العرب: بين تحديات الحاضر وطموحات المستقبل
تاريخ النشر: 10th, August 2024 GMT
د. محمد بن عوض المشيخي **
الإنسان العربي يكاد يكون هو الوحيد في هذا الكوكب الذي يراوده الحنين إلى الماضي التليد الذي يعتقد أنَّه لن يعود يومًا؛ فالذكريات الجميلة أجمل عزاء لمن ضاقت به الدنيا بمصائبها الكثيرة وحاصرته الدروب بدهاليزها المظلمة، ويعود ذلك إلى الحاضر العربي المؤلم والصعب والمُثقل بالهزائم، والتحديات التي غطّت السماء من المحيط إلى الخليج بغيومها السوداء وأحزانها القاتمة، ذلك لكون اليوم أرخص دم في العالم هي دماؤنا العربية، وما يحصل في بلاد العرب من قتل وانشقاق وخلافات لا تنتهي بين أبناء الأمة الواحدة، خير دليل على مصائبنا من نكسات وهزائم بعضها نفسية والأخرى عسكرية.
صحيح قد بزغ نجم العرب مرة واحدة في التاريخ فقط؛ بظهور الإسلام في الجزيرة العربية وتحديدًا في مكة المكرمة، ثم تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة بعد أن شرفها الرسول الكريم محمد بن عبدالله بهجرته إليها، فقد كانت القبائل العربية تعيش في ضعف وخلافات وتشرذم بين نفوذ الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية مثل حالها اليوم! لكن الله أعزَّ العرب بالإسلام، خاصة بعد انطلاق رسالة التوحيد لدعوة مختلف الشعوب والدول في العالم للدخول في دين الله الحنيف شعوبًا وقبائلًا وحكامًا، بدايةً من خاتم الأنبياء والمرسلين الذي دعا الملوك والحكام والناس كافة، ثم قيام الخلفاء الراشدين والدول التي ظهرت تباعًا باتباع نفس النهج. لقد امتد نفوذ الدولة الإسلامية في عصرها الذهبي من الصين شرقًا إلى الأندلس غربًا؛ حيث أصبحت اللغة العربية هي لغة العِلْم في العالم كله. لكن كما ذكر الفيلسوف العربي ومؤسس علم الاجتماع ابن خلدون، فإن المجتمعات والشعوب وأنظمة الحكم تشيخ وتزول عندما توصل إلى أعلى درجات الرفاهية والبذخ، فيصيبها الضعف والانحدار. وبالفعل تزامن انهيار الدولة العباسية التي كانت تحكم مُعظم شعوب العالم من قلب بغداد، بعد أن قضى عليها التتار بقيادة هولاكو، مع تساقط الدويلات العربية واحدة بعد الأخرى في الأندلس بسبب الخيانات التي أصبحت سِمة للأمراء والحكام في الممالك العربية قديمًا. ومنذ ذلك الحين، لم تقم للعرب قائمة، وأصابهم الضعف وأصبحوا اتباعًا للأمم الأخرى، بعد ما كانوا أسيادًا للعالم بفضل الإسلام الذي أعزهم ورفعهم إلى أعلى درجات المجد، ولكن عند ابتعادهم عن تعاليم الدين الحنيف أذلهم الله.
ولعلنا الآن نشاهد يوميًا كيف أصبح بعض من أبناء جلدتنا من العرب يصطفون مع الصهاينة ويساندون بني صهيون من المتطرفين اليهود أمثال الثلاثي: نتنياهو وبن جفير وسموتريش الذين يرددون سرًا وجهرًا وكل يوم بأن أمنيتهم الأبدية هي ليس القضاء فقط على الفلسطنيين؛ بل أيضا على الجنس العربي ومحوه من الوجود! بينما يقوم بعض ضعفاء النفوس من المرتزقة في الأراضي المُحتلة بخيانة الأمانة الوطنية وتزويد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية- خاصة الشاباك والموساد- بالمعلومات التي تودي في كثير الأحيان إلى استشهاد مئات الأطفال والنساء من أهلهم وإخوانهم في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، وذلك مقابل حفنة من الأموال المُلطخة بدم الأبرياء.
