أبو العبد طلب الشهادة فنالها.. قاموس المقاومة (38)
تاريخ النشر: 7th, August 2024 GMT
سكن أبو العبد، إسماعيل هنية"، حروف الجذر اللغوي "شهد" فصار من مبانيه ومعانيه ومغازيه؛ يسكنه بأقواله ومواقفه وأفعاله. ومن جميل ارتباطاتنا باللغة هوية واختصاصا وتميزا؛ أن نتخذ منها في جذورها واشتقاقاتها مدخلا مهما في تحريك المعاني والقيم الساكنة فيها والفاعلية الحركية الكامنة في عمقها، ووجدت أن الفعل "شهد" في امتداداته لا يقل أهمية عن جذور لغوية أخرى أدركت أهميتها في بحوث سابقة مثل "قوم" و"صلح".
وقد جاء في مقاييس اللغة: "الشين والهاء والدال أصلٌ يدلُ علىٰ حُضُورٍ وَعِلْمٍ وإِعْلَامٍ، ويُقَالُ: شَهِدَ يَشْهَدُ شَهَادَة. كما يُقالُ: شَهِدَ فُلانٌ عند القاضي، إذا بيَّن وأعلَمَ لمَنْ الحق وعلىٰ مَنْ هو". وفي لسان العرب: "الشَّهادَة خَبرٌ قاطعٌ تقولُ. منه: شَهِدَ الرَّجُلُ علىٰ كذا، وربما قالوا شَهْدَ الرَّجلُ -بسكون الهاء- فالشهادةُ: الإخبارُ بما شاهَدَهُ. فالشَاهِدُ: العالمُ الذي يُبَيِّنُ ما يَعْلَمهُ ويُظْهِرهُ؛ والمُشاهَدَةُ المُعَايَنَةُ، وشَهِدَهُ شُهُودا: أَي حَضَرَهُ، فَهُوَ شَاهِدٌ، وقَوْمٌ شُهُودٌ: أَي حُضورٌ".
والشهادة هي قمة الحضور؛ فلغويّا، يذكر مفهوم الحضارة للدلالة أولا على الحضور أو الشهادة التي هي نقيض المغيب، فمثلا حضر في القرآن الكريم تعني شهد: "إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ" (البقرة: 180)، "وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ" (النساء: 8). وللشهادة أربعة معانٍ متكاملة رصدها الدكتور "نصر عارف" تمثل جزءا من البنيان الحضاري والعمراني في هذا السياق، نستدعيها على النحو الآتي:
الأول الشهادة بمعنى التوحيد والإقرار بالعبودية لله -عز وجل- وهي محور العقيدة الإسلامية وعليها يتحدد التزام الإنسان بمنهج الخالق -عز وجل- أو الخروج عنه. وقد كان الشهيد "أبو العبد" نموذجا في هذه العقيدة والرؤية والتصور الإسلامي، وكان بحق بهذا الإيمان الدافق التزاما يمشي على الأرض، وهو دائم لذكر الله والتذكير به، والتزام منهجه باعتبار أن ذلك هي القاعدة التي ينطلق منها كل تغيير وإصلاح.
الثاني الشهادة بمعنى قول الحق وسلوك طريق العدل، وتعد مدخلا من مداخل العلم ووسيلة من وسائل تحصيل المعرفة. ولا شك أن الشهيد "أبو العبد" التزم بالتربية في مدرسة الحركة، وعلى يد شيخها المؤسس الشيخ أحمد ياسين الذي صنع رجالا كان من بينهم الشهيد إسماعيل هنية، فكان بذلك لا يحيد عن حق، ويلتزم بعلم الإيمان وإيمان العلم، ويتدفق حيوية ومنهجا ونموذجا داخل هذه الحركة ليشع بذلك دعوة وجهادا بكل ما يملك.
الثالث الشهادة بمعنى التضحية والفداء في سبيل الله -سبحانه وتعالى- حفاظا على العقيدة. أما عن التضحية والفداء من أجل عقيدة آمن بها، ومنهجا التزمه، فإن الشهيد "أبو العبد" لم يكن إلا أبا الشهداء وجد الشهداء، ولم يكن ذلك إطلاقا معنويا، ولكنه قد ذكر أن في أسرته أكثر من 60 شهيدا، من بينهم أولاده وأحفاده والكثيرون من رحمه وقرابته، ثم توج ذلك حينما طلب الشهادة، فأصل بذلك نموذجا للشهود والحضور والتضحية والفداء من أجل قضية أمة وهي القضية الفلسطينية، ومن أجل النصر والأسرى، ومن أجل بيت المقدس والأقصى.
