هل انتصر تصحيح المسار في تونس؟
تاريخ النشر: 20th, September 2024 GMT
عندما أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد أمام مجلس الأمن القومي عن "إجراءات" 25 تموز/ يوليو 2021 باعتبارها تفعيلا للفصل 80 من الدستور التونسي، حرص الخطاب الرسمي وهوامشُه في الموالاة الحزبية والنقابية والمدنية على شرعنة "تصحيح المسار"؛ باعتباره ضرورة "إنقاذية" مؤقتة هدفها "عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال".
لا شك عندنا في أن "تصحيح المسار" لم يكن لينجح دون دعم نشط من الدولة العميقة ومن القوى الإقليمية المشكّلة لمحور التطبيع والثورات المضادة، أي لم يكن لينجح لولا التقاء مصالح عدة أطراف محلية وخارجية في مطلب إنهاء الربيع العربي وإجهاض التجربة الديمقراطية الهشة. فرغم هشاشة الديمقراطية التونسية وعدم وجود أي نية لتصدير "النموذج التونسي"، فإن الثورة التونسية قد مثلت تجربة ملهمة، أي تجربة خطرة على اللوبي العسكري في "الجارة الكبرى"، نجاح الرئيس -إلى حدود هذه اللحظة- في مدّ سلطة المنظومة القديمة (الشوكة) بشرعية جديدة (تصحيح المسار) لا يعكس فقط قوته الذاتية أو قوة داعميه في أجهزة الدولة الصلبة وخارجها، بقدر ما يعكس قابلية مسار الانتقال الديمقراطي برمته للانقلاب، أي قابلية مكوناته للتدجين والتوظيفكما مثّل التصالح بين الإسلاميين (خاصة أصحاب المرجعية الإخوانية) وبين "العلمانيين" تهديدا وجوديا للإسلام الوهابي الرافض لأي مصالحة بين الإسلام والديمقراطية، كما مثّل تهديدا جديا لكل أشكال الحكم "الجبري" بأشكاله؛ العسكرية والقبلية والطائفية.
ولكننا نؤمن أيضا بأنّ نجاح الرئيس -إلى حدود هذه اللحظة- في مدّ سلطة المنظومة القديمة (الشوكة) بشرعية جديدة (تصحيح المسار) لا يعكس فقط قوته الذاتية أو قوة داعميه في أجهزة الدولة الصلبة وخارجها، بقدر ما يعكس قابلية مسار الانتقال الديمقراطي برمته للانقلاب، أي قابلية مكوناته للتدجين والتوظيف في مشاريع سياسية تحقق بالقوة العارية ما عجزت أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" عن تحقيقه بالتحريض على الانقلاب منذ المرحلة التأسيسية.
لقد جاء "تصحيح المسار" لينقل الصراع من دائرة الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدّل إلى دائرة الديمقراطية المباشرة والنظام الرئاسوي. وقد عكس هذا الانتقال تحوّل كل الأجسام الوسيطة -باعتبارها مركز الديمقراطية التمثيلية- إلى موضوع للاستهداف السلطوي ولاستراتيجيات الهيمنة، واحتكار "الإرادة الشعبية" باعتبارها إرادة واحدة لا انقسام فيها، ولا تضارب في المصالح المادية والرمزية لمكوّناتها الطبقية والفئوية والجهوية. فالديمقراطية المباشرة تكتسب علة وجودها من المصادرة على انتهاء زمن الأحزاب وانتفاء الحاجة إليها وإلى غيرها من الأجسام الوسيطة، كما تكتسب الديمقراطية المباشرة/المجالسية شرعيتها من قدرة "الزعيم-المنقذ" على الحكم دون إشراك تلك الأجسام الوسيطة، وبالاستعاضة عنها بهياكل جديدة لا تعكس اللامركزية وتعدد السلطات (كما هو الشأن في النظام البرلماني المعدّل)؛ بقدر ما تعكس تبعية أصلية لمركز القرار الأوحد في قصر قرطاج وفي النظام الرئاسوي (الوظيفة التنفيذية) بعد أن تمت دستَرة صلاحياته وتحصينها بصورة تجعل من الرئاسة مؤسسةً فوق الرقابة والمساءلة برلمانيا وقضائيا، بل حتى إعلاميا.
إذا كان هناك نجاح لا يمكن التشكيك فيه لتصحيح المسار فإنه نجاح النظام في الاستفادة من المخيال السياسي الجمعي المرتبط بشخصنة السلطة والتوجس من لامركزية القرار. فالسلطة في تونس كانت دائما مشخصنة سواء بعد الاستقلال الصوري عن فرنسا أو في مرحلة الاستعمار المباشر، والمؤسسات والأجسام الوسيطة لم تكن خلال اللحظتين الدستورية والتجمعية من تاريخ تونس إلا ديكورا "ديمقراطيا" في خدمة الزعيم وعائلته وحزبه وجهته، وهو ما جعل المواطنين لا يثقون كثيرا في المؤسسات ويستعيضون عنها بالشبكات الزبونية والعلاقات الشخصية.
زيّن الوعي المؤدلج لأغلب "القوى الديمقراطية" أن ترى في الرئيس -غير المسنود بحزب ولا بتاريخ نضالي ولا بلوبي جهوى صلب- مجرد مشروع انقلابي مؤقت سيحتاج إليها بالضرورة للتخلص من الخطر المشترك عليهم جميعا: الإسلام السياسي أو الديمقراطية التمثيلية التي تجعل من ذلك الإسلام السياسي مركز السلطة. ولم يكن الرئيس يحتاج إلى أكثر من تغذية هذا الوهم ليحافظ على دعم نشط من تلك القوى
وبحكم هيمنة النظام البرلماني المعدل على مرحلة الانتقال الديمقراطي، فإن فتنة "المنقذ" أو العودة إلى السلطة المشخصنة قد وجدت بعض مبرراتها في فشل الأحزاب وباقي الأجسام الوسيطة من جهة الأداء، أي من جهة تحقيق مكاسب تجعل عموم المواطنين يماهون بين الديمقراطية التمثيلية وبين مصالحهم فيتحركون عند الضرورة للدفاع عنها.
لقد نجح "تصحيح المسار" في استثمار المخيال السياسي الشعبي ونجح في توظيف المخيال السياسي لأصحاب السرديات السياسية الكبرى المعادية للإسلام السياسي (خاصة اليسار الوظيفي وورثة التجمع المنحل)، وهو ما جعل الرئيس لا يواجه مقاومة كبيرة من "القوى الديمقراطية" التي ظنت أن الرئيس يشتغل لحسابها، أو على الأقل لن يتحرك ضدها بل ضد النهضة وحلفائها فقط.
باستثمار الصراعات البينية التي عصفت بمكونات الديمقراطية التمثيلية، وبتوظيف الانتظارات الانتهازية لأغلب مكونات العائلة الديمقراطية، نجح تصحيح المسار في الانقلاب على الانتقال الديمقراطي، ولم