تجريم الهوية الفلسطينية في أميركا.. شباب يتحدى سياسة قمع الأفواه
تاريخ النشر: 5th, July 2024 GMT
في الأشهر التسعة المنصرمة، شنت السلطات الوطنية والمحلية في الولايات المتحدة حملة شرسة لقمع النشاط الفلسطيني وتجريم أي تعبير عن الهوية الفلسطينية. امتدّت هذه الحملة القمعية لتطال شتى مناحي الحياة، من السياسة والأعمال إلى المجتمع المدني والتعليم العالي والثقافة.
تجلت هذه الحملة في صور شتى: قمع الاحتجاجات السلمية بيد قوات الأمن، وتوجيه اتهامات جزافية بمعاداة السامية للمتظاهرين، بل بلغ الأمر حد وصف بعض الشخصيات العامة – بسخرية مريرة – ارتداء الكوفية الفلسطينية واستخدام مصطلح "الانتفاضة" بأنهما إيماءة إلى "محو إسرائيل من الخريطة".
إن هذا السعي المحموم لطمس الهوية الفلسطينية يكشف عن رغبة إسرائيل وحلفائها الأميركيين في محو الفلسطينيين من صفحات التاريخ. فبينما يتصدى الفلسطينيون للهجمة العنصرية الأميركية الإسرائيلية، فإنهم يفرضون في الوقت ذاته نقاشًا جادًا حول الجذور التاريخية والفلسفة الاستعمارية الاستيطانية لإسرائيل والحركة الصهيونية التي أنجبتها. إن إسرائيل والصهيونية تتهاويان أمام هذا التدقيق المنهجي في أسسهما وممارساتهما.
لعل أبرز محاولات إسكات الصوت الفلسطيني، تجلت في قضية ربيع إغبارية، المحامي الفلسطيني والباحث القانوني المرموق. ففي نوفمبر/تشرين الثاني، أقدمت مجلة هارفارد لو ريفيو (Harvard Law Review) على خطوة غير مسبوقة بحجب مقال كُلف به إغبارية، قدم فيه النكبة كإطار قانوني لفهم القضية الفلسطينية. أُزيل المقال بعد أن مرّ بمراحل التحرير والتدقيق والموافقة من هيئة تحرير المجلة.
لم تقف المحاولات عند هذا الحد، فبعد هذه الحادثة، تواصل محررو مجلة كولومبيا لو ريفيو (Columbia Law Review) مع إغبارية؛ لتكليفه بكتابة مقال آخر حول فلسطين. وبعد خمسة أشهر من العمل الدؤوب والتحرير المكثف، نشرت المجلة المقال بعنوان "نحو النكبة كمفهوم قانوني". بيد أن ردود الفعل العنيفة لم تتأخر، إذ أُغلق الموقع الإلكتروني للمجلة، وتعرض المحررون لضغوط هائلة لحذف النص، بل وصل الأمر إلى حد التهديد بوقف كل أعمال المجلة.
إن مصير كتابات إغبارية في اثنتين من أعرق المجلات القانونية في الولايات المتحدة، يجسد بجلاء الصراع المحتدم بين من يسعون لتكريس الرواية الإسرائيلية، ومن يصرّون على إسماع صوت الحقيقة الفلسطينية.
عندما استُفسر من إغبارية عن جوهر قضيته، تحدّث بعمق عن الأبعاد الاستعمارية لنشأة إسرائيل، والنكبة، والنضال المستمر من أجل الحقوق الفلسطينية قائلًا: "إن محو الوجود الفلسطيني ليس مجرد حدث عابر، بل هو واقع بنيوي ومادي لا يمكن تصوره. إنه مسلسل مستمر منذ النكبة، يتجلى في تهجيرنا وطردنا واستبدالنا بشكل ممنهج. ويمتد هذا المحو ليشمل تكميم أفواه الفلسطينيين في الولايات المتحدة والغرب، واستبعاد أي رأي مخالف. إن مقالتي تسعى لتفكيك الهياكل القانونية المنبثقة عن النكبة، والتي تنظر إلى الفلسطينيين كفئات متفرقة يتم إخضاعها بشكل منفصل".
وأضاف إغبارية بنبرة تفيض أملًا: "إن محاولات الرقابة والقمع تُواجَه بموجة من الاحتجاجات والمقاومة. فالقضايا القانونية، والاحتجاجات الشعبية، وغيرهما من الإجراءات المتخذة لحماية الفلسطينيين في وجه المذبحة غير المسبوقة التي نشهدها، هي جزء لا يتجزأ من الحركة المتنامية للدفاع عن حقوقنا. إن الناس باتوا يدركون، بشكل متزايد، زيف الدعاية المضادة. لقد كشف النضال الفلسطيني عن التسلسل الهرمي الاستعماري العالمي في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي تجذر في النظام القانوني العالمي".
