لكل كاتب منا، ثمة صديق ضروري لا يكتب قصصًا أو شعرًا، وربما لم يقرأ في حياته كتابًا واحدًا بانتظام، لكنه يمتلك خبرة اجتماعية وخفة ظل، وتجارب، هو ضروري جدًا، لوجودنا ونصوصنا، هذا الصديق لديه حضور رهيب، ولمّاح بشكل لا يصدق، ولا يجامل، لكنه يحبنا، ويتابع ما نكتب، ويضع يديه على نقاط ضعفنا، ويحلل العلاقات بين كتاب وآخر وزمن وآخر، هذا الصديق لا يغار منك، ولا ينافسك على شيء، أما عن مهنته فربما يكون دهانًا أو حدادًا أو حارس مخازن وكالة الغوث أو بائعًا متجولًا أو رجل أعمال كبير، ربما يكون شخصًا ما لا نعرف عنه الكثير، ويخاطبك بالأستاذ، نجلس معه في مقهى، وحكاية تجر حكاية، يكون لديه موهبة الحكي، والسرد الشفوي، وطريقة طريفة لربط الأفكار ووضع نهاية مبهرة للحكاية.
في التاريخ العالمي الأدبي ثمة نماذج لهؤلاء، هنري مللر مثلا كان لديه العشرات من هؤلاء، وحكى عنهم في رواياته/ مذكراته العديدة، يقول: (لقد تعلمت من الحمقى والنكرات أكثر مما تعلمته من أساتذة الجامعات)، البرتغالي (ساراماغو) يتحدث بالتفصيل عن رجل سبعيني غامض من أصول إيطالية يعيش في لشبونة، غير حاصل على شهادة جامعية، يجلس باستمرار على مقعد لساعات يتأمل البحر قبل أن يرمي صنارته، لينتظر الفراغ: (تعلمت منه جماليات الفراغ، أن أعود بيدين خاسرتين، وصار صديقي، أهديته كتبي، وأعطاني ملاحظات يعجز عنها الأكاديميون والنقاد، وفي رواية من رواياتي كنت أكتبها حدثته عنها، أقترح أن أغير في مصير شخصية ما، أقتنعت بملاحظته، فحدث ما أراد).
نجيب محفوظ تحدث عن شخصيات بسيطة كان يلازمها وتلازمه في مقهى ريش، تعلّم منها واستلهمها أحيانًا. كذلك أدوار الخراط، حكى عن شخصيات شعبية جلس معها طويلًا ساهمت في تطوير كتابته وتعميقها.
هذا الصديق - الضرورة، لا تتوقف ضرورته فقط على إعطاء ملاحظات مفيدة للعمل الأدبي، هو خفيف الظل، وكريم ويحفظ السر، وناضج، ومحلل بارع للظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هكذا وصف محمود درويش صديقه رجل الأعمال المعروف في رام الله، الذي لم يكن يختار غيره ليسهر عنده، يتعشى، يلعب الشدة، وتنس الطاولة، قال درويش في جلسة طويلة في مقهى قبل وفاته بشهرين بما معناه (لا شيء يغنيني عنه، كلما جئت رام الله، من الضروري أن أراه وأحدثه عن رحلتي الى كوريا، ماذا رأيت، وما هو رأيي بطعامهم، وكيف هو إحساسي مع عادات الشعب الكوري، ولماذا تضايقت لسبب ما، وما هي القصائد التي قرأتها)، وحين سأل أحد الحاضرين محمودًا عن سبب اختيار هذا الشخص ليحكي له هذه الخصوصيات، أتذكر أنه قال بما معناه: (يسمع جيدًا، ذكي، محلل ماهر، طاهٍ ممتاز، مليء بالتجارب، ودمه خفيف وأمين).
لي صديق من هؤلاء اسمه محمد عدوي، مات قبل أشهر قليلة، يعمل دهّانا، لم يكمل المرحلة الثانوية، الكل في المقهى يحبه، لا يشتم أحدا، انتمى في شبابه لحزب يساري ثم خرج منه لا يعرف الى أين يذهب، يقرأ باهتمام ما يكتبه أصحابه، يعطي ملاحظات دقيقة، ويذكرنا بنصوص سابقة ربما كررناها، لكنه حفظًا لكرامتنا يبرر هذا التكرار بجدية الفكرة ورغبتنا في الشبع منها، أفتقد محمدًا كثيرًا، كان صديقي، وكنت أعرض عليه نصوصي قبل نشرها، كان يندهش حين يشعر بالاندهاش، ويصمت حين يشعر أن ثمة اهتزازًا هنا وهناك.
أفتقد قصص محمد عن حياته ولغته الشعبية التي يستخدمها، وسخريته من نفسه في مطبات حزبية، أفتقد ضحكته الجبارة، وهي تهزّ المقهى، وأفتقد عناده وصموده أمام المرض، كان يأتي الى المقهى حاملا تحت معطفه حقيبة، فيها وعاء يبول فيه كلما احتاج ذلك، وكان يحمل في قلبه حبًا كبيرًا يوزعه بعدالة على كل كتّاب المقهى.