والسؤال المطروح الآن: متى تستشعر الشعوب العربية وحكامها خطورة ما يحيط بالأمة العربية من مؤامرات؟
الإجابة على هذا السؤال ليست بالأمر السهل أو الهيِّن، ولكن ما يمكن الاسترشاد به وهو علم اليقين، قول الله عز وجل في كتابه العزيز "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد: 11).
لقد حان الوقت لهذه الأمة العظيمة أن تنفض الغبار عن نفسها وتتناسى الخلافات وتصلح ذات البين، وأن تُدرك الدسائس والمؤامرات التي تُحاك لها من الأعداء الذين يُعّدُون العدة لكي نبقى في مربع الضعف والذل والمحافظة على ذيل القائمة في هذا العالم الذي يتقدم كل يوم إلى اعلى المراتب، بينما نحن نتراجع على الدوام إلى الخلف. الحقيقة المُرَّة التي يعرفها الجميع هي أن الانانية والسيطرة والرغبة العمياء في منطقتنا للاستحواذ على السُلطة وإن كانت منقوصة في الأساس بسبب التدخل الأجنبي في الشؤون العربية عبر عقود، وقبل ذلك كله حب المال والحنين للعيش في القصور والتفاخر لدى البعض بالمناصب، كل ذلك من أشد التحديات التي تواجه الأمة في هذا العصر.
لا شك أن القرارات غير المدروسة والخيانات التي صاحبت تلك القرارات هي أسوأ المصائب التي أصابت الامة في مقتل؛ بدايةً من "وعد بلفور" ومن تعاون من العرب مع بريطانيا في ذلك الوقت؛ مرورًا بنكسة يونيو 1967، ووصولًا إلى حروب الخليج الثالثة، التي لا زلنا ندفع فواتيرها حتى اليوم، ليس فقط في الخسائر البشرية وفقدان الأوطان والأموال؛ بل أيضًا في الأمراض الفتّاكة التي تسببت فيها تلك الحروب، وكذلك تفرق شمل الأمة وازدياد الخلافات والانقسامات بين شعوب العرب.
يبدو لي أن أكبر المصائب التي حلّت بالأمة هي تقسيم الوطن العربي إلى دويلات صغيرة، ووضع حدود مُصطنعة بين هذه الأقطار، بقصد إشعال الفتن بين أبناء الأمة الواحدة، فتلك الحدود وضعتها الدول الاستعمارية قبيل انسحابها، وهي أقرب إلى القنبلة الموقوتة التي يمكن لها أن تنفجر في لحظةٍ ما، وذلك بسبب خلافات الأنظمة التي لا تنتهي والتي تعتمد استمراريتها في الحكم على التمدد والاعتداء على الجيران، كلما سنحت الفرصة لذلك؛ فالدول الكبيرة تحاول أن تسيطر على الدول الصغيرة الجديدة، وتكيد لها انطلاقًا من الرغبة في السيطرة على الآخر، بعيدًا عن القوانين والأنظمة التي يُفترض أن تُحترم وتكون مرجعًا بين الأشقاء.
وفي الختام.. الأنظار تتجه أكثر من أي وقت مضى نحو النخب العربية المُثقَّفة وأصحاب الحل والعقد من علماء الأمة، لأن يدركوا بما لا يدع مجالًا للشك، أن ساعة التغيير قد حانت الآن، ولا مجال لنا جميعًا إلّا نبذ الخلافات وإصلاح ذات البين، وترك الأنانية وحب الذات، فلا يوجد طريق آخر أمامنا غير الاتحاد والالتزام بثوابت الأمة التي فيها النجاة والخلاص من الماضي المُرّ والحاضر الذي لا يُرضي عدوًا ولا صديقًا؛ فتراودنا طموحات مشروعة نحو غدٍ مشرق ينتشلنا من القاع إلى القمة، وغايتنا اعتلاء المكان الذي يليق بنا بين الأمم الحية والقوية؛ فالعالم اليوم يفتح أبوابه لكل من يعرف إلى أين ذاهب!