يشير عبد الله فياض، الذي انتقل مؤخرًا من هيئة تحرير بوسطن غلوب (Boston Globe) إلى فوكس (Vox) كمراسل سياسي، إلى أن الأدوات المتعددة المستخدمة لتكميم أفواه الفلسطينيين في الولايات المتحدة وخارجها يجب أن توصف بمسماها الحقيقي: "العنصرية المناهضة للفلسطينيين".
ويضيف فياض: "إنها، شأنها شأن كافة أشكال العنصرية، تستغل قوة المؤسسات والدولة ضد الأفراد والجماعات، بهدف قمع التعبير الفلسطيني عن هويتهم وحقوقهم. بيد أن هذه الكراهية الموجهة ضد الفلسطينيين وحلفائهم محكوم عليها بالزوال في نهاية المطاف. فالرأي العام بدأ يستشف الحقيقة، في الوقت الذي يواصل فيه الفلسطينيون وأنصارهم مقاومة الاتهامات الباطلة والمغرضة".
أبرز فياض في مقال نُشر حديثًا أن هذه الظاهرة سبقت الحرب على غزة بزمن طويل، إذ واجه الفلسطينيون ومناصروهم في شتى أنحاء المعمورة على مدى عقود متتالية عواقب وخيمة لتأييدهم القضية الفلسطينية العادلة، ومن ذلك الانتقام في مواطن العمل، والمراقبة الحكومية الصارمة، وجرائم الكراهية البغيضة.
وتتجلى صور العنصرية المؤسسية المناهضة للفلسطينيين في حالات عديدة، منها مراقبة الحكومات للفلسطينيين والمنظمات المؤيدة لهم، وكذلك المؤسسات كالجامعات التي تقمع الاحتجاجات المناصرة للفلسطينيين في الآونة الأخيرة، بما في ذلك منع المتحدثين من إلقاء كلماتهم في حفلات تخرج الطلاب.
أما الأستاذ في كلية بروكلين، مصطفى بيومي، فيرى أن للمشاعر المعادية للفلسطينيين تأثيرًا يتجاوز حدود المجتمع الفلسطيني والقضية الفلسطينية في الولايات المتحدة. وقد كتب في مقال نُشر مؤخرًا في صحيفة الغارديان (The Guardian) أن معاداة الفلسطينيين كانت تغذي كراهية الإسلام المؤسسية في الولايات المتحدة لعقود طويلة، حيث بذلت السلطات الأميركية جهودًا حثيثة في مراقبة وقمع أي تنظيمٍ عربي أميركي مؤيد للفلسطينيين منذ عام 1967.
إن حملة القمع الراهنة ضد الأصوات والنشاط المؤيدَين للفلسطينيين ما هي إلا تتويجٌ لتلك الجهود التاريخية المتواصلة. ومن المثير للدهشة أن يكون دور الولايات المتحدة في هذا الصدد انعكاسًا لما شهده العالم قبل قرن من الزمان، حين انحازت القوة الإمبراطورية آنذاك، بريطانيا العظمى، إلى الحركة الصهيونية وساعدتها في السيطرة على فلسطين بأكملها، مما أدى إلى تغييب أغلبيتها العربية الفلسطينية الأصيلة.
ففي عام 1917، أصدرت الحكومة البريطانية وعد بلفور المشؤوم الذي تعهد بدعم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، التي كان 93% من سكانها آنذاك من العرب الفلسطينيين. وفي عام 1920، منحت عصبة الأمم بريطانيا الانتداب على فلسطين، مما أتاح لها، إلى حد كبير، تشكيل المجتمع وفق أهوائها وتجاهل حقوق ومصالح الأغلبية الفلسطينية الساحقة.
ويبدو أن الولايات المتحدة تسير اليوم على خُطى بريطانيا بالأمس، فباعتبارها القوة الإمبريالية الرائدة في الغرب، فإنها تتجاهل الحقوق الفلسطينية المشروعة، وتدعم سياسات الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، بل وتحميها في المحافل الدبلوماسية الدولية، وتتواطأ معها لتجريم وإسكات الأصوات الفلسطينية الحرة.
بيد أنه مثلما واجه الدعم الإمبريالي البريطاني للصهيونية مقاومةً عنيدة في القرن الماضي، كذلك يواجه الدعم الأميركي اليوم مقاومةً غير مسبوقة من قِبَل الفلسطينيين وحلفائهم الأميركيين والعالميين. ويشمل ذلك الاحتجاجات العامة، والمقالات الإعلامية والأكاديمية التي يسطرها علماء مرموقون، والتحديات القانونية على الصعيدين الوطني والدولي، وتحالفات التضامن مع الفئات المهمشة في المجتمع الأميركي، بمن في ذلك السود، واللاتينيون، واليهود التقدميون، والسكان الأصليون، والطلاب، وغيرهم من شرائح المجتمع.
إن هذه التعبئة واسعة النطاق في الولايات المتحدة ضد العنصرية والقمع المناهض للفلسطينيين تُعد الآن واحدة من المحركات الرئيسية للحركة العالمية للتضامن مع فلسطين وشعبها المكلوم.