عزيزي محمد: أعرف أنك الآن هناك، لكني أعرف أنك أيضا في نصوصي، شبحك يقف لي بالمرصاد بين سطر وآخر: (كن صادقًا مثل سمكة تسرع نحو الصنارة).
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
عصر محمد بن سلمان الجديد
حين علت أصوات التصفيق والتهليل في ربوع المملكة التي تشهد هذا العصر الذهبي، عاشت سوريا فرحة لا توصف عقب إعلان الرئيس الأمريكي رفع العقوبات عن سوريا بطلب من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، فقد امتزجت مشاعر الفرح بالامتنان، وجسّد السوريون أعمق معاني الشكر والتقدير لجهود سموه. ولم يكن العالم بمعزل عن هذه اللحظة التاريخية؛ فقد أبدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إعجابه الكبير بتلك الشخصية الاستثنائية التي جسدها الأمير محمد بن سلمان، منوهاً بحنكته وقوته في إدارة التحديات. وهكذا، كان ذلك اليوم أيقونة من الفخر السعودي، يتألق في وجدان السعوديين كما في عيون العالم أجمع، مجسداً صورة قائد ملهم يخطو بوطنه بثبات نحو مستقبل يليق بعظمته.
كان وصول الرئيس ترامب إلى المملكة، وإعلانه رفع العقوبات عن سوريا بناءً على طلب ولي العهد السعودي، بمثابة مقطوعة موسيقية مذهلة تلامس أعماق القلوب، تشد الأنفاس في تدرج إيقاعي ساحر يتسارع بخطى مدروسة نحو ذروته الباهرة. وكما في الأعمال الموسيقية العظيمة، بلغ هذا الحدث ذروته وسط حالة من الفخر والفرح العارم. لكن هذا الإيقاع الفريد لم يهدأ بعد، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، لا يزال السعوديون في ذروة احتفائهم، والسوريون والعرب في بهجة احتفالهم، والعالم في حالة من الترقب والإعجاب، يتابعون ما صنعه القائد الشاب برؤيته الحكيمة.
إن هذا الإنجاز لم يكن ليتحقق لولا توفيق الله أولاً، ثم الجهود الدؤوبة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، ومهندس الرؤية الأمير محمد بن سلمان، الذي سخر إمكانيات المملكة لخدمة القضايا العربية والإسلامية والإنسانية أجمع، وأثبت أن السعودية قادرة على أن تكون جسراً للتواصل والحوار بين الأمم، وصوتاً للسلام في المحافل الدولية. أثبت السعوديون، بقيادة الأمير الشاب محمد بن سلمان، أنهم رواد عصر جديد اسمه "عصر محمد بن سلمان الجديد"، عصر استخدام العلم والتقنية، عصر النهوض للتقدم والتحضر، عصر بناء الأسس الراسخة للوحدة والتآزر. هو عصر يرفض التفرقة والتحزبات، وينطلق نحو المستقبل بروح صانعة للأمجاد، بعيداً عن الشعارات الجوفاء التي لم تجر على المنطقة سوى الويلات والدمار، وأثقلت كاهلها بعظائم الأمور.
لقد برهن السعوديون أنهم ليسوا مجرد صفحة عابرة في تاريخ المنطقة، ولا رياحاً تهب سريعاً ثم تخمد، ولا جسوراً تتهاوى عند أول اختبار. لقد نهضوا بشعبهم وأمتهم من رماد الربيع العربي، من ويلات القتل التي دمرت الأوطان، ومن أهوال المذهبية والطائفية التي مزقت النسيج الاجتماعي، ليعيدوا رسم المشهد نحو مستقبل يحمل في طياته السلام والبناء والازدهار. أثبت السعوديون أن صناعة السلام والتقدم ليس مجرد أمنيات أو شعارات، بل يحتاج هذا السلام والتقدم لرجال أشداء يتجاوزون صغائر التفاصيل، ويرتقون نحو الرؤى الكبرى التي تصنع الوئام. وهذا ما حققوه بالأمس، عندما قدموا للعالم درساً في الإرادة والقدرة على تحويل التحديات إلى فرص، والمسارات المعقدة إلى طرق معبدة نحو المستقبل.
بقي القول، إن يوم الثالث عشر من مايو 2025 سيكون محفوراً في ذاكرة السعوديين والسوريين والعالم فهو يومٌ واصل فيه السعوديون كتابة قصتهم، وأشرقت شمس الأمل من قلب التحديات على السوريين. لقد أثبت السعوديون للعالم أجمع أنهم قادرون على تجاوز المحن وتحويل الصعاب إلى فرص، متسلحين بالعلم والتخطيط والعمل الدؤوب، بهذا النهج، تستمر السعودية في كتابة فصل جديد من نهضتها في ظل عصر محمد بن سلمان، فصل يحمل في طياته شعلة التقدم والسلام، وتخطو نحو العالم بثقة وثبات، مجسدةً أسمى معاني القيادة والرؤية الحكيمة.
قد يعجبك أيضاًNo stories found.