الثقافة من العاصمة إلى المحافظات
تاريخ النشر: 10th, September 2024 GMT
يعرّف ندين لإدوارد تايلور (ت 1917م) الثّقافة بأنّها: «الكلّ المركب الّذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفنّ والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى الّتي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع»، فالثّقافة ضرورة لإفراز طاقات المجتمع وإبداعه، فهي لا تنحصر في زاوية محدّدة، كما أنّها لا تهمش الزّوايا الأخرى، ولا تنطلق من أيديولوجيّة ضيّقة.
وإذا ارتفعت الثّقافة كوجود مؤسّسي في المجتمع، وقلّ الاهتمام بها، والالتفاتة إليها، تتوسع دائرة الفراغ، ليملأ بدوائر أخرى قد تحمل طابعا متطرّفا، أو رؤية لاهوتيّة ضيّقة، أو على الأقل نفقد طاقات إبداعيّة يمكن أن تخرج هذه الإبداعات الجماليّة الّتي تعطي رسائل إيجابيّة في المجتمع، أو توجه هذه الطّاقات الإبداعيّة لأغراض خارجيّة وسلبيّة.
عندما أتحدّث هنا عن الثّقافة؛ أتحدّث عن الثّقافة من منظورها الواسع، والمرتبط بالجمال الإنسانيّ، من حيث العقل والقلب والبدن، والإسقاط الخارجيّ النّاتج عن هذه الثّلاثة، فهناك ثقافة العقل وما يرتبط بها من معارف، ومن ابتكارات علميّة، ومن نتائج عقليّة، ومن قراءة للتّأريخ والواقع برؤية منفتحة تضفي شيئا من العمق والتّعدّديّة المعرفيّة.
كما أنّ هناك ثقافة القلب والضّمير والوجدان، المرتبطة بثقافة الفنّ والجمال والأدب، ويصنّفها شوبنهاور (ت 1860م) تصنيفا هرميا، «فيرتبها حسب ما تعبّر عنه من مُثل تكون نابعة من قوى الإرادة، فالمثل الخاصة بقوى الطّبيعة غير العضويّة هي أدنى درجات المثل تعبيرا عن الإرادة، لهذا نجده يرى أنّ فنّ العمارة أدنى درجات الفنون؛ لأنّ المنفعة تتغلّب على الجانب الجماليّ، فيرتفع إلى فنّ النّحت وبعده التّصوير، ويعتبر الشّعر أعلى درجة من التّصوير؛ لأنّه يعبّر عن المثل بواسطة الخيال الّذي يجسّد التّصورات عن طريق الكلمات، أمّا الفنّ الّذي له مكانة عليا عنده فهو فنّ الموسيقى، فالموسيقى عنده كالأعداد والأشكال تكشف عن قانون الوجود، عن الفرح في ذاته، وعن الحزن في ذاته، والموسيقى عالم مستقل من عالم الظّواهر المحسوسة؛ لأنّها تجسّد قوانين الوجود، ولكنّها لا تحاكيه».
وأمّا البدن فهناك ثقافة الرّياضة الشّعبيّة التّقليديّة والرّياضات المعاصرة، وما يرتبط بالبدن عموما، جميع هذه الجوانب الثّلاثة أي العقل والقلب والبدن لها إسقاط ثقافيّ وجماليّ في الخارج، من حيث الوجود بشكل عام، ومن حيث ثقافة المنطقة الّتي ولد فيها الإنسان بشكل أخصّ، وأثر ذلك على طعامه ولباسه وغنائه وأدبه وفنّه وعاداته وتقاليده، ونتاجه المعرفيّ والثّقافيّ.
هذه الرّؤية الواسعة للثّقافة تعطي مساحة واسعة من حريّات الإبداع الثّقافيّ، والّذي ينبغي أن تحتضنه مؤسّسات قادرة على تفعيل هذا التّنوّع والإبداع الثّقافيّ، ولا ينبغي كبت هذا الواقع، ولا خسران مثل هذه الإبداعات؛ لأنّ المؤسّسات الثّقافيّة دورها احتضان وتنميّة مثل هذه الجوانب، ودعمها لتملأ الفراغ المجتمعيّ عند النّاس عموما بشكل عام، وعند الشّباب والمبدعين والموهوبين منهم بشكل خاصّ، حيث يخرجون طاقاتهم الإبداعيّة، ويوجهونها في خدمة الوطن وتنميته، وخدمة الإنسان فيه، بدل أن تستغلّ وتستثمر خارجيّا، وقد توجه ضمن جماعات متطرّفة، أو لها أغراض أيدلوجيّة أو سياسيّة لا علاقة للوطن وتقدّمه بها.