وكما كتب بيومي بحكمة: "من الأهمية بمكان أن الشباب الأميركيين المسلمين واليهود الذين يتصدرون الحركات الاحتجاجية اليوم يُعيدون الحقوق الفلسطينية إلى صلب النضال من أجل دحر الإسلاموفوبيا. لماذا؟ … من أجل الحرية. يدرك هؤلاء الشباب الواعون أن تحرير الولايات المتحدة من تحيزاتها المعادية للمسلمين واليهود يتطلب حتمًا تحرير الشعب الفلسطيني من نير الاضطهاد الجاثم على صدره. وهذا ليس موقفًا ظرفيًا فحسب، بل إنه درسٌ عميق في كيفية التغلب على القمع والظلم في شتّى أرجاء المعمورة".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات فی الولایات المتحدة
إقرأ أيضاً:
قبة ترامب الذهبية.. سلاح يحمي أميركا أم فقاعة تسويقية؟
"العالم مكان شرير جدا، وهذه [القبة] ضرورية لبقاء وطننا".
بهذه الكلمات تحدث الرئيس الأميركي دونالد ترامب وهو يقف في المكتب البيضاوي في العشرين من مايو/أيار الماضي، وكان يحمل في يديه ملفًّا لامعًا أسود اللون، يقرأ منه، وفي الخلفية لوحة تبدو مصممة بالذكاء الاصطناعي لقبة باللون الذهبي تحيط بخريطة الولايات المتحدة الذهبية كذلك، وتتجه إليها صواريخ معادية من الجو ومن سفن في المحيط، وفي أسفل اللوحة كُتب بخط أبيض ذهبي "قبة ذهبية من أجل أميركا".
قدّم ترامب مبرره لإطلاق مشروع القبة الذهبية، فتحدث عن عالم شرير جدًّا، حيث تلوح التهديدات من روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران، في الأفق. أما إجابته عن هذا التهديد فكانت كوكبة من الأقمار الصناعية واعتراضات فضائية بقيمة مليارات الدولارات، صُممت لحماية البلاد بأكملها من الصواريخ أثناء تحليقها. بالنسبة لترامب، لم يبد هذا مجرد مشروع دفاع، بل نبوءة يسعى لتحقيقها.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الوحش "إف-47".. لماذا تأخر تحليق المقاتلة الأميركية الأشرس على الإطلاق؟list 2 of 2الصاروخ الفرط صوتي كفيل بتدميرها.. هل انتهى عصر حاملات الطائرات العملاقة؟end of listصوّر ترامب نفسه على أنه "ريغان العصر"، مستحضرًا روح مبادرة الدفاع الإستراتيجي التي تُعرف بحرب النجوم. لكنه هذه المرة يعد بتحقيق ما فشل ريغان سابقًا في تحقيقه. ففي سياق عرضه لمشروع القبة الذهبية، قال: "ريغان حلم ببناء شيء مشابه، لكن لم تكن لديه التكنولوجيا. أما الآن، فتمتلك الولايات المتحدة تكنولوجيا خارقة".
في رؤيته، لن تعتمد أميركا على الردع وحده، بل ستقوم بتحييد التهديدات قبل أن تتشكل عبر نظام صاروخي تُقدَّر تكلفته بنحو 175 مليار دولار، يهدف إلى إنشاء شبكة واسعة من الأقمار الصناعية، بغرض رصد وتتبع واعتراض التهديدات الصاروخية التي قد تواجه الولايات المتحدة، بما في ذلك الصواريخ الفرط صوتية، والصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والأسلحة النووية، سواء أُطلقت من الأرض أو من الفضاء.
وفضلًا عمّا تحمله كلمات ترامب من مضامين مباشرة، فلا يمكن تجاهل كيف يقدم نفسه على أنه "منقذ" يوفّر الحماية لأميركا، ضمن نهج شعبوي لا يكتفي بتسويق المشروع بوصفه ضرورة عسكرية، بل يوظف لغة التخويف من الأعداء الأشرار في الخارج.
إعلانلا تخلو مبادرة "القبة الذهبية" من مبررات إستراتيجية حقيقية. إذ تشعر المؤسسة العسكرية الأميركية بقلق متزايد من تطور ترسانة الصواريخ الحديثة لدى خصومها، مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية، وحتى إيران، وتحذّر من أن أنظمة الدفاع الحالية لم تعد كافية لمواكبة هذه التهديدات المتقدمة.
فالمنظومة الدفاعية الباليستية القائمة في الولايات المتحدة، تعتمد حاليًّا على أربعين صاروخًا اعتراضيًّا متمركزًا في قاعدة فورت غريلي بألاسكا، إلى جانب أربعة أخرى في قاعدة فاندنبورغ بولاية كاليفورنيا. وقد أُنشئت هذه المنظومة قبل أكثر من عشرين عامًا، بهدف التصدي لهجمات محدودة أو غير متوقعة، لا لمواجهة الترسانات الإستراتيجية الكاملة لدول كبرى.
