جريدة الرؤية العمانية:
2025-05-11@17:15:35 GMT

الطائفية: انسدادات العقل الإسلامي

تاريخ النشر: 22nd, July 2024 GMT

الطائفية: انسدادات العقل الإسلامي

 

 

مرتضى بن حسن بن علي

كان الصراع على الحكم -وبالتالي السياسة- أول صراع وأشد صراع وأقدم صراع في الإسلام. وكان السؤال المطروح بقوة في سقيفة بني ساعدة: أيُّهما يكون أميرا وأيهما يكون وزيرا؟ والإفرازات من تلك الصراعات جاءت بواسطة الموروثات الناتجة. ومحيط تلك الموروثات واسع ومتنوع ومناط خلاف في التقييم، وأنتج تعارضا في المفاهيم، وتُرجم ذلك في الصراعات الدموية التالية.

ومع مرور الوقت، لم يبقَ الموروث دون المساس به، بل طوَّره الوارث نحو الأرقى أو الانتكاس، إلى حالة مختلفة عن الأصل.

ليس الإسلام الصحيح ما يدعيه كل فريق لنفسه بصفته الإسلام الحقيقي وما عداه الكفر، بل هو مجموع ما يدعيه الفرقاء كلهم. إنَّ نبوة محمد إسلام، والخلفاء الراشدون إسلام، لكن سقيفة بني ساعدة أيضًا والمهاجرين والأنصار والفتنة الكبرى ومعارك القادسية والجمل وصفين والنهراوان وكربلاء والحرة والزاب الأسفل، هو جزء من تاريخ الإسلام. الإسلام الذي تمارسه هو أيضاً الإيمان بأهل البيت والدولة الأموية والعباسية والرستمية والفاطمية والعثمانية والصفوية ودولة الأشراف في الحجاز، وكل الدول التي تأسَّست وحكمت باسم الإسلام. كما هي الفِرق والنِّحل التى خرجت عليها وحاربتها بالفكر أو السلاح، والفقه الذي توارد على كتابته الفقهاء على اختلاف مدارسهم الفكرية ومذاهبهم والذي تكرّس فيه تناقضات المسلمين الناتجة عن خلافاتهم السياسية والمعرفية. هو أيضًا الحضارة الإسلامية مترامية الأطراف وتراثها الذي تحول إلى إرث نُقَاتل من أجله: من كان على حق ومن كان على باطل؟

عصر الحضارة الإسلامية انتهى في القرن التاسع الهجري، وتوقفت المدنية الإسلامية عن التطور، ودخل العرب في استعصائهم الذي أفرز صراعات مذهبية ما زالت تلازمهم. فمع وقف المتوكل العباسي الاجتهاد، تمَّت إقالة العقل وتحولت المدارس الفكرية الاجتهادية إلى مذاهب منغلقة تقاوم كل نزوع عقلي أو فلسفي وتوقفت حركة الترجمة تحت شعار مُحاربة البدعة.

وبعد سقوط بغداد، حصلت المذابح الأكثر عنفًا ضد النزوع العقلي، وصولا إلى القتل بين اتباع المذاهب الإسلامية ذاتها، وبينها والمذاهب الأخرى، واستمرت لأكثر من قرنين. أُحرقت كتب الترجمة وكل الكتب الداعية إلى النزوع العقلي، وامتدت المذابح إلى كل البلدان الإسلامية. كل مذهب يُقبّح الآخر ويتهمه بالخروج عن المِلَّة. وتواصلت المذابح بعد ذلك أيام الدولتين العثمانية والصفوية، بين السنة والشيعة من جهة، وبين السنة أنفسهم والشيعة أنفسهم من جهة أخرى.

الصراع الطائفي ظاهرة قديمة.. وقد شهدت أوروبا هذه الصراعات الدامية، لكنها تمكنت من مغادرة هذه الحقبة من الاحتراب التي حشرتهم فيها الكنيسة ومكّن ذلك الأوروبيين بالخلاص من هيمنة الكنيسة، كما مكّنهم من إعادة دراسة تاريخهم الملتبس مع أفكار وتفاسير الكنيسة، ومن دون إخضاعه لمبدأ القداسة وبمناهج حرة تعتمد على ما سمَّاه ابن خلدون بطبائع الأشياء أو ما يُمكن تسميته بقوانين التاريخ ونواميس الكون. وكانت النتيجة التقدم الأوروبي.