الرابع الشهادة كوظيفة لهذه الأمة، "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا" (البقرة: 143)، وينصرف معناها إلى الشهادة في الدنيا والآخرة، حيث تكون أمة قوية تقوم على العدل وتعمل به وتدعو إلى عبادة الله وحده.
وقد مثّل الشهيد "أبو العبد" وصحبه نموذجا مهما شكلوا فيها بحق خيرية الأمة خروجا على حال وهنها وهوانها، ملتزما بالجهاد والمقاومة بكل غال ورخيص، ليقدم نفسه في النهاية شهيدا وشهادة؛ شهيدا حيا يرزق عند ربه، وشهادة حملها على كل هؤلاء من ينتمي إلى هذه الأمة ليقدم النموذج الناهض والمقاوم، فأين الأمة من هذه النماذج الفذة التي تشكل حركة التاريخ ولا تقبع في زوايا الغفلة والنسيان؟ وكان بذلك يحمل في الأمة ذكرا ومكانة وحضورا وشهودا، ليؤكد أن هذه الأمة لو أرادت نهوضا لقامت بكل ما يعني بالفاعلية الواجبة لإحداث كل تغيير يصب في حركة النهوض.
وارتباط الشهادة بصناعة النهوض والحضور الفعال والشهود في الحال وفي المآل؛ أكد عليه أستاذنا القدير الدكتور "عبد المجيد النجار" في موسوعته حول الشهود الحضاري: لما كان إنجاز الحضارة مقيدا بمنهج العبادة وفقا للرؤية الإسلامية في بعده الكلي المقاصدي، فهذا معناه أنها قائمة على أسس يحددها الدين الحق، ومتجهة وجهة العبودية لله خضوعا لما يأمر به وينهى عنه سبحانه. وهذا القصد يعطي مفهوم الحضارة خصوصية تميزه عن غيره، لا يقف عند حدود البناء المادي ومظاهره، بل يتجاوزه إلى بناء إنسان الرسالة الحضارية الذي كلفه الله للقيام بمهمة الاستخلاف في الأرض، مستحضرا تلكم العلاقة الجدلية بين الغيب والإنسان والحياة والكون، لتهدف صلاحا وإصلاحا ودعوة وشهودا واستسلاما لله تعالى بمقتضى ما كلِّف به الإنسان المسلم، والأصل الجامع لقواعد هذا الفقه مضمّنة في قوله تعالى: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا" (البقرة: 143).
وإذا تجاوزنا المعنى الغيبي للشهادة المتمثل في شهادة الأمّة الإسلامية في اليوم الآخر على الأمم أنهم قد بلّغوا رسالات أنبيائهم إلى معنى الشهادة على الناس في الدنيا وعدنا إلى دلالاتها اللغوية، وسياقها في الآية وارتباطها مع الوسطية، تبيّن لنا أنها تمثّل منهجا متكاملا في التعامل الحضاري للمسلمين مع الآخرين من الناس. فالشهادة في ظاهرها: هي الإخبار عن أمر وقع العلم به لإقامة حقّ يتوقف عليه ذلك الإخبار، وهو ما يقوم على أربعة عناصر أساسية: العلم الذي هو أساس الشهادة، والبيان والإظهار لذلك العلم، ثم تبليغ ذلك العلم بحيث يصير واصلا إلى الآخرين على الوجه المقنع المفيد، ثم العدل في كل ذلك حتى تكون الشهادة مفضية إلى نفع المشهود عليهم.
لقد جاء القرآن الكريم يؤسّس الحضارة على هذا المبدأ العظيم، مبدأ الشهادة على الناس، شهادة ترتكز على تصوّر لحقيقة الإنسان المشهود عليه، ثم شهادة علم يكون هو المنطلق فيها، فمن لا علم له لا يكون شاهدا، وشهادة بلاغ للبشرية كافّة لكلّ ما فيه خير لها في غير جحود ولا كتمان، وشهادة حكم عادل بين الناس يردّ الحقوق إلى أصحابها وينصر المظلومين والمضطهدين.