ومن هنا، يُقدَّم المشروع أيضًا باعتباره استجابة عملية لحاجة ملحّة، وليس مجرد مناورة دعائية. فالبنتاغون صنّف الهجمات الصاروخية البعيدة المدى ضمن "أخطر التهديدات الكارثية" التي تواجه البلاد، وقد جاء أمر ترامب بإعداد خطط لدرع دفاعي جديد خلال أسبوعه الأول من ولايته، ردًّا مباشرًا على هذا التقدير.
لكن درامية اللحظة حجبت واقعًا أعمق، يتضمن حدودًا تقنية، وتكاليف فلكية، وأخطار جيوسياسية. يقول الخبراء إن نافذة اعتراض الصاروخ المهاجم في مرحلته الأولى لا تتجاوز بضع دقائق، وتتطلب تمركز أنظمة الاعتراض بالقرب الشديد من مواقع الإطلاق. أما البنتاغون، فيتوقع مجرد تجربة تلك الأسلحة الفضائية في عام 2028، لا تنفيذ المشروع بأكمله أو جعل الصواريخ الفضائية جاهزة في مداراتها.
حلم أميركي مُكلِّفيرتكز مشروع القبة الذهبية على تطوير منظومة دفاع صاروخي متعددة الطبقات، تجمع بين قدرات أرضية وبحرية وفضائية ضمن هيكل متكامل، يهدف إلى التصدي لطيف واسع من التهديدات الصاروخية. ويتضمن التصور بناء شبكة كثيفة من الأقمار الصناعية والمستشعرات المتقدمة، لرصد أي إطلاق صاروخي معادٍ في لحظاته الأولى، إلى جانب منظومات اعتراض فضائية قادرة على تدمير الصواريخ المعادية في مراحل طيرانها المختلفة.
لهذا الغرض يجري تطوير أجهزة استشعار فضائية متقدمة، من بينها نظام التتبع الفضائي للصواريخ الباليستية والفرط صوتية (HBTSS)، التابع لوكالة الدفاع الصاروخي الأميركية، الذي يُنتظر أن يزوّد المنظومة ببيانات فورية عن أي تهديد صاروخي بمجرد رصده.
أما عن قدرات الاعتراض، فمن المتوقع أن تجري الاستعانة بمنظومات متنوعة، تشمل صواريخ أرضية مثل "باتريوت" و"ثاد"، ومنظومات بحرية تُطلق من السفن، إلى جانب مكونات فضائية تشمل تقنيات اعتراض وأسلحة طاقة موجهة.
فوفقًا للجنرال ب. تشانس سالتزمان، رئيس عمليات الفضاء في قوة الفضاء الأميركية، لا تعد "القبة الذهبية" مشروعًا منفردًا، بل تُصنَّف باعتبارها "منظومة أنظمة"، تمزج بين الدفاعات الصاروخية الحالية وهيكلية جديدة طموحة، وتعتمد على أقمار صناعية في مدار أرضي منخفض ومستشعرات رادارية، علاوة على صواريخ اعتراض حركية، مع احتمالات لاستخدام أسلحة تعتمد على الليزر المحمول في الفضاء.
يتيح ذلك التعامل مع التهديدات عبر أربع مراحل، بدءًا من محاولة الاكتشاف والتدمير قبل الإطلاق، ثم الاعتراض في المراحل الأولى للطيران، يلي ذلك التصدي أثناء تحليق الصاروخ في منتصف المسار، وأخيرًا اعتراضه في اللحظات الأخيرة قبل بلوغ الهدف.
إعلانجدير بالذكر أن الصواريخ الباليستية العابرة للقارات تمر بثلاث مراحل طيران، الأولى هي مرحلة التعزيز أو الدفع، حيث ترتفع بسرعة عالية بفضل محركاتها، ثم مرحلة منتصف المسار، التي يتم فيها التخلص من المحركات وإطلاق الرؤوس الحربية عاليا، قبل أن تبدأ في الهبوط في قوس تحت تأثير الجاذبية وحدها، هو ما يُعرف بالحركة الباليستية، ومن هنا جاءت تسميتها.
ويتضمن تصور القبة الذهبية تخصيص أدوات دفاعية لكل مرحلة من مراحل الصواريخ الباليستية. ففي مرحلة التعزيز، تُستخدَم مركبات فضائية لاعتراض الصاروخ في بداياته، وتتمثل فكرة هذه المركبات في نشر أنظمة اعتراض صغيرة في مدار أرضي منخفض، تعتمد على الاعتراض الحركي عن طريق الاصطدام المباشر بالصاروخ المعادي، دون الحاجة لرؤوس متفجرة، بما يوفر فرصة تدمير الصاروخ خلال مرحلة الدفع الحراري الأولية، التي يكون فيها مرئيًّا حراريًّا وسهل التتبع.