الصراع الطائفي لدى المسلمين، كما عند المسيحيين، له جذور سياسية واجتماعية وقبلية وعائلية واقتصادية، لكنه أُعطِي منحى طائفيًّا لكي يثبت ويستمر ويسهل استغلاله. وذلك لأسباب عديدة، بدأ الصراع يتصاعد في الشرق ويستمد وقوده من المخزونات البدائية الكامنة في تكوين مجتمعاتنا بشكل عام، كما يكمن بأولئك الذين يؤدلجون البسطاء من الطبقات الفقيرة، ويطفو على السطح بشكل بارز أيام الانفلات الأمني وغياب القانون. وتنفجر كل مظاهر الحقد الطبقي والحسد الاجتماعي وتخرُج العقد السيكولوجية لتخرب كل شيء. وتقف فئات تدعي أنها متعلمة ومثقفة ومن مختلف الطوائف مع ذلك الاصطفاف الطائفي، بدلاً من أن تدرس الأسباب الكامنة لكل مشاكلنا. رأينا ذلك في البلدان التي انهارت أنظمتها الشمولية وتوقف القانون فيها عن العمل. وظهرت على السطح تلك النوازع الرهيبة وسادت ثقافة البداوة والغزو، حتى سمعنا صيحات الله أكبر على عمليات الضرب حتى الموت والسحل وأكل الأكباد حتى تتلاشى الجثث، كما حصل في عراق أول شريعة وأول لغة مكتوبة، ومصر الحضارة والفن والإبداع، وسوريا مهد أول مدينة في العالم، وفي أماكن عديدة غيرها.. مأساة ومأساة .

يدَّعِي البعض أنَّ ما نشهده هو نتيجة تحريض من الخارج، ذلك صحيح ومُوثق، لكنه أبعد شيء عن الدقة. هناك بالتأكيد من يُساعد هذا التوجه الطائفي بالتحريض والدعم والتمويل، ولكن تلك أيضًا صناعة عربية إسلامية بامتياز. ومن له شك فليُطالع الفتاوى الهائلة وخطب المساجد وتصريحات بعض السياسيين وكتاب الأعمدة، وتصريحات بعض علماء الدين، وليتابع منصات التخاطب الاجتماعي، كلها تؤجِّج الخلاف والقتال والاحتراب بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين الآخرين. ويدلي كثيرون منهم -سنة وشيعة وغيرهم- بدلوهم، شأنهم شأن أية جماعة دينية طائفية متطرفة سائدة في محيطها. وتتعقَّد المشكلة مع الاختلافات السياسية وانسداد آفاق التنمية وغياب فكرة المواطنة.

لا يستطيع أحد أن يُستَغل إلا من هو قابل للاستغلال.. أي أنَّ المناخ المولِّد لظاهرة ما هو الذي يساعد أكثر من غيره على ظهوره. التحريض والمساندة والدعم وحدها لن تكون قادرة على أن توجه وتؤثر. ما لم تكن الأرضية جاهزة والجو مهيَّأ .

وهذه حقيقة تغيب عنَّا، ومن هذه الغيبة يكون الخطأ في التشخيص والخطأ في العلاج. والواقع أنَّ ما نواجهه هو شيء من هذا النوع.. مرض قديم قابل للعودة إذا ما قلت المناعة ضده. وفي نفس الوقت طب بدائي يلجأ إلى نحر الذبائح دفعًا للأرواح الشريرة يحسبها داعيًا للمرض.

