يبدو أن المشهدين السياسيين اليمني والفلسطيني في غزة، بعد الهجوم الإسرائيلي ضد أهداف مدنية في ميناء الحديدة، أكثر تعقيدًا اليوم مما مضى. الخسائر طالت محطة توليد للطاقة الكهربائية، ومستودعًا للنفط اليمني، وفقد ثلاثة مواطنين أرواحهم، وأصيب العشرات بجروحٍ بالغة.

جاء الرد الإسرائيلي على الهجوم الحوثي سريعًا.

وسبقه تخطيط لبنك الأهداف المحتملة في حال عاود الحوثيون الهجوم على إسرائيل. واختارت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عدم الاعتراض على الضربة لسببين رئيسيين، فهي من ناحية ترغب في تجنب صدام مباشر مع الحكومة الإسرائيلية خلال موسم الانتخابات الرئاسية الأميركية. ومن ناحية أخرى، تعتبر الهجوم الإسرائيلي خطوة قد تنجح في وقف هجمات الحوثيين في البحر الأحمر التي فشل التحالف الأميركي البريطاني في وقفها وقفًا كاملًا.

وجاء الهجوم الإسرائيلي على الحديدة بعد نجاح الطائرة المسيّرة الحوثية في الوصول إلى العمق الإسرائيلي في مدينة تل أبيب، في رحلة استغرقت حوالي عشر ساعات، فقتلت إسرائيليًا واحدًا، وأصابت آخرين، في مشهد أثار الرعب في الشارع الإسرائيلي.

من الخطأ السياسي الاستهانة بالقدرات العسكرية لجماعة الحوثي ومناوراتها السياسية، فلقد تسبّبت قدراتها العسكرية المتطورة بدعم سخي من إيران في إيقاف تصدير النفط اليمني من قبل الحكومة الشرعية، وإصابة أهداف عسكرية عالية الدقّة.

ورث الحوثيون أسلحة وعتاد الجيش اليمني لنظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح- بعد القضاء على الأخير في نهاية سنة 2017م- ما عدا القليل منها بقيت مع الجيش اليمني التابع للحكومة الشرعية.

ساعدت هذه الترسانة العسكرية الضخمة -‏ التي ظل الرئيس السابق صالح يبنيها لأكثر من ثلاثة ‏عقود هي فترة حكمه – في صمود الحوثيين لزهاء أكثر من سبع سنوات خلال الحرب اليمنية. كما ساهمت عمليات التهريب البحري المتتالية في مد الحوثيين بأسلحة وذخيرة إيرانية لم ينجح الحصار البحري الخانق على الحوثيين في منعها.

تعتبر الصواريخ الباليستية هي أقوى الأسلحة التي ورثها الحوثيون من نظام صالح، حيث تستطيع الوصول إلى مواقع إسرائيلية، وعلى الرغم من نجاح إسرائيل والتحالف الأميركي البريطاني في البحر الأحمر ‏حتى الآن في إسقاط هذه الصواريخ، فإنها تحتاج فقط أن تصيب هدفًا واحدًا لتحدث خسائر فادحة.

‏ومما يشار إليه هنا أن الحوثيين قد يكون لهم السبق في العصر ‏الحديث في استخدام الصواريخ الباليستية ضد أهداف بحرية، ‏محققين ‏بذلك خسائر ‏هائلة في حرية الملاحة البحرية في البحر الأحمر، ‏وكما يمكن لهذه الصواريخ الباليستية الوصول إلى القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة بكل يسر.

ولكن تظل ترسانة الطائرات المسيرة الحوثية التي حصلوا عليها من إيران مطلقين عليها أسماء يمنية عديدة مثل صاروخ صماد بنسخه المتعددة، هي الأقدر على ضرب العمق الإسرائيلي، متجاوزة قدرات الرادارات الإسرائيلية في الكشف عنها.

سارع سكان مدينة صنعاء والمدن اليمنية الأخرى الخاضعة لسيطرة الحوثيين، في الساعات الأولى لانتشار خبر ضرب إسرائيل مستودعات النفط في ميناء الحديدة، لشراء المزيد من البترول والغاز الطبيعي المنزلي؛ تحسبًا لانقطاع إمداداتهم جراء الضربة العسكرية.