لهذا حصر النّشاط الثّقافيّ واقتصاره عند مركزيّة العاصمة حالة سلبيّة وليست عمليّة بشكل عام، نعم، نشاط الجانب الثّقافيّ في العاصمة حالة طبيعيّة، لسبب تمركز العديد من المواهب والإبداعات فيها، لسبب العمل أو الدّراسة أو الاستقرار الكامل نتيجة الهجرة، لما يجدونه فيها من سعة فضاء حريّة الإبداع الثّقافيّ ما لا يجدونه في مدنهم لسبب الحالة الانغلاقيّة نتيجة بعض العادات الّتي تعوق الإبداع الثّقافيّ، كما يجدون في العاصمة مؤسّسات حاضنة بشكل أوسع، لكن أن يتحوّل هذا إلى ظاهرة تقصر الإبداع الثّقافيّ في العاصمة أو مدن معينة من المجتمع؛ هي ظاهرة ليست حسنة على المدى البعيد، ويفقد المجتمع بها طاقات إبداعيّة، كما في الوقت نفسه ستنقرض فيه ثقافات على مستوى اللّغة واللّهجات والفنون والعادات والتّقاليد شيئا فشيئا، لسبب تمركز الحالة الثّقافيّة في العاصمة، أو تتوقف عند المدن فقط.
وعُمان - كما أسلفتُ في أكثر من مناسبة - تحوي من التّعدّديّة الثقافيّة، في جميع الجوانب المتعلّقة بالعقل والقلب أو الرّوح والبدن، وإسقاطاتها الجماليّة والثّقافيّة في الواقع الخارجيّ، هذا يحتاج إلى مؤسّسات قادرة على تفعيل ذلك، والحفاظ على التّراث الثّقافيّ، وتنمية الإبداعات الثّقافيّة المعاصرة، وبما أنّ عُمان استطاعت في هذه النّهضة المتجدّدة أن تنتقل من مركزيّة العاصمة إلى الشّراك من خلال المحافظات، فينبغي أن نجد حضورا ثقافيّا واسعا في المحافظات، على الأقل مبدئيّا على مستوى عواصم هذه المحافظات، حيث رأينا سلفا نشاطا في بعضها، وركودا عند الأغلب، بيد أنّه أيضا لا ينبغي أن يقتصر الجانب الثّقافيّ عند مهرجانات سنويّة، وإن كانت حالة صحيّة، إلّا أنّ الحالة المهمّة هنا يتمثل في خلق مؤسّسات ثقافيّة فاعلة وقادرة على احتضان التّنوّع الثّقافيّ في المحافظات، مع دعمه وتشجيعه، وعدم قصره عند زوايا معينة.
هناك العديد من المؤسّسات الثقافيّة في المحافظات، من نواد ثقافيّة ورياضيّة، ومن مراكز ثقافيّة وجامعات أهليّة ومكتبات ومبادرات شبابيّة، بيد أنّها تحتاج إلى استراتيجيّة وفق مركزيّة المحافظات ذاتها، لتحضى بالدّعم الماديّ والمعنويّ، لنرى في المستقبل ليس حضورا ثقافيّا فحسب، بل تنافسا في ذلك، يخلق إبداعات تنافسيّة، يرفع من قيمة المحافظة ذاتها، ويجعل اسمها حاضرا ليس على المستوى القطريّ، بل عابرا لفضاءات أوسع، ويضيّق من دائرة الفراغ، أو فقدان المواهب والإبداعات، أو استثمارها سلبا لأغراض تطرفيّة، أو هجرتها إلى خارج الوطن ذاته.
بدر العبري كاتب مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی العاصمة الث قافی ة الث قافة مؤس سات ثقافی ة
إقرأ أيضاً:
“النقل النيابية “تناقش عدة مواضيع متعلقة بقطاع النقل
صراحة نيوز ـ ناقشت لجنة الخدمات العامة والنقل النيابية، برئاسة النائب الدكتور أيمن البدادوة، عدة مواضيع هامة تتعلق بقطاع النقل في المملكة.
وحضر الاجتماع الذي عقدته اللجنة، اليوم الثلاثاء، مساعد رئيس مجلس النواب محمد المراعية، ووزيرة النقل وسام التهتموني، ومدير هيئة تنظيم النقل البري المهندس، رياض الخرابشة.
وقال البدادوة، إن اللجنة تضع قطاع النقل ضمن أولى أولوياتها نظرًا لتأثيره المباشر واليومي في حياة المواطنين وسهولة تنقلهم، مشيرًا إلى أن تحسين خدمات النقل يسهم في رفع جودة الحياة وتعزيز الإنتاجية الاقتصادية.