وقد وجدت هذه الشهادة مصداقا لها في واقع الحضارة الإسلامية حال شهودها، فقد قامت هذه الحضارة شاهدة على الناس في الأبعاد المختلفة لهذه الشهادة بما يجعلها مفخرة بين الحضارات السالفة والراهنة، وهو ما ينبغي أن يتأسّس عليه السعي إلى النهوض الحضاري لتكون الأمّة شاهدة على الناس من جديد.
في مقال رائع للأستاذ ساري عرابي بعنوان "الشهادة والعرفان"؛ يتناول قضية الكمال في الشهادة والشهيد:
"إنّ الكمال إذا أطلق إنما يُراد به الله تعالى، ولكنّه يصحّ فيما دونه إذا قُيّد، فكان كمالا بالنسبة. هذا الكمال النسبي، أي حينَ وَزْنِ البشر ببعضهم، إنّما يتحقّق في اجتماع ثلاثة معان، وهي نُدرة الوجود، وفي النفاسة وشدّة احتياج الخلق إلى مثيلهم في البشرية، وفي صعوبة المنال. هذه المعاني الثلاثة لا تجتمع على النحو الموصوف في البشر إلا في الشهيد، فهو القدر الأعلى، ممّن هم دون الأنبياء، من حظّ العبد من اسم الله العزيز.
والعارف درجات، أقصاها الذي يقدر الله حقّ قدره، والذي يعرف الحقّ، وذلك بعد الأنبياء والصدّيقين لا يتعين على الحقيقة، فيما يمكن أن يتعيّن للبشر؛ في التصور الإسلامي إلا للشهداء، لقوله تعالى: "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ".
إذ يعاين الشهداء على الحقيقة، وهم أحياء، قبل البعث والقيامة، حقائق الوجود الكبرى؛ وقد قيل "همّة العارف حائمة حول معروفه"، وكان معروفهم القضية الجهادية وفلسطين والبحث عن الحقيقة.
هكذا ظلّ الشهداء في فلسطين، غرباء، وكانت غربتهم غربة الهمة، وهي غربة طلب الحق، وهي الانبعاث في زمن الموات، أو المثل المضروب في كل حين (النموذج)، إن في وقت الموات، أو وقت الانبعاث، فلكل وقت عارف، ولكل وقت شهيد ووقت الشهيد، وقت الواجب، ووقت انبعاث المثل المتسامي، والموعظة المتجسّدة من لحم ودم".
كان أبو العبد بحق هو الشهيد العارف، والعارف الشهيد، إنه نموذج لهذا الكمال في حقيقة الشهود والاستشهاد، أخبر فصدق، وعلم فأوعى، وحضر فكان فاعلا، ونظن أن ما ارتبط به قد شكل إعلاما وحضورا وشهودا، فكان حيا ملتزما في حياته، وكان حيا حاضرا بعد مماته.
هكذا كما بدأنا نعود الى الشهيد في الجذر اللغوي "شهد" الذي ترافق مع هذا الجذر الإنساني، ومع نموذج الشهيد "أبو العبد" ليحقق كل معاني الشهود، فكان شاهدا ومشهودا وشهودا وشهيدا.
x.com/Saif_abdelfatah
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه إسماعيل هنية الشهادة الفلسطينية فلسطين إسماعيل هنية مفاهيم الشهادة مقالات مقالات مقالات سياسة مقالات رياضة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة ة الإسلامیة على الناس أبو العبد من أجل
إقرأ أيضاً:
قراءة في بيان مسيرات ’’طوفان الأقصى .. عامان من الجهاد والتحدي والصمود’’
تتويجا لذكرى عامين لأحد أكثر المشاهد دمويةً وتحوّلاً في مسار العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في غزة، صدحت المسيرات الشعبية اليمنية تحت عنوان طوفان الأقصى.. عامان من الجهاد والتضحية حتى النصر، حاملةً معها بيانًا يعكس مزيجًا من الفخر، والرسائل القوية، بيانٌ حمَل نَفَس التعبئة الشعبية والرمزية الدينية والسياسية، وأراد أن يرسم خريطة تموضع قوى ما زالت ترى في فلسطين بوصلة لا تقبل التراجع ولا المساومة.