تمكن اليمنيون منذ بداية الحرب اليمنية سنة 2015م في التعايش مع أكبر مأساة إنسانية شهدها العالم خلال السنوات العشر الأخيرة، ولذلك لن تزيد الضربات الإسرائيلية الجرح اليمني ألمًا أكبر مما هو فيه الآن، وحتى وإن زاد، فلن يكون هذا كافيًا لردع الحوثيين.

الرسالة الإسرائيلية

تقوم العقيدة العسكرية الإسرائيلية على مبدأ التفوق العسكري التكنولوجي النوعي معتمدةً في ذلك اعتمادًا كليًا على الدعم الأميركي غير المحدود حتى تظل هي القوة العسكرية المهيمنة في منطقة الشرق الأوسط، وتقوم أيضًا على مبدأ الردع المدمر، كما هو الحال خلال حروبها الأخيرة سواء في لبنان ضد حزب الله، سنة 2006م أو حاليًا في غزة الجريحة. وهدفها هذه المرّة – كما في كل المرات – إرسال رسالة واضحة للعرب مفادها أن ثمن استهدافها سيكون قاسيًا لأبعد الحدود، حتى لا يتجرأ كائن من كان على مهاجمتها مرة أخرى.

وبينما يتحفظ حزب الله في لبنان حاليًا بأن يدخل في مواجهة شاملة ضد إسرائيل، نرى الحوثيين أكثر جرأة، فهم يدركون جيدًا قدرات إسرائيل، وأن أقصى ما تستطيع تنفيذه هو استهداف جوي لأهداف مدنية مؤثرة في الاقتصاد اليمني، وهو ما لن يحدّ من القوة العسكرية الحوثية الرئيسية.

إضافة إلى ما سبق، فقد أثبتت عقيدة الردع العسكري الإسرائيلية فشلها مرارًا في الأشهر الأخيرة، فهي لم تحمِها من هجمات حركة حماس في مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، التي استخدمت فيها تقنيات بدائية، ولم تنجح في ردع الطيران الحوثي أو وقف مسيرته الأخيرة أن تصيب قلب إسرائيل في مقتل. ولعل هذه العقيدة قد عفا عليها الزمن، فقد فشلت في تحقيق الأمن للشعب الإسرائيلي، ما دام الشعب الفلسطيني لا ينال الحد الأدنى من حقوقه الإنسانية.

تعتقد إسرائيل وأميركا أن مشهد النيران المشتعلة في الحديدة كفيل بردع الحوثيين وإخافتهم، ولكن حساباتهما خاطئة، فلا يبدو أن الحوثيين سيتوقفون عن مهاجمة الأهداف الإسرائيلية في البحر الأحمر، أو داخل إسرائيل؛ إدراكًا منهم أن الحرب في غزة لن تطول كثيرًا، وأن مواصلة الهجمات الحوثية في البحر ستشكل نصرًا كبيرًا لهم وللمحور الإيراني في ظلّ موقف عربي وإسلامي هزيل.

لقد وجد الحوثي في حرب غزة فرصةً عظيمةً لترجمة شعاره السياسي: "الموت لأميركا والموت لإسرائيل"، لكن يرى كثير من اليمنيين أيضًا أن ذات الترسانة الحوثية أزهقت أرواح الآلاف من اليمنيين الأبرياء قتلًا وفقرًا ومرضًا، وهو رقم لا يقارن بما أسقطته من الإسرائيليين. ورغم كل شيء سيظلّ اليمنيون متعاطفين مع القضية الفلسطينية قلبًا وقالبًا، يقدمون الغالي والنفيس رغم ضيق ذات اليد ونسيان العالم مأساتهم الإنسانية، ورغم ظلم ذوي القربى الأشد مرارةً من وقع الحسام المهنّد.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات فی البحر الأحمر

إقرأ أيضاً:

إبراهيم شقلاوي يكتب: الوعي الجمعي و صياغة معادلة السلام

لم يكن خروج السودانيين إلى الشوارع، داخل الوطن وخارجه، حدثًا عاديا بل عبر عن فعلًا سياسيًا مكتمل الأركان والدلالات، أعاد رسم الشرعية وحدد بوضوح معالم السلام الذي يريده السودانيون. ففي لحظة تداخلت فيها الضغوط الإقليمية و الدولية، وتكاثرت المبادرات التي حاولت القفز فوق جوهر الأزمة، خرج الشارع ليعلن موقفه بلا مواربة: لا تفاوض مع المليشيا، لا وصاية على القرار الوطني، ولا سلام خارج إطار الدولة.

