جيش الإنقاذ العربي.. يوم عجزت الأنظمة عن مواجهة العصابات الصهيونية بفلسطين
تاريخ النشر: 9th, August 2024 GMT
جيش من المتطوعين العرب هبّ لمساعدة الفلسطينيين في صراعهم ضد الاستعمار والعصابات الصهيونية اللذين عملا على إقامة دولة يهودية في فلسطين، وأشرفت على تشكيل هذا الجيش الجامعة العربية في ديسمبر/كانون الأول عام 1947 تحت قيادة فوزي القاوقجي، وقد أطلق عليه في البداية اسم جيش التحرير ثم غيّر الاسم إلى جيش الإنقاذ.
وقد علق الفلسطينيون والعرب آمالا عريضة على هذا الجيش لطرد العصابات الصهيونية من أرض فلسطين، لكنه ذهب إلى المعركة بلا تنظيم ولا إدارة عسكرية سليمة ولا حتى أسلحة قادرة على الإيفاء بالغرض.
واستغرب كثير من المحللين والمتابعين كيف أن العرب بتعدادهم الكبير لم يدفعوا إلى معركة القدس التاريخية سوى بأقل من 3 آلاف مقاتل مقابل 10 آلاف مقاتل مدربين جيدا من العصابات الصهيونية.
مؤتمر جامعة الدول العربيةعندما شعرت بريطانيا أن الحركة الصهيونية أصبحت قادرة على شق طريقها دون مساعدتها وأن الظروف باتت مناسبة لتنفيذ وعد بلفور أرادت إلقاء تبعة قيام دولة يهودية في فلسطين على غيرها، لذلك أحالت في الثاني من أبريل/نيسان 1947 قضية فلسطين إلى الأمم المتحدة للبت فيها في ضوء التطورات الجديدة، أي بعد أن أعلن الشعب العربي الفلسطيني رفضه الوجود الصهيوني الاستيطاني.
ولما اتضح للعرب ميل اللجان التي شكلتها الأمم المتحدة إلى تقسيم فلسطين دُعي مجلس جامعة الدول العربية إلى اجتماع في لبنان بين 7 و9 أكتوبر/تشرين الأول 1947، لدراسة التدابير الواجب اتخاذها للوقوف في وجه المؤامرة على عروبة فلسطين.
وكان من أهم القرارات المتحدة خلال ذلك المؤتمر تأليف لجنة عسكرية من ممثلين عن مختلف الدول العربية مهمتها دراسة الموقف من الناحية العسكرية ومساعدة أهل فلسطين في الدفاع عن أنفسهم ووطنهم.
وقد تألفت تلك اللجنة -التي سميت اللجنة العسكرية التابعة لجامعة الدول العربية- من اللواء الركن إسماعيل صفوت من العراق رئيسا، وعضوية كل من العقيد محمود الهندي من سوريا، والمقدم الركن شوكت شقير من لبنان، وصبحي الخضرا من فلسطين، ولم ترسل مصر والأردن والسعودية واليمن أحدا يمثلها فيها.
وكان من بين توصيات اللجنة فتح باب التطوع أمام الشبان العرب للمشاركة في الكفاح المسلح في فلسطين.
كانت الحماسة شديدة لدى الشبان العرب للمساهمة في القتال، ففي سوريا قدّم عدد كبير من الضباط طلبات الالتحاق بقوات المجاهدين وقدّم آخرون استقالتهم من الجيش ليتمكنوا من التطوع في تلك القوات.
وقد أفرزت رئاسة الأركان السورية 46 ضابطا وعددا كبيرا من صف الضباط والجنود، أما في العراق فقد تزعم كبار الضباط فكرة مماثلة، وانضم إليهم الكثير من الضباط الشبان الذين أحيلوا إلى التقاعد إثر ثورة رشيد عالي الكيلاني.
وفي مصر، اتصل الضباط الأحرار برئيس الهيئة العربية العليا لفلسطين الحاج أمين الحسيني، وطلبوا منه التوسط لدى الحكومة المصرية للسماح لهم بالتطوع.
وفي الأردن، التحق عدد كبير من رجال الشرطة بالمجاهدين، وهكذا بدأ تكوين "جيش التحرير" الذي سمي فيما بعد "جيش الإنقاذ"، وأسندت قيادته إلى فوزي القاوقجي اعتبارا من مطلع ديسمبر/كانون الأول 1947.