أما في مرحلة منتصف المسار، فتعتزم الولايات المتحدة توسيع منظومة الدفاع الأرضي المتمركزة في قاعدة فورت غريلي بولاية ألاسكا، التي تعتمد على الجيل الجديد من الصواريخ الاعتراضية. كما توفر منظومة إيجيس المنتشرة على متن السفن الحربية وفي مواقع برية ثابتة تغطية إضافية، أثناء مرحلة ما بعد الدفع وقبل إعادة دخول الصاروخ إلى الغلاف الجوي.
وفي المرحلة النهائية من مسار الهجوم الصاروخي، حين تعاود الرؤوس الحربية المعادية دخول الغلاف الجوي أو تقترب من أهدافها النهائية، سوف تتولى أنظمة مثل ثاد وبطاريات باتريوت مهام الاعتراض الأخير. ومن خلال هذا التوزيع المتعدد الطبقات، يسعى مشروع القبة الذهبية إلى توفير فرص متكررة ومرنة لاعتراض التهديدات في مختلف مراحل طيرانها.
وبينما توقّع الرئيس الأميركي أن يكون المشروع جاهزًا قبل نهاية ولايته الحالية في يناير/كانون الثاني 2029، يرى مسؤولون مطّلعون أن هذا الجدول الزمني قد يكون مفرطًا في الطموح، مرجّحين الاكتفاء بقدرات أولية فقط بحلول ذلك التاريخ.
كما تشير التقديرات إلى أن التكلفة الفعلية للمشروع قد تتجاوز بكثير الرقم المعلن. فبحسب مكتب الميزانية في الكونغرس، قد تتطلب المكونات الفضائية وحدها ما يزيد على 542 مليار دولار خلال عقدين، في حين يذهب بعض المحللين إلى تقديرات أعلى، قد تصل إلى 831 مليار دولار، بل ربما تريليونات، وذلك اعتمادًا على مدى توسّع المشروع وتكاليف تشغيله وصيانته على المدى الطويل.
جعل ذلك السيناتور إد ماركي من ولاية ماساتشوستس يصف الخطة في الكونغرس بأنها ذهب مغشوش، محذرًا من أنها ستُكلف دافعي الضرائب مئات المليارات، أو حتى تريليونات الدولارات، مع إطلاق سباق تسلح جديد بين القوى العالمية. ولعل ماركي كان يقصد سباقًا مثل ذلك الذي أفلس الاتحاد السوفياتي وأدى إلى سقوطه وتفككه ونهاية الحرب الباردة بإعلان جمهورية روسيا الاتحادية.
وفضلًا عن تكلفته الباهظة واحتمال تجاوزه الإطار الزمني المتوقع لتنفيذه، يواجه المشروع انتقادات واسعة باعتباره مشروعًا غير قابل للتطبيق ويفتقر إلى جدوى إستراتيجية واضحة، حتى وصفه البعض بأنه "حفرة مالية" ستورثها الإدارة الحالية لخلفها.
ورغم الربط الخطابي بين القبة المزمع إنشاؤها والقبة الحديدية الإسرائيلية، فإن هذا التشبيه يفتقر إلى الدقة، فحماية إسرائيل، ذات المساحة المحدودة من تهديدات قصيرة المدى، لا تُقارن بتأمين دولة بحجم الولايات المتحدة من صواريخ إستراتيجية معقدة.
فبينما تعتمد القبة الحديدية على صواريخ قصيرة المدى لاعتراض مقذوفات بدائية ضمن نطاق جغرافي ضيق، تتطلب القبة الذهبية تقنيات اعتراضية تفوق سرعتها عدة أضعاف الصوت، وشبكة واسعة من المنصات الفضائية، لمواجهة صواريخ عابرة للقارات وفرط صوتية ومنظومات قصف مداري، وذلك فضلًا عن تغطية مساحة الولايات المتحدة كاملة، وهي التي تفوق مساحة الأراضي التي تحتلها إسرائيل بأكثر من 444 ضعفًا.
إعلانويكمن التحدي الأكبر في السرعة والمسار غير المتوقع لمثل تلك التهديدات، إضافة إلى الحاجة لزمن استجابة شبه لحظي. لذلك، يُحذر الخبراء من المقارنة بين المنظومتين، مؤكدين أن نجاح نظام تكتيكي محدود لا يعني إمكانية بناء درع يغطي قارة بأكملها.
وفقا لذلك، فإن الاعتماد على فكرة الاعتراض في مرحلة الإطلاق، أو ما يُعرف بمرحلة التعزيز، يعدّ من أبرز نقاط الضعف في تصميم المنظومة. فرغم أن هذه المرحلة تُعد مثالية من الناحية النظرية، لأن الصاروخ يكون بطيئًا نسبيًّا ومرئيًّا بوضوح بسبب انبعاثات المحرك، فإن النافذة الزمنية المتاحة للاعتراض قصيرة للغاية (خلال أول دقيقتين)، وتستلزم وجود منصة اعتراض على مسافة قريبة جدًّا من موقع الإطلاق.