إنَّ ما يحدث على امتداد الخارطة العربية، هو انعكاسٌ لتلك الثقافة المنغلقة التي ورثناها والتي تقودنا إلى مسالك الانتحار الجماعي، وتلك الأوهام والخرافات التي تُسيطر علينا وعلى تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا. هي تلك البيئة الفكرية والمنظومة القيمية والتعليمية والتربوية التي ما زالت تُعيد إنتاج التأخر، ومعهما الوجدان القمعي الذي يُريد إقصاء الآخر المختلِف. وستستمر تلك البيئة وذلك السلوك، وسيقتل ويسحل الآلاف، طالما بَقِيت دوائر الوعي مسجونة في أروقة الخرافة وما تنتجه من شتى أنواع التطرف. ومع استمرار هذه البيئة المتخاصمة لكل ما هو عقلاني، سيبقى الحال على ما عليه. والطائفية بكل أشكالها تعكس فشلا ذريعا في بناء الدولة المدنية العصرية التي ترتكز على مفهوم المواطنة والتعددية. والدول التي تراجعت فيها الطائفية هي الدول التي تمكنت من نشر ثقافة وطنية وإقامة نسق وطني متماسك رغم تعدد الأنماط العرقية والدينية والطائفية فيها. والمناعة الوطنية ضد الطائفية وتفريعاتها القبلية والعرقية والمناطقية تتطلب أصالة مبدأ المواطنة وعموميته بشكل جلي وجذري على فرعية الاعتبارات ذات الصلة بالخصوصيات.

على أنَّ تعزيز مبدأ المواطنة لن يكون ناجحاً بمعزل عن فهم شامل لسمات الدولة العصرية، بما في ذلك مبدأ العدل والمساواة وكرامة الإنسان والمشاركة والتعددية في كافة أمور إدارة الشأن الوطني، وبناء اقتصاد وطني قوي متنوع المصادر.

الدولة العصرية ليست مجرد بناء أجهزة الجيش والأمن. الدولة تستطيع أن تقيم جيشًا وأجهزة أمن، ولكنَّ أيًّا من هذه الأجهزة لا يستطيع أن يقيم دولة عصرية. فالدولة العصرية والجيش العصري وأجهزة الأمن العصرية مُحصِّلة موارد وقدرات شعب وطريقة الحصول على الثروة، واستنارة فكر وتوازن طبقات، وإدراك عميق لفكرة أن المجتمعات تُعيد صناعة مستقبلها جيلا بعد جيل بوسيلتين أساسيتين؛ هما: التعليم والتشريع العصريان والمتغيران.

وما لم يُدرك العرب خصوصيتهم المُثقلة بأعباء التاريخ والمجتمع، ويتمكنوا من التعرف عليها في الوقائع العينية لتجاربهم الماضية والمعاصرة الخاصة بهم؛ فإنهم لن يُغَادِروا الحالات الموجودة التي يتداولونها كل يوم عن مصير أوطانهم في نشرات الأخبار. وكل "آتٍ" سوف يكون أكثر مدعاة "للأسف" من "المأسوف عليه" مع الأسف الشديد، ساحبًا معه حرائق الطائفية بكل أنواعها وتفريعاتها.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