هذا المشهد الشعبي الكاسح لا يمكن فصله عن خارطة الطريق التي أعلنها القائد العام للقوات المسلحة، رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، حين وضع السلام في سياقه الصحيح: سلامٌ مشروط بتفكيك المليشيا، وتنفيذ اتفاق جدة الموقع في 11 مايو 2023، باعتباره المرجعية الوحيدة للترتيبات الأمنية والإنسانية. اتفاقٌ نصّ صراحة على خروج المليشيا من المدن، وتسليم سلاحها، وتجميع قواتها في معسكرات مخصصة للنظر في أمرها وفق منطق الدولة لا منطق فرض الأمر الواقع.

ورغم وضوح هذا الموقف، ظلّت أصواتٌ داخلية وخارجية تحاول المزايدة على الجيش، وتقديمه بوصفه مؤسسة «مختطفة» أو معزولة عن المجتمع، في محاولة لانتزاع الشرعية الأخلاقية والسياسية من موقفه. غير أن ما جرى في 13 ديسمبر أسقط هذه السرديات دفعة واحدة، وأثبت أن ما عبّر عنه قائد الجيش لم يكن رؤية قيادة منفصلة، بل ترجمة دقيقة لإرادة شعبية عريضة لا ترغب في رؤية المليشيا في اليوم التالي للحرب، لا شريكًا، ولا قوة أمر واقع، ولا مكوّنًا سياسيًا بأي مسمى او تحت اي عنوان .

لقد خرج السودانيون ليجددوا التفويض، لا للقتال من أجل القتال، بل لحسم معركة الكرامة بوصفها معركة وجود. خرجوا ليؤكدوا أن الجيش لا يقاتل منفردًا، بل يستند إلى خزان اجتماعي واسع يمتد من المدن إلى القرى، ومن المركز إلى الهامش، ومن الداخل إلى المهجر. هنا يتحول شعار «جيش واحد.. شعب واحد» من خطاب تعبوي إلى معادلة سياسية واقعية، تُعيد تعريف ميزان القوى ومعنى الشرعية في زمن الحرب و الخزلان.

في هذا السياق، لم يكن المطلب الشعبي بتصنيف مليشيا الدعم السريع منظمةً إرهابية نزوة خطابية أو انفعالًا عاطفيًا، بل نتيجة منطقية لانتهاكات واسعة وجرائم ممنهجة طالت المدنيين في الخرطوم والجزيرة ودارفور وكردفان ، من قتل ونهب وتهجير وترويع، ونسفت أي ادعاء بإمكانية إدماج هذه القوة في مستقبل الدولة. إن الشارع، وهو يرفع هذا المطلب، إنما يضع حدًا فاصلاً بين منطق الدولة ومنطق الفوضى، وبين السلام بوصفه تسوية سياسية هشة، والسلام بوصفه استعادة كاملة لسلطة القانون.

تكتسب هذه اللحظة أهميتها السياسية لأنها تتجاوز الداخل إلى الإقليم والعالم. فالرسالة التي بعث بها ملايين السودانيين بالأمس كانت واضحة: نحن مع جيشنا، وندعم خارطة الطريق التي أعلنها من أجل السلام، ونرفض أي مسار يتجاوز اتفاق جدة أو يفرغه من مضمونه. وهي رسالة تُربك حسابات من راهنوا على إنهاك الجبهة الداخلية، أو على تسويق المليشيا كأمر واقع لا بد من التعايش معه، أو عبوره لليوم التالي للحرب.