وتشير التسريبات إلى أن الرهان على تنفيذ عملية اعتراض من المدار الفضائي خلال هذه الثواني "الذهبية" لا يزال في طور التطوير، ويُحتمل ألا يكون قابلًا للتطبيق خلال السنوات القريبة، نظرًا إلى ما يتطلبه من دقة استثنائية وقدرات طاقة لم تُحقق بعد.
كما تبرز أيضًا معضلة العدد والتغطية. فلكي تتمكن الولايات المتحدة من حماية نفسها من هجوم واسع النطاق، مثل إطلاق عشرات الصواريخ الباليستية في وقت واحد، سوف يتطلب الأمر نشر أعداد ضخمة من منصات الاعتراض الفضائية.
وقد قدّر تقرير الجمعية الفيزيائية الأميركية، أن مجرد التصدي لأربعة صواريخ باليستية تُطلق في وقت متزامن يحتاج إلى أكثر من 1600 صاروخ اعتراض في المدار، مما يفتح الباب أمام تساؤلات حول إمكانية تصنيع هذا العدد الهائل وإطلاقه وتشغيله وصيانته في الوقت المطلوب. وإذا كانت التهديدات المحتملة تشمل مئة صاروخ نووي أو أكثر، فإن البنية المطلوبة للدفاع قد تتطلب آلاف الأقمار الصناعية، وهو ما يعني تكاليف باهظة واستبدالًا دوريًّا مستمرًّا، بالنظر إلى محدودية العمر التشغيلي لتلك الأقمار.
أما في المرحلة النهائية من مسار الصاروخ، حين يدخل الرأس الحربي الغلاف الجوي ويهبط نحو هدفه، فلا تتجاوز المدة المتاحة للاعتراض دقيقة واحدة، وهو ما يجعل استخدام هذه المرحلة ركيزة أساسية للدفاع أمرًا غير عملي، إذ تتطلب الصواريخ الاعتراضية التمركز على مقربة شديدة من نقاط الاصطدام المحتملة، وهو ما قد يكون مناسبًا كطبقة دفاعية لحماية مواقع إستراتيجية محددة مثل القواعد العسكرية، لكنه لا يفي بمتطلبات حماية شاملة لدولة بحجم الولايات المتحدة.
سنوات ترامب لن تكفيبناء على ذلك، تعد مرحلة منتصف المسار حجر الأساس في النظام الدفاعي الصاروخي الأميركي القائم، وتُدار عبر منظومة الدفاع الأرضي المعتمدة على 44 صاروخًا اعتراضيًّا متمركزًا في ألاسكا وكاليفورنيا، وتستهدف اعتراض الصواريخ في الفضاء. صُمّمت هذه المنظومة بالأساس للتعامل مع عدد محدود من الصواريخ غير المتطورة، كالتي قد تُطلق من كوريا الشمالية، وبلغت تكلفتها نحو 60 مليار دولار. ورغم أن معدل النجاح المعلن في الاختبارات وصل إلى نحو 60%، فإن النقاد يشيرون إلى أن هذا الرقم يشمل تجارب أُجريت قبل أكثر من عقدين، وأن الاختبارات الحديثة سجلت أداءً أعلى نسبيًّا.
وبينما تركّز الأنظمة الحالية على التصدي للصواريخ الباليستية والفرط صوتية، فإن ساحة المعركة الحديثة تشهد تهديدات أخرى لا تقل تعقيدًا، وعلى رأسها الطائرات المسيّرة، التي أصبحت جزءًا ثابتًا من التكتيكات العسكرية، ويزداد استخدامها في النزاعات المنخفضة والمتوسطة الحدة. ورغم أن المشروع الأميركي يركّز -بالأساس- على التصدي للتهديدات الإستراتيجية، فإن الخطط الجديدة تشير إلى توسيع نطاق الدفاع ليشمل صواريخ كروز والطائرات المسيّرة الانتحارية، بما يضيف طبقات جديدة إلى المنظومة.
لكن هذا التوسّع يواجه تحديًا واضحًا من حيث التكلفة، إذ لا يبدو منطقيًّا من الناحية الاقتصادية استخدام صاروخ دفاعي عالي الثمن لاعتراض هدف منخفض التكلفة مثل المسيّرة. ومن هنا تنشأ الحاجة إلى تطوير تقنيات اعتراض أكثر مرونة واستدامة، تحقق التوازن بين الفعالية والتكلفة المعقولة، وهي معادلة لا تزال بعيدة عن التحقق في ظل تعقيدات البيئة التكنولوجية والعسكرية الراهنة.