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
أحلام العرب في نظام عالمي يتشكل .. حديث بلا مرتكزات
قادني الحظ، وربما القدر، إلى لقاء فكري مزدوج مع أمين عام جامعة الدول العربية الأسبق عمرو موسى مرتين خلال أقل من أسبوع واحد. المرة الأولى في محاضرة محدودة الحضور ألقاها في مسقط يوم الاثنين الماضي، والثانية مع حوار مطول أجرته معه جريدة الشرق الأوسط ونشرت منه حلقتين من أصل أربع حلقات حتى لحظة كتابة هذا المقال.
والحق أن عمرو موسى قدم في محاضرة مسقط تشخيصا دقيقا لما وصفه بـ«أزمة الشرعية الدولية» التي يعيشها العالم. فالمؤسسات التي شُيّدت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وفي مقدمتها مجلس الأمن، باتت عاجزة عن أداء أدوارها الأساسية المتمثلة في حفظ السلم، وحماية الدول الضعيفة، وتطبيق القانون الدولي بمعاييره الأخلاقية والحقوقية. لم يكن حديث عمرو موسى اجترارا لمقولات الانهيار بقدر ما كان دعوة للمشاركة في لحظة إعادة التشكيل الكبرى للنظام الدولي، وهي لحظة يبدو أن إرهاصاتها بدأت بالفعل.
لكن الأمر الذي شدني كثيرا في حديث موسى ولم يسمح الوقت بالتداخل حوله بعد المحاضرة لم يكن، فقط، تحليله لانهيار النظام، بل كان بشكل أخص سؤاله الاستشرافي: من سيقود العالم نحو هذا النظام الجديد؟ هل تستمر الولايات المتحدة في القيادة المنفردة رغم تآكل مشروعها العالمي؟ أم أننا ننتقل إلى تعددية قطبية ثنائية تقودها أمريكا والصين، أو ثلاثية تدخل فيها وروسيا أم رباعية تضاف لها أوروبا؟ ثم، وهذا هو الأهم بالنسبة لما كنت أريد التداخل حوله، ما موقع العرب من هذه المعادلة؟ وفي اعتقادي أن هنا جوهر الإشكالية.
نطوي رؤية عمرو موسى على افتراض بأن العالم العربي قادر ـ من حيث المبدأ على الأقل ـ على أن يكون طرفا فاعلا في تشكيل النظام العالمي القادم!! لكن مراجعة الواقع العربي على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي والمعرفي، تُظهر فجوة كبرى بين الواقع والطموح، وبين ما يُقال في المؤتمرات، وما يُمارس في ساحات السياسة الداخلية والخارجية!
العالم العربي اليوم أبعد ما يكون عن تشكيل رؤية جماعية أو بناء موقف موحد تجاه التحولات الدولية. وتعيش المنطقة العربية منذ سقوط النظام الإقليمي العربي بعد الغزو الأمريكي للعراق في أبريل 2003 حالة تفكك مستمرة يمكن قراءتها من عمق التدخلات الإقليمية في الشأن العربي من أطراف غير عربية، ومن الصراعات الداخلية لا تنتهي في الكثير من الدول العربية، ومن التحالفات المتضاربة التي تضعف العالم العربي ولا تقويه، بل إنها تسير على عكس أحلام وطموحات الشعوب، إضافة إلى أزمات الهُوية التي تعصف بمفاصل الدولة الوطنية في بعض الدول العربية، أضف إلى ذلك أن بعض الدول العربية لا تزال تعاني من هشاشة بنيوية تجعلها أقرب إلى ساحات لتصفية الحسابات الخارجية منها إلى أطراف فاعلة وقادرة على المساهمة في صناعة السياسات الدولية.
التغيرات التي أشار إليها عمرو موسى في بنية النظام العالمي ـ وهي صحيحة من وجهة نظري ـ لا تعني بالضرورة أن جميع الأطراف مؤهلة لتقوم بأدوات أساسية أو حتى ثانوية في هذا التغيير. والنظام العالمي المنتظر لا يتشكل بناء على الرغبات أو الخطابات، بل على أساس موازين القوى الصلبة والناعمة المتمثلة في الاقتصاد، والتكنولوجيا، والموارد الطبيعية، وكذلك في النفوذ الثقافي والمعرفي، وفي القدرة على صناعة المبادرات. وأين العالم العربي من هذه الأدوات اليوم؟!