وهكذا شُكّل جيش الإنقاذ من متطوعين سوريين ولبنانيين وعراقيين وأردنيين ومصريين وسعوديين ويمنيين وعدد قليل من جنسيات غير عربية (من تركيا ويوغسلافيا وألمانيا وإنجلترا)، فجاء تركيبه غير متجانس من حيث الأفراد أو التسليح أو التدريب أو أسلوب العمل.
وقد بلغ عدد الذين تقدموا للتطوع في جيش الإنقاذ نحو 10 آلاف شخص، لكن من سار منهم فعلا إلى فلسطين لم يزد على 4630 متطوعا، وزعوا على 8 أفواج.
دُعيت الأفواج الأول والثاني والثالث منها باسم "اليرموك"، والرابع باسم "القادسية"، والخامس باسم "حطين"، والسادس باسم "أجنادين"، والسابع باسم "العراق"، والثامن باسم "جبل العرب".
وقد دخلت هذه الأفواج الواحد بعد الآخر إلى فلسطين بعد أن تم تدريب أفرادها لفترة وجيزة في معسكرات قطنا قرب دمشق بإشراف عسكريين سوريين.
دور جيش الإنقاذكلفت اللجنة العسكرية من قبل مجلس الجامعة العربية بوضع الخطط والمقترحات العسكرية "الرامية إلى الحيلولة دون تشكيل حكومة يهودية في فلسطين، وإرغام اليهود على القبول بالمطالب العربية"، وكان جيش الإنقاذ -كما هو مفروض- أداة اللجنة العسكرية لتحقيق ذلك.
وقد حدد فوزي القاوقجي الغاية من دخول جيش الإنقاذ إلى فلسطين في خطبة له في بلدية جبع بالضفة الغربية، فقال "هدفنا واحد، وهو إلغاء قرار هيئة الأمم المتحدة بالتقسيم، ودك معالم الصهيونية وتصفيتها نهائيا، وتنفيذ قرارات الجامعة العربية، وتثبيت عروبة فلسطين".
لكن قائد قطعات الإنقاذ في منطقة الجليل المقدم أديب الشيشكلي كان يحمل مفهوما آخر، وكان يرى أن مهام قواته هي "تقوية معنويات الأهل في فلسطين، ومعرفة مقدرة القوات الصهيونية المسلحة هناك، واختبار موقف سلطات الانتداب البريطاني بالنسبة إلى الأعمال العسكرية التي تحدث بين العرب واليهود".
توزيع قوات جيش الإنقاذ في فلسطينومع تزايد صرخات الاستنجاد من عرب فلسطين وتزايد حماسة الجماهير العربية اعتبر فوج اليرموك الثاني بقيادة المقدم أديب الشيشكلي جاهزا للحركة يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 1947 على الرغم من كل ما كان يشكوه من نواقص.
وفي مساء ذلك اليوم تحرك الفوج من معسكر قطنا باتجاه بلدة بنت جبيل في جنوب لبنان، ثم دخل الأراضي الفلسطينية في اليوم التالي، أي في الوقت الذي كانت تدور فيه في ناحيتي الزاوية والقنيطرة ضد بعض مستعمرات الحولة رحى معركة رتبت خصيصا لجلب انتباه العصابات الصهيونية إليها وتحويل أنظارها عن الفوج.
وكان لدخول فوج اليرموك إلى فلسطين أثر كبير في ارتفاع معنويات العرب فيها، ثم توالى دخول الأفواج على الشكل التالي:
فوج اليرموك الأول بقيادة المقدم محمد صفا (سوري)، وقد دخل فلسطين يوم 22 يناير/كانون الثاني 1948، واتخذ مواقعه في منطقة جنين-بيسان. فوج القادسية بقيادة المقدم مهدي صالح العاني (عراقي)، وقد دخل فلسطين في فبراير/شباط 1948، وكان تحت تصرف قيادة جيش الإنقاذ في قرية جبع. فوج حطين بقيادة النقيب مدلول عباس (عراقي)، وقد دخل فلسطين في مارس/آذار 1948، وتمركز في منطقة طوباس. فوج اليرموك الثالث بقيادة الرائد عبد الحميد الراوي (عراقي)، وقد دخل فلسطين في أبريل/نيسان 1948، وتمركز في القدس ورام الله. فوج أجنادين بقيادة النقيب ميشيل عيسى (فلسطيني)، وقد تولى الدفاع عن يافا وباب الواد. فوج العراق بقيادة المقدم عادل نجم الدين (عراقي) وقد دخل يافا في 16 فبراير/شباط 1948 وتولى قائده قيادة حاميتها، إضافة إلى وحداته. فوج جبل العرب بقيادة الرائد شكيب وهاب (سوري)، وقد تمركز في منطقة شفا عمرو قرب الناصرة.وكانت هذه الأفواج (باستثناء فوج جبل العرب) تشكل مجموعة المنطقة الوسطى التي يقودها القائد فوزي القاوقجي بنفسه.