أضف إلى ذلك أن فكرة امتلاك درع محكم ضد أي تهديد صاروخي، لا تزال في نظر كثير من الخبراء، فكرة أقرب إلى الطموح منها إلى الواقع، فمن بين أبرز السيناريوهات التي ربما تحول دون ذلك، "الإغراق الكثيف"، حيث تُطلق أعداد كبيرة من الصواريخ بشكل متزامن لإرباك الدفاعات وتجاوز طاقتها الاستيعابية. وبينما يمتلك خصوم الولايات المتحدة مثل روسيا والصين ترسانات تتيح تنفيذ هذا التكتيك، فإن احتمال اختراق الرؤوس الحربية تزداد كلما تعددت الأهداف، حتى لو كانت معدلات الاعتراض مرتفعة.
إعلانولا تقتصر نقاط الضعف على الكم، بل تمتد إلى النوع، إذ يمكن للخصوم استخدام شراك خداعية أو رؤوس كاذبة تخدع الرادارات وتستنزف الذخائر الدفاعية، في وقت تكون فيه كل ثانية حاسمة. كما تمثل الهجمات الإلكترونية والتشويش على الأقمار الصناعية خطرًا إضافيًّا، بالنظر إلى أن المنظومة تعتمد على شبكة مترابطة من الرادارات والمجسات والأقمار ومراكز القيادة، وأي خلل في هذا الترابط قد يؤدي إلى تعطيل كامل في الاستجابة الدفاعية.
فضلا عن ذلك، يواجه المشروع ضغوطًا فيما يتعلق بسلاسل التوريد والإنتاج، فخطوط تصنيع الصواريخ الدفاعية الأميركية تعاني بالفعل من ضغط هائل نتيجة النزاعات الحالية، وهناك تحذيرات من أن المخزون المتوفر قد لا يكفي لتلبية متطلبات المشروع، خاصة أن تصنيع الصواريخ الاعتراضية يتطلب سنوات.
أمام كل هذه المعوقات، يرى بعض المحللين أن إنجاز المشروع خلال ثلاث أو أربع سنوات، كما هو معلن، يبدو هدفًا غير واقعي، وقد يتطلب تحقيق قفزة تكنولوجية هائلة، أو تقديم تنازلات كبيرة في سقف الطموحات.
على جانب آخر، يثير الإعلان عن مشروع القبة مخاوف من انطلاق سباق تسلح جديد، خاصة من قبل الدول التي ترى نفسها مستهدفة ضمنيًّا، مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية، حيث اعتُبر المشروع تهديدًا مباشرًا لمعادلة الردع النووي، وهو ما سوف يدفع هذه الدول إلى مضاعفة ترساناتها النووية أو ابتكار وسائل هجومية أكثر تطورًا، فتكلفة الردع أو الهجوم عادة ما تكون أقل من تكلفة الدفاع.
على خلفية ذلك، عبرت موسكو وبكين عن رفضهما القوي للمشروع، محذّرتين من أنه يهدد مبدأ التكافؤ النووي ويحوّل الفضاء إلى ساحة معركة مفتوحة. واعتبرتا عسكرة المدار الأرضي خطوة تصعيدية تنتهك المبادئ التي طالما نظّمت استخدام الفضاء لأغراض سلمية. وأكدت الدولتان التزامهما بالتشاور واتخاذ تدابير مضادة بهدف الحدّ من التفوق الأميركي المطلق، في إشارة إلى احتمال إطلاق سباق تسلح فضائي غير مسبوق.
وعلى الصعيد العملي، يتوقع أن تكثف موسكو وبكين الجهود في تطوير وسائل اختراق المنظومات الدفاعية، سواء من خلال زيادة عدد الرؤوس على الصواريخ الباليستية، بحيث تُطلق كل منصة وابلًا من الرؤوس بما يتجاوز قدرة الدرع على الاعتراض، أو عبر تعزيز أعداد وأنواع الصواريخ الفرط صوتية ذات القدرة على المناورة والتخفي.
وقد تزيد الدولتان من تطوير صواريخ كروز نووية عابرة تحلق على ارتفاعات منخفضة بغرض الالتفاف على رادارات الدرع، أو حتى غواصات نووية مسيّرة تهاجم من اتجاهات غير تقليدية، مثل مشروع بوسيدون الروسي، وهو طوربيد يعمل بالطاقة النووية ومُصمم لضرب مجموعات حاملات الطائرات أو البنية التحتية الساحلية. ومن المرجح أن تحظى هذه المشاريع بأولوية أكبر، بما أن "القبة الذهبية" تُركز حصريًّا على الهجمات الجوية.
ومن بين الردود المحتملة، أن تعمد روسيا أو الصين إلى مضاعفة الاستثمار في الأسلحة النووية المضادة للأقمار الصناعية، وهي تقنيات قادرة على تدمير كوكبة كاملة من الأقمار الصناعية العسكرية الأميركية، وبالتالي تعطيل جزء كبير من شبكة القيادة والسيطرة والاتصالات.