اكتشفها الآن.. خمس عادات لتدريب عقلك على السعادة

الجديد برس| كشفت دراسة جديدة قام بها مجموعة من علماء النفس، عن 5 عادات لتدريب العقل على السعادة وزيادة الرفاهية. وأشارت الدراسة الجديدة إلى أن الأفكار والسلوكيات، بل حتى البيئة المحيطة بالشخص، يمكن أن تعيد برمجة الدماغ نحو الاستمتاع بمزيد من السعادة والرفاهية. ووفقا للدراسة، التي نشرتها صحيفة “تايمز أوف إنديا”، فإنه وكما هو الحال في اللياقة البدنية، فإن اللياقة العاطفية تتطلب أيضًا التدريب. واستعرضت الدراسة الجديدة بعض النصائح العلمية لتدريب العقل على السعادة، وهي كالآتي: 1.ممارسة الامتنان يعد الامتنان من أقوى أدوات علم النفس الإيجابي. عندما يركز المرء على ما لديه ويقدّره، حتى أصغر الأشياء، يبدأ عقله بتحويل انتباهه من الندرة إلى الوفرة، وتؤدي تلك الخطوة إلى مزيد من الوفرة في الحياة. وتظهر الدراسات أن الأشخاص الذين يكتبون 3 أشياء يشعرون بالامتنان لها يوميًا ويصلون إلى مستويات أعلى من السعادة ومستويات أقل من الاكتئاب. 2.إعادة صياغة الأفكار السلبية إن الدماغ مصمم بطبيعته لاكتشاف التهديدات، وهي آلية للبقاء تعرف باسم “التحيز السلبي”. ولكن بجهد واعٍ، يمكن تجاوز هذا الوضع الافتراضي من خلال إعادة صياغة كيفية تفسير الشخص للأحداث. يشجع العلاج السلوكي المعرفي الأشخاص على تحدي الأفكار المشوّهة واستبدالها بأفكار متوازنة وواقعية. فعلى سبيل المثال، يمكن إعادة صياغة الإحساس بالفشل على أنه “عدم نجاح هذه المرة، لكنه فرصة لتعلم شيء قيّم”. إن هذا التحول العقلي يقلل من القلق ويعزز الثقة بالنفس، ما يساعد على التغلب على التحديات. 3.قضاء وقت في الطبيعة للطبيعة تأثير عميق على الصحة النفسية. اكتشف علماء النفس أن قضاء 20 دقيقة يوميًا في بيئة طبيعية يمكن أن يخفض مستويات الكورتيزول، المعروفة باسم هرمونات التوتر، ويحسن الحالة المزاجية مدى الانتباه. إن المشي في الحديقة أو الجلوس قرب الأشجار أو حتى الاستمتاع بمناظر الطبيعة، يهدئ العقل ويعيد التواصل مع اللحظة الحالية. 4.علاقات هادفة مع الآخرين إن البشر كائنات اجتماعية، وإقامة علاقات هادفة من أهم أسباب السعادة طويلة الأمد. تظهر دراسات علم النفس أن الأشخاص ذوي الروابط الاجتماعية القوية أقل عرضة للإصابة بالاكتئاب وأكثر ميلًا للشعور بالرضا. لذا، فإن تخصيص وقت للأحباء، وقضاء وقت ممتع معهم، وإجراء محادثات عميقة، وإظهار اللطف، كل هذا يطلق موادًا كيمياوية تشعر الشخص بالسعادة مثل الأوكسيتوسين والسيروتونين في الدماغ. 5.تدريب العقل على اليقظة إن اليقظة هي ممارسة التركيز على اللحظة الحالية من دون إصدار أحكام. وقد ثبت أن اليقظة المنتظمة، من خلال التأمل والتنفس العميق أو حتى مجرد الوعي أثناء الأنشطة اليومية، تقلص مركز التوتر في الدماغ وتعزز المناطق المرتبطة بالسعادة والوعي بالذات. ومع مرور الوقت، تساعد اليقظة على أن يصبح الشخص أكثر ثباتًا وأقل انفعالًا وأكثر تقديرًا لملذات الحياة البسيطة. وشددت الدراسة على أن اتباع هذه العادات بشكل منتظم من شأنها أن تزيد هرمون السعادة لدى الإنسان، وتدرب العقل على السعادة وزيادة الرفاهية.

مقالات مشابهة

  • تحقيق استقصائي لبي بي سي يكشف وجود شبكات خارجية تغذّي الطائفية في سوريا
  • وزارة التعليم العالي تحظر نشر أو تداول أو ترويج أي محتوى يتضمن تحريضاً على الكراهية أو الطائفية أو العنصرية
  • كيف تغيّرت عقولنا بفعل الإنترنت؟
  • لتعزيز التواصل الديني والثقافي بين المملكتين.. وزير الشؤون الإسلامية يفتتح معرض جسور في المغرب
  • عُمان صوت العقل ونهج الحكمة
  • اكتشفها الآن.. خمس عادات لتدريب عقلك على السعادة
  • الأمراض التي قد يشير إليها الطفح الذي يصيب أكبر عضو في الجسم
  • تعديل قانون الانتخابات
  • إرث الطائفية.. سلاح يهدد مساعي السوريين لبناء دولتهم
  • وزير الشؤون الإسلامية: المملكة تسعى لتعزيز وحدة الصف الإسلامي