وقد رابطت في هذه المنطقة إضافة إلى هذه الأفواج سرايا مستقلة، منها السرية اللبنانية بقيادة النقيب حكمت علي، وسرية الفراتين بقيادة النقيب خالد مطرجي.
العدة والإعدادكان هذا الجيش مزودا بخليط من البنادق الإنجليزية والفرنسية والبلجيكية وبعدد قليل من مدافع الهاون المختلفة العيارات وبعض الرشاشات، كما أن سلاح الفوج الواحد لم يكن متجانسا، مما خلق صعوبات جمة في التمرين بالذخائر التي كانت أصلا قليلة جدا.
فقد صَعُب أو استحال الحصول عليها، إذ فرضت الدول الغربية حظرا على بيع العتاد الحربي لدول منطقة الشرق الأوسط، وإن كانت لم تبخل على القوات الصهيونية بالأسلحة والذخيرة، خاصة عن طريق قوات الانتداب البريطاني.
ولم يتوفر لعناصر جيش الإنقاذ الوقت الكافي للتدريب، فكان القسم الأعظم من المتطوعين مدنيين يفتقرون إلى التدريب العسكري الجيد، وفي الوقت نفسه كان الجيش يفتقر إلى العدد الكافي من الأجهزة القيادية والتنظيمية والإدارية، إذ لم يكن لديه في أحسن الحالات سوى نصف العدد المطلوب من الضباط.
أما شؤون الإدارة والتموين فقد أشرف عليها شبان غير عسكريين، معظمهم من الذين عملوا بالميدان الوطني في سوريا.
وكلفت اللجنة العسكرية الدكتور أمين رويحة بالإشراف على الجانب الصحي، فأسس مشفى نابلس الذي ضم 200 سرير، وبقي هذا المشفى يستقبل الجرحى حتى انسحاب جيش الإنقاذ إلى الشمال، فسلّم إلى الجيش العراقي.
كانت معركة جِدّين أولى المعارك التي خاضها جيش الإنقاذ في فلسطين، ففي ليلة 22/21 يناير/كانون الثاني 1948 وبغية الإلهاء عن عملية عبور فوج اليرموك الأول إلى فلسطين شن فوج اليرموك الثاني بقيادة المقدم أديب الشيشكلي هجوما مفاجئا على مستعمرة صهيونية في جدين قرب ترشيحا بالمنطقة الشمالية.
وكان من نتائجها تمكين قوات الإنقاذ من الحصول على أولى المعلومات المؤكدة عن المستعمرات الصهيونية وأساليب الدفاع عنها.
وقد رفعت المعركة معنويات الفلسطينيين، وتبين لقوات الإنقاذ أن قوات العصابات الصهيونية تدافع عن مستعمراتها بضراوة وتعتمد على تحصينات قوية، خلافا للعرب الذين كانوا يقاتلون في أراض مكشوفة.
فالنجدات التي جاءت لمساعدة القوات الصهيونية في جدين واشتبكت مع القوات العربية الأقل منها عددا وعدة لم تظهر ثباتا في القتال، فهزمها العرب بعد أن كبدوها عددا من القتلى والجرحى، في حين أن القوات الصهيونية المدافعة عن المستعمرة رغم خسارتها المواقع الأمامية واشتعال النيران في بعض مبانيها التجأت إلى القلعة، واستمرت في القتال حتى وصلت قوة بريطانية أنقذتها، مما اضطر قوات الشيشكلي إلى التراجع وفقا للتعليمات التي لديها بعدم الاشتباك مع البريطانيين.
