ الجواب، ببساطة، إنه لا يُمارس السياسة من أجل العنوان، بل من أجل الغاية.
ففي السياسة كما في الطب، لا يحتاج الطبيب الجيد إلى صخب، بل إلى يد ثابتة ونية خيّرة.
وهذا ما فعلته سلطنة عُمان.
اقتربت من الجراح وهي تهمس لا تصرخ، ووضعت الضمادة لا الحطب.
لقد وُلدت هذه الفلسفة من تاريخ طويل في العلاقات الإنسانية والسياسية.
فسلطنة عُمان، التي تفتح أبوابها للحجاج والدبلوماسيين على حد سواء، تعرف أن الكلمة الطيبة تُغيّر العالم أكثر مما يفعل الرصاص.
عرفت ذلك عندما وقفت على مسافة متزنة من كل صراعات المنطقة، وعندما شاركت في مساعي الاتفاق النووي مع إيران، وعندما رفضت أن تدخل تحالفات استنزفت الدول وأغرقتها في الرمال.
عُمان لا تُراهن على النصر، بل على النُبل.
لا تُقايض بالتحالفات، بل تُبادر بالثقة.
لا ترفع شعارات، بل ترسم جسورًا.
وفي لحظةٍ يخشى فيها العالم اندلاع حربٍ جديدة بين قوى كبرى، تُطفئ مسقط الشرارة قبل أن تصبح نارًا.
تجمع طهران وواشنطن تحت سقف واحد، لا لتفرض رأيًا، بل لتفتح نافذة.
هذا المقال ليس تمجيدًا لدبلوماسية، بل احتفاء بأخلاق دولة.
بدولةٍ فهمت أن القيادة لا تحتاج صراخًا، بل رقيًّا.
وأن التاريخ لا يخلّد الأصوات العالية، بل الأفعال العظيمة التي تمشي على أطراف الأصابع.
تحية إلى عُمان، دولة الأفعال الهادئة التي كلما اقتربت الحرب، قررت أن تكتب فصلًا جديدًا للسلام.