وأكد أهمية تعزيز التنسيق والتكامل بين مختلف الجهات المعنية بقطاع النقل، بما في ذلك الوزارات والمؤسسات والبلديات، لتسريع تنفيذ الخطط والمشاريع الاستراتيجية الرامية إلى تطوير البنية التحتية.
بدورهم دعا النواب، هايل عياش، سليمان السعود، محمد المراعية، وليد المصري، نبيل الشيشاني، زهير الخشمان، معتز أبو رمان، جهاد مدانات، تيسير العدوان، رائد رباع، وأحمد شديفات، إلى ضرورة إيجاد حل جذري لمشكلات وسائل النقل المنتشرة في المحافظات، خاصة في القرى، حيث لوحظ عدم التزام بعض خطوط النقل بالوصول إلى نهاية مساراتها.
كما طالبوا بتحسين محطة النقل في محافظة الزرقاء وتفعيل السكك الحديدية بين المحافظات لتقليل زمن التنقل وتعزيز سهولته، مشددين على ضرورة تعديل قانون النقل وإعادة النظر في الهيئات وتعدد المرجعيات التي تعيق فرص الاستثمار في القطاع، ومؤكدين أهمية قطاع النقل في رفد خزينة الدولة وتوفير فرص عمل للمواطنين.
من جهتها، أكدت التهتموني حرص الوزارة على معالجة تحديات قطاع النقل، خاصة قضايا الفوسفات والإضرابات، من خلال التعاون المستمر مع الشركات الخاصة لضمان استقرار القطاع وتحسين جودة الخدمات للمواطنين.
وأوضحت أن الوزارة تعمل على تنظيم تطبيقات النقل غير المرخصة عبر تحديث القوانين والتعليمات، مع فتح المجال أمام الشركات الراغبة في تصويب أوضاعها، بما يوازن بين تشجيع الاستثمار وحماية حقوق الركاب.
وشددت على أهمية الحفاظ على التاكسي الأصفر كوسيلة نقل رسمية وأصلية، وضمان استمراره ضمن منظومة النقل العام لتحقيق العدالة بين مختلف المشغلين وخدمة الصالح العام.
وبينت ان الوزارة تولي اهتمامًا خاصًا لتنظيم باصات نقل طلاب المدارس لضمان سلامتها الفنية وتشغيلها القانوني، مع وضع شروط صارمة لصلاحية المركبات وعمرها التشغيلي بهدف توفير نقل مدرسي آمن ومنظم يتوافق مع معايير النقل العام ويحمي حقوق الجميع.
وقالت التهتموني، إن الوزارة بدأت منذ عام 2019 تطبيق نظام خاص لتخصيص مركبات مؤهلة وآمنة تحمل شعار “لائقة للنقل”، في مواجهة تحدي استخدام مركبات غير مرخصة لنقل طلاب المدارس، خاصة في المناطق التي تفتقر إلى الرقابة، مع الالتزام بعمر تشغيلي محدد لضمان سلامة الأطفال، وتحسين مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين في مختلف المحافظات، لا سيما في المناطق البعيدة والقرى التي تعاني من ضعف في خدمات النقل العام.
وأشارت إلى إطلاق مشروع للنقل بين المحافظات، الذي بدأ بين الزرقاء وعمان، لتحسين الربط والتنقل بين المناطق، مؤكدة أن الهيئة المعنية بالنقل ستعمل على إيجاد حلول مناسبة لخدمة المواطنين في الأحياء عبر وسائل نقل متنوعة تلبي احتياجاتهم اليومية
بدوره، قدم الخرابشة عرضًا تفصيليًا حول خطط هيئة تنظيم قطاع النقل البري لتحسين منظومة النقل، مؤكدًا أن الهيئة تسعى إلى تنظيم القطاع وتعزيز جودة الخدمات من خلال الرقابة الفاعلة وتحديث أسطول المركبات.
كما أشار إلى إطلاق مبادرات تهدف إلى رفع كفاءة التشغيل وضمان استدامة تقديم الخدمة للمواطنين بما يواكب احتياجاتهم.
وفي السياق ذاته، أعلن الخرابشة أن مسودة التعديلات المقترحة على نظام عمل التطبيقات الذكية أصبحت جاهزة، ومن المقرر عرضها على مجلس إدارة الهيئة تمهيدًا لإقرارها، وذلك ضمن نهج تشاركي يراعي مصالح جميع الأطراف ويحقق التوازن المطلوب في سوق النقل