وكانت معركة الزراعة هي التالية في سلسلة معارك جيش الإنقاذ، وقد خاضها فوج اليرموك الأول ليلة 17/16 فبراير/شباط 1948 على الرغم من صعوبة الأحوال الجوية والقيود التي تفرضها الأراضي الزراعية المغطاة بمياه الأمطار على التحركات.
وقد تمكنت قوات الفوج من المرور عبر الأسلاك الشائكة المحيطة بالمستعمرة تحت نيران غزيرة صبتها القوات الصهيونية، وتوغلت وخاضت قتال شوارع عنيفا، وقد تمكنت وحدات عربية تمركزت على مشارف المستعمرة أن تقطع الطريق على النجدات المرسلة لدعم حاميتها.
وظهرت بوضوح خلال تلك المعركة رداءة أنواع الأسلحة التي يحملها المقاتلون العرب، إذ تعطل نصفها على الأقل، مما أضعف القدرة النارية للهجوم، وأدى إلى وقوع خسائر كبيرة نسبيا (37 شهيدا وأكثر منهم جرحى) في القوات العربية المهاجمة.
ثم توالت المعارك، ومنها في المنطقتين الشمالية والوسطى معارك مشمار هاعميك والنبي يعقوب وباب الواد والقسطل والقدس وحيفا ويافا والمطلة والمنارة والنبي يوشع والشجرة ورامات يوحانان وطبرية وصفد وعكا والمالكية، وكان جيش الإنقاذ يتّبع في قتاله تكتيكا هو مزيج من القتال النظامي وحرب العصابات تبعا للموقف.
أسباب الهزيمةيذكر قائد جيش الإنقاذ فوزي القاوقجي أنه استعلم من المفتش العام لجيش الإنقاذ اللواء نور الدين محمود عن مهمة هذا الجيش بعد يوم 15 مايو/أيار 1948 المحدد لدخول الجيوش العربية النظامية إلى فلسطين، فأجابه أن "هذا الجيش مرتبط بجامعة الدول العربية، ويحسن بقائده أن يسأل الأمين العام للجامعة"، مضيفا "إذا كنت تريد البقاء بجيشك حيث هو فلا بأس، ولكن مهمتكم تنتهي بعد دخول الجيوش النظامية".
ومع دخول الجيوش العربية النظامية وردت برقيات إلى قيادة جيش الإنقاذ من دمشق وعمّان تلح على سرعة انسحاب الجيش، في الوقت الذي شعر قائده من تصريحات الملك عبد الله الأول أن هذا الجيش سيحل قريبا، فوضع القاوقجي خطة للانسحاب تبدأ يوم 17 مايو/أيار 1948 وتنتهي خلال 3 أيام، وهو ما تم.
وقد كانت الهدنة التي فرضها مجلس الأمن الدولي من أسباب الهزيمة وقلب الموازين لصالح إسرائيل بعد أن كان الوضع الإستراتيجي والعسكري لصالح العرب، إذ ساعدت الهدنة العصابات الصهيونية في ترتيب أوراقها وإعادة تنظيم قواتها وتقوية استعدادها وعتادها العسكري.
ومن جانب آخر، فإن القوات العربية النظامية المشاركة في المعركة تفاعلت من منطلق مصالح بلادها الوطنية، وافتقدت الأنظمة المشاركة الثقة في بعضها البعض، ورفضت كل منها وضع قواتها تحت قيادة دولة أخرى، وهو ما انعكس على ضعف إدارة المعركة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات العصابات الصهیونیة القوات الصهیونیة اللجنة العسکریة الدول العربیة الإنقاذ فی إلى فلسطین فلسطین فی فی فلسطین هذا الجیش فی منطقة بعد أن
إقرأ أيضاً:
التاريخ لا يُقرأ من لوحة الغطرسة الصهيونية
تمر العين سريعا على أخبار عربية، فتقع على بؤس لم يتبدل في المشهد الفلسطيني، جرائم حرب وإبادة تستهدف كل شيء، وتستمر على نفس الوقع من الانحطاط والانحدار في المواقف، وفي بقية فلسطين يتشاطر المستعمرون في الضفة والقدس مع جيشهم المجرم في غزة، جرعة قوية من الإرهاب، فيكرر سموتريتش وبن غفير ونتنياهو مقولات ثابتة في العقل والسلوك الصهيوني، عن إبادة "الأغيار"، والتفاخر بتحقيقها في غزة. وما تحقق من نتائج للعدوان على غزة والضفة وإيران وسوريا ولبنان، دفع لُعاب العنصرية الصهيونية إلى السيلان نحو وحشية أكثر وتطرف في الضفة والقدس، وبعدم الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني وبحقه، والإسراع بالسيطرة والاستيطان والتهجير لدفن أي كيان فلسطيني يمكن البناء عليه أو الحديث عنه مستقبلا.