يمانيون / خاص
افتتح البيان بالتأكيد على فشل العدو في تحقيق أهدافه، على الرغم من آلة الحرب المتواصلة منذ لحظة اندلاع المعركة، و يُقارن بين ما أُعلِن من أهداف إسرائيلية، وبين ما تحقق على الأرض، هنا، لا يتحدث البيان عن مكاسب سياسية ملموسة، بل يستحضر قيمة الصمود كمكسب بحد ذاته، ويضعه في مواجهة جبروت الخصم وإسناده الأميركي.
من أبرز ما جاء في البيان، رسالة تعظيم وتمجيد للصمود الشعبي والمقاوم في غزة وسائر فلسطين، كنموذجٍ للثبات الذي يتحدى أدوات العدوان، العسكرية والسياسية، هذا الجزء من البيان لا يخاطب فقط جمهور الداخل الفلسطيني، بل يحاول إلهام الشعوب في المنطقة والعالم، مفاده أن الحق ينتصر حين يُصاحب بالصبر، وهنا الرسالة واضحة بأنّ النموذج المقاوم لا يزال فعّالًا، ويُمكن أن يُحتذى، وعلى الأمة أن تختار ما هو أصلح لها .
توجه البيان بالتحية لقائد المسيرة القرآنية، السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي يحفظه ، صادق القول والفعل، مجدداً العهد له، إمتداداً لعهد اليمنيين الأنصار مع رسول الله صلوات الله عليه وآله وسلم ، هذه الإشارة تسحب الصراع من ساحة الصراع السياسي فقط إلى عمقه الديني، وربط امتداد اليمنيين بين الماضي النبوي والحاضر المقاوم، لتأطير المعركة باعتبارها استمرارًا لمعركة الحق الأزلي.
أشاد البيان بتضحيات محور المقاومة وعلى رأسهم حزب الله في لبنان، وفصائل المقاومة في العراق، والجمهورية الإسلامية في إيران. وهذه الإشادة وهذا التقدير العلني يحمل رسائل استراتيجية واضحة، تؤكد محور المقاومة لا يزال متماسكاً ، وأن المعركة الفلسطينية التي جمعت هذا المحور هي جزءًا من معركته الشاملة.
وجه البيان رسالة تحذير وإنذار للأنظمة العرببة والاسلامية المتآمرة والخائنة لما سيلحق بها من العار والخزي في الدنيا والمصير في الآخرة ، مؤكداً على الاستعداد الدائم للتحرك الشامل لمواجهة أي عدوان إسرائيلي أو أميركي، وبين سطور هذا التحذير، يظهر التلويح بخيارات مفتوحة قد تتجاوز التصريحات، إذا ما تصاعدت الأحداث، لكنها في الوقت ذاته رسالة ردع، تُبقي الأعداء في حالة حذر، وتُبقي القواعد الجماهيرية في حالة تعبئة.
هذه الرسائل لا يُراد بها فقط التعبير عن الغضب، بل تُوجّه للشارع العربي لكسر حاجز الحياد، واستمالة الرأي العام إلى معسكر خيار المقاومة، والجهاد في سبيل الله، باعتباره الحل للتصدي لكل المؤامرات والتحديات والمخاطر .
اختتم البيان بالتأكيد على التمسّك بالقضية الفلسطينية، مجددًا الدعم المعلن والمطلق، ومرددًا العبارة المفتاحية التي أصبحت شعارًا متداولًا عند كل اليمنيين : لستم وحدكم، هذه الجملة تلخّص جوهر البيان كلّه، مجددةً التأكيد أن المعركة ليست فلسطينية فقط، بل عربية، إسلامية.
إنّ البيان الصادر عن مسيرات طوفان الأقصى يحمل أبعادًا سياسية، دينية، رمزية، وتعبوية، من خلال لغته التصعيدية والوجدانية
ومع تزايد سخونة المشهد الإقليمي، فإن مثل هذه البيانات لا تُقرأ في سياقها اللفظي فقط، بل في سياقها الزمني والاستراتيجي؛ فهي مؤشر على درجة الجاهزية والاستعداد، ومقدار التحشيد، وعلى التحدي الدائم الذي تمثله القضية الفلسطينية، بوصفها الجرح المفتوح والراية التي لا تنكسر.