وإذا كانت التكنولوجيا هي التي تشكل قوة العالم اليوم سواء في صناعة المعدات العسكرية أو صناعة الإعلام وبناء السرديات القادرة على إقناع الجماهير في العالم فإن العالم العربي، في مجمله، غائب عن كل هذا، وغائب بشكل أساسي عن معارك الذكاء الاصطناعي وعن نهضة التعليم والتصنيع العالي، وعن حروب السرديات الكبرى رغم ما أحدثته حرب غزة من تحول في قوة السردية الفلسطينية على السردية الإسرائيلية. ومما يؤسف له أن الكثير من وسائل الإعلام العربي تحولت إلى أدوات أو أذرع لصراعات بينية بين الدول العربية في وقت تستخدم فيه الدول الكبرى الإعلام سلاحا ناعما لتحقيق نفوذ جيواستراتيجي عابر للقارات. ويُذكرنا هنا ما أشار إليه جوزيف ناي، من أن من لا يملك أدوات القوة الناعمة سيبقى خارج معادلات النفوذ، وهو حال العالم العربي الذي فقد السيطرة على سرديته الإعلامية والثقافية.
أما على المستوى الفكري، فإن الوعي السياسي العربي ما زال يدور في فلك الدولة القُطرية الريعية كما يقول المفكر محمد عابد الجابري دون أن يستطع تجاوز ذلك إلى فكرة المشروع الإقليمي أو الدور الحضاري العالمي. وهذا الجمود الثقافي يوازيه ضعف مؤسسي في إنتاج المعرفة وتطوير الكفاءات، وهو ما يجعل الحديث عن المشاركة في صياغة نظام عالمي جديد أقرب إلى أُمنية نبيلة منها إلى خطة واقعية.
إضافة إلى ذلك فإن بعض الدول العربية تعاني من انهيارات داخلية لا تقل فداحة عن فشل النظام الدولي نفسه.. كيف يمكن لدولة منهكة بالانقسام الطائفي، أو مثقلة بديون خارجية، أو مرتهنة لتحالفات إقليمية متناقضة، أن تدخل في حوار لرسم النظام العالمي؟ وكيف يمكن لعالم عربي ما زال يتجادل حول أولويات التعليم، وحرية الصحافة، وحقوق المواطنة، أن يقترح حلولا للمشاكل العالمية الكبرى أو أن يصلح مجلس الأمن؟!
وحين تحدث عمرو موسى عن «التغيير في الشرق الأوسط»، وأشار إلى أن ما يجري لا يمكن أن يكون لصالح إسرائيل وحدها، بدا واضحا أنه يقاوم سردية الهيمنة الإسرائيلية على حساب خمس دول عربية مركزية هي مصر والعراق وسوريا والأردن ولبنان، لكن واقع الحال يُظهر، مع الأسف الشديد، أن إسرائيل، رغم كل تناقضاتها وجرائمها، تدير صراعاتها انطلاقا من مشروع واضح لديها، بينما تعاني الدول العربية مجتمعة من غياب المشروع العربي الشامل، وغياب من يمسك بخيوطه.
لا أريد في هذا المقال أن أقلل من أهمية الطموح الذي انطلق منه عمرو موسى في رؤيته أو دعوته للدور العربي في هذه اللحظة التاريخية ولكن أريد فقط أن نتذكر في العالم العربي أن هذه اللحظة العالمية لا تنتظر أحدا أبدا. وأن النظام الدولي يتغير، وأن التحالفات يعاد ترتيبها بشكل كامل. ومن يريد أن يكون فاعلا عليه أولا أن يبني شروط الفاعلية التي نحتاجها في العالم العربي وهي وحدة الصف، وإعادة تأهيل البنى السياسية، والاستثمار في المعرفة، والأهم من ذلك أن نبدأ مرحلة مصالحة من ذواتنا.
لن يكون العرب مجرد ضحايا لتاريخ لا يشاركون في كتابته، بل سيكونون شهودا صامتين على ولادة عالم لا يعترف بوجودهم؛ فأن تفوتك فرصة المساهمة في تشكيل النظام الجديد، هذا يعني أنك تفقد لاحقا حتى حق التظلم من ملامحه ومبادئه وقيمه.
عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة «عمان»