بعد كل هذا، لا ندري أين وكيف ستتحقق رغبات إسرائيل والولايات المتحدة لشرق أوسط جديد، باتباع وصفة "الاتفاقات الإبراهيمية" التي تُبنى عليها آمال كبيرة من تل أبيب وواشنطن، وبعض الواهمين العرب، فإذا انتقلنا لنقطة متابعة ما تحقق سابقا، على صعيد تصديق الخدعة الصهيونية الأمريكية لـ"السلام" لنعرضها لمحاكمة العقل والواقع على الأرض، والاقتراب من أي منجز يمكن ملامسته ولو كان ضئيلا، فلا يجد العاقل من هامشية وهشاشة ما تحقق، سوى النتيجة "الطبيعية" لهذا البؤس المعمم عربيا وفلسطينيا والذي يفتقد حتى لكفاءة المساومة، أو إلزام الخصم بشروط "الصفقة" أو السلام والتطبيع..
من المخجل حقا أن يبتلع بعض النظام العربي الطعم الصهيوني الأمريكي، بعد كل هذه الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وتركيز الجهد والحديث والعمل، على إزالة "بؤرة التوتر" المتصلة بمقاومة الاحتلال. والمشكلة ليست بحاجة لشرح، 75 عام من نكبة واحتلال وما أفرزته على الأرض، فجوهر القضية الاحتلال والمشروع الصهيوني، والتطبيع معه على أساس إمكانية قبول ما غنمه من حقوق في الأرض والتاريخ، والاكتفاء بما بين يديه من إنجازات أو غنائم. لكن تجربة العقود الماضية، التي كان عمودها الفقري في المقولة الأكثر عمومية التمسك "بخيار السلام" كسلاح مقابل عربدة وغطرسة صهيونية، وتوسيع للعدوان وارتكاب جرائم حرب وإبادة وعدم اعتراف بالحقوق والقانون الدولي، يفترض أن تُحدث صدمة كبرى لصحوة البعض البائس والمفجع، بحيث أنه لم يترك بين يديه من سلاح ذو قيمة لمواجهة عدوّه.
فخديعة الرئيس ترامب بالحديث المستمر عن اقتراب الحل في غزة ووقف لإطلاق النار، واستعداد البعض للانخراط في التطبيع مع وحشية المحتل، بعد القضاء على المقاومة، تمهيدا لتنصيب زعامة الغطرسة والقوة الصهيونية باستباحتها كل المنطقة، هي خديعة كل الإدارات السابقة للعرب والفلسطينيين، وهي لم تعد اليوم كذلك لما فيها من وضوح الدعم والإسناد للمشروع الاستعماري الصهيوني.