إقليميًا، يعيد هذا الاصطفاف الشعبي ضبط معادلات دول الجوار، ويؤكد أن السودان ليس دولة تنتظر الوصاية، بل دولة تقاتل لاستعادة تماسكها . ودوليًا، يمنح هذا الزخم الدولة السودانية ورقة ضغط سياسية وأخلاقية تعزز سرديتها بأن ما يجري حرب تُدار بالوكالة وتستهدف الموارد والسيادة، كما أقر بذلك مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك حين قال:” حرب السودان تخاض بالوكالة طمعا في الموارد الطبيعية” ، في اعتراف يضيق هامش التزييف ويغلق أبواب الحياد البائس.

في المحصلة، يصبح 13 ديسمبر محطة مفصلية في الوعي الجمعي السوداني، بوصفه، لحظة تأسيس جديدة يُعاد فيها تعريف السلام، والوطنية، ومعنى الاصطفاف. سلامٌ لا يقوم على المساومات، بل على تفكيك أسباب الحرب. ووطنيةٌ لا تُقاس بالشعارات، بل بالاستعداد لتحمل كلفة الدولة. واصطفافٌ لا يعرف الرمادية ، لأن اللحظة لا تحتملها.

هكذا وبحسب #وجه_الحقيقية ، حين تكلم الشارع، لم يرفع الحرج عن الجيش فحسب، بل أعاد تثبيت المعادلة : لا مليشيا في اليوم التالي للحرب، ولا دولة دون جيشها، ولا سلام خارج إرادة شعب قرر أن يكتب مستقبله بالفعل، لا بالانتظار. ذلك الوعي وحده الذي يعيد صياغة معادلة السلام.
إبراهيم شقلاوي
دمتم بخير وعافية.
الأحد 14 نوفمبر 2025م [email protected]

إنضم لقناة النيلين على واتساب

Promotion Content

أعشاب ونباتات           رجيم وأنظمة غذائية            لحوم وأسماك

2025/12/15 فيسبوك ‫X لينكدإن واتساب تيلقرام مشاركة عبر البريد طباعة مقالات ذات صلة المخابرات في الموعد2025/12/14 إسحق أحمد فضل الله يكتب: (جلباب…)2025/12/14 “أن تكون مع بوتين أفضل من الحرب”2025/12/13 هجليج والمسيرية: التصفية والخطر الخارجي2025/12/12 الصحافة الصفراء2025/12/12 أرض تنتزع بالتصفيات … والبقارة في مرمى الصفقة الكبرى ل آل دقلو2025/12/12شاهد أيضاً إغلاق رأي ومقالات الوزيرة الجنجويدية… هل يُفتح أخيراً ملف المتعاونين الذين عادوا إلى مؤسسات الدولة 2025/12/12

الحقوق محفوظة النيلين 2025بنود الاستخدامسياسة الخصوصيةروابطة مهمة فيسبوك ‫X ماسنجر ماسنجر واتساب إغلاق البحث عن: فيسبوك إغلاق بحث عن

مقالات مشابهة

  • إبراهيم شقلاوي يكتب: الوعي الجمعي و صياغة معادلة السلام
  • قانون الجزيرة - إسرائيل: إغلاق مكاتب قنوات أجنبية بدون حالات طوارئ
  • قمة ثلاثية بين إسرائيل واليونان وقبرص اليونانية
  • معادلة الركراكي لتجاوز لعنة اللقب الوحيد للمغرب
  • المليشيات والأذرع العسكرية للمشروع الإسرائيلي تنفذ مخطط التفكيك والتقسيم في اليمن
  • التايمز: المجلس الانتقالي الجنوبي اليمني مستعد للتطبيع مع إسرائيل
  • موجة جديدة من الانقلابات العسكرية بأفريقيا تحت مجهر مؤتمر الجزيرة للدراسات
  • ضغوط لحسم الصراع مع إسرائيل وحصر السلاح
  • الأمم المتحدة تطالب إسرائيل بالتعاون مع الأونروا..وتل أبيب ترد بحدة
  • من الإطار إلى طاولة الشراكة: العراق نحو صياغة معادلة السلطة