ورغم أن استخدام هذا النوع من السلاح سيؤدي إلى أضرار جانبية هائلة، تشمل تدمير العديد من الأقمار الصناعية المدنية وإحداث اضطراب واسع في البنية التحتية الرقمية والاقتصادية على الأرض، فإن تكلفة الفوضى الفضائية قد تُعتبر مقبولة إذا كان البديل هو خسارة حرب نووية. وعليه، فإن خيار التصعيد في الفضاء الخارجي رغم أخطاره الجماعية، قد يُطرح بقوة إذا شعرت موسكو أو بكين بأن ميزان الردع أصبح مهددًا بشكل جذري.
بدورها، نددت كوريا الشمالية بالمشروع واعتبرته سيناريو محتملًا لحرب نووية تُدار من الفضاء الخارجي. ووصفت وزارة خارجيتها القبة بأنها مبادرة خطيرة تهدف إلى عسكرة الفضاء والحصول على تفوق عسكري بشكل استباقي من جانب الولايات المتحدة.
كما أكدت بيونغ يانغ أن ترسانتها النووية غير قابلة للتفاوض، في إشارة إلى أن ردّها على هذا المشروع سيتخذ شكل تعزيز تلك الترسانة على المستويين الكمي والنوعي، مما يرجح استخدامها القبة الأميركية ذريعةً لتشديد موقفها التفاوضي.
منع الحروب أم تغذيتها؟ويمتد تأثير القبة الأميركية إلى ما هو أبعد، إذ يمسّ جوهر عقيدة الولايات المتحدة العسكرية ويغير من طبيعة ما اعتادته من قواعد الردع والدفاع. فقد اعتمدت واشنطن، منذ الحرب الباردة، على مبدأ الردع النووي، القائم على التهديد بالانتقام في حالة تعرضها لهجوم شامل، مما جعلها تتردد في شن ضربة استباقية على أي من خصومها النوويين، لكن تطوير درع دفاعي مثل القبة الذهبية ربما يغير هذه الحسابات، إذ يمنح صُناع القرار ثقة أكبر ويقلل من مخاوفهم حيال الردود، وهو ما قد يدفعهم إلى تبنّي مواقف هجومية أكثر جرأة.
وهذا ما تخشاه الصين وروسيا، حيث تعتبران المشروع تمهيدًا لتفوق عسكري أميركي أحادي، يزيد من احتمالات شنّ واشنطن ضربة أولى، اعتقادًا منها أنها قادرة على حماية نفسها من أي ردّ. وبالتالي، قد تنخفض العتبة النووية لدى الخصوم، أي يصبح استخدام السلاح النووي أكثر احتمالًا في مراحل مبكرة من الأزمات، ليس عبر حرب شاملة بالضرورة، بل وسيلة لاستعادة التوازن أو توجيه إنذار رادع قبل فوات الأوان. حينها، يتحول السلاح النووي من "خيار أخير" إلى أداة ضغط تكتيكية، مما يزيد خطر الانزلاق إلى تصعيد نووي غير محسوب.
وبينما يرى البعض أن تطوير القبة الذهبية قد يفتح شهية واشنطن على مزيد من التدخلات الخارجية، باعتبار أنها أصبحت أقل عُرضة لردود الخصوم، يرى آخرون أنه قد يعزز النزعة الانعزالية داخل الولايات المتحدة، إذ يغذي شعورًا عامًّا بأن البلاد أصبحت في مأمن، وهو ما يقلل من دوافع نشر القوات في الخارج.
وقد يوظف أنصار ترامب هذا الإحساس، لتبرير تقليص الوجود العسكري العالمي والدفع نحو مراجعة عقيدة الانتشار. وإذا أصبحت الأراضي الأميركية محمية بدرع دفاعي شامل، فقد يتراجع الاعتماد على تحالفات تقليدية مثل الناتو أو القواعد في آسيا، ويبدأ الحلفاء طرح تساؤلات حول مدى التزام واشنطن بالدفاع عنهم في حال لم تعد مهددة بشكل مباشر.
هذه الهواجس قد تدفع بعضهم للمطالبة بمظلة دفاعية مماثلة أو بضمانات أمنية إضافية، على غرار طلب كندا التي أعربت عن رغبتها في الانضمام إلى القبة فور إعلان ترامب الأخير.
والمحصلة، أن القبة الذهبية ربما تعيد رسم ملامح العقيدة الدفاعية الأميركية، لكنها تظل في الوقت الراهن أقرب إلى مشروع استعراضي طموح منها إلى قدرة عملياتية موثوق بها.
فبين فجوة التكنولوجيا والقيود الزمنية، وبين تصاعد الشكوك الدولية والردود العدائية، يظل مستقبل القبة معلقًا بين الرغبة في بناء درع يحمي الداخل، وأخطار أن يتحول هذا الدرع نفسه إلى أداة تُسرّع سباق التسلح وتزعزع الاستقرار العالمي بدلًا من أن تعززه.