وهنا سؤال صعب يطرحه المرء على نفسه، حين يراقب معظم الموقف الفلسطيني ومن خلفه مواقف عربية ربطت كل ما يجري بسردية المحتل عن إزالة عقبة "المقاومة" من طريق رغد التطبيع القادم: هل سينتهي الإرهاب الصهيوني المنتشر على طول الأرض وعرضها في فلسطين، وصولا لسيادة عربية مستباحة؟ ألم يكن واضحا للطرف العربي والفلسطيني الرسمي الموقف الأمريكي، بعد تجربة طويلة ومفضوحة من الاستفزاز والتزوير دفاعا عن الإرهاب الإسرائيلي وتبريره وحمايته؟
لم يعد يسمع الأمريكي والإسرائيلي من ديباجة السياسة العربية كلاما واضحا وصريحا، بما يخص القضية الفلسطينية، اقتصرت السياسة في الآونة الأخيرة على إظهار ما يدور في الغرف المغلقة، أي جهر مقترن بالخذلان الكبير الذي تعيشه القضية على وقع الجرائم المستمرة، فلا تسمع نفيا عربيا مباشرا لما يدلقه ترامب من خطط بشأن فرض حليفه الصهيوني زعيما بالقوة، وبالتطبيع مع إرهابه، ولا كلاما فلسطينيا مباشرا بشأن مراجعة كل الرهانات والأوهام السابقة. قبل أيام قال مصدر سوري في تصريحات لقناة إسرائيلية إن بلاده وإسرائيل ستوقعان اتفاقية سلام قبل نهاية العام 2025، وأنها ستتضمن تطبيعا كاملا ستكون الجولان فيه "حديقة سلام". كما لا بيان عربيا يعيد التأكيد على ديباجة القرارات الدولية بشأن سورية الجولان، والتأكيد على حدود الرابع من حزيران/ يونيو عام 1967 لأي حل متعلق بمستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
العدوان الخطير التي يجري في مدن الضفة والقدس، يزامل وحشية الإبادة الجماعية في غزة، وهنا، كما في السابق، لم يطلب الفلسطينيون من عربهم نجدة عسكرية، حتى لا يكرر البعض نموذج الإبادة المطلوب في غزة، لكن يطالبون بالتركيز على فضح طبيعة الإجرام الصهيوني وإرهابه، وعزله وحصاره، والمطالبة بمحاكمته أمام العدالة الدولية، وهذا أضعف الانحياز لمبادئ العدالة والقانون الدولي والإنساني، لمن يعتنق ممارسة السياسة المحكومة بعدالة وأخلاق، وليس بخلط أنصاف الحقائق المفلترة سلفا.
لليوم وبعد كل هذا الإرهاب الصهيوني، الذي يواجه رفض وغضب شوارع غربية وعالمية، لم تشعر المؤسسة الصهيونية بضغط أو خطر يدفع إسرائيل للتراجع عن ممارسة الإرهاب وارتكاب الجرائم، فرغم كل الشواهد وحقائق الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، هناك على أطراف العالم العربي وداخله انهيار للمواقف، ولحظة ترقب استسلام فلسطيني لتتويج عصر "السلام" الصهيوني، لحظات مرت من قبل في محطات كثيرة من كامب ديفيد 1979، وتوجت في أوسلو 1993، ووادي عربة قبل أكثر من ثلاثة عقود، وهي حقائق تكشفت وتعري عن هذه "المعجزة" الكثير.
فكل ما يُطرح من أعجوبة التطبيع، الملحق بمعجزة "السلام" والمقدم إسرائيليا وأمريكيا على أنه مفتاح الفرج وسبب للتفاؤل بالمستقبل، يتم فوق بالأعالي، حيث التجريد والتسطيح لكل شيء، للعدالة وللقانون وللحق، بعيدا عن بديهيات التاريخ والواقع، فظن من فرح بمعجزة أمريكا وأعجوبة الغطرسة الصهيونية أن أرض الواقع الذي يتميز بصرامته وقسوته لن يصيب هذه العناصر بالتحلل، لكنها عادت لسابق عهدها وتكشفت المعجزة عن مسخ ميت في المهد.
أخيرا، المشغولون بنسيج الكلام عن التطبيع الإسرائيلي مع هذا النظام العربي وغيره، وتفجير لغة الإرهاق من القضية الفلسطينية، فقط ندعوهم لمراقبة مواقف شعوب ونخب غير عربية تجاه نظام الفصل العنصري الصهيوني، وجرائم الحرب والإبادة الجماعية، ومطالبهم بعزل وحصار إسرائيل باعتبارها كيانا استعماريا إحلاليا في المنطقة، وخطرا على السلم العالمي. فترديد نبرة وسردية صهيونية، تقتل روح الإنسان ولا توقظ من عقله شيئا في فضاء الظلم والقهر، تبقى نبرة محاصرة ومعزولة ومتفسخة، فمن صفق للهزائم التي مضت وللهزائم القادمة، سيبقى مصدوما من أيام هاربة من تاريخ الوهم الذي يحاول الانتماء له والعيش في ظله. والتاريخ والمجتمعات حركة مستمرة، والمستقبل مفتوح دوما على كل الاحتمالات، والتاريخ العربي والفلسطيني لن يُقرأ أبدا من لوحة الغطرسة الصهيونية ولا من عبرنته وتزويره.
x.com/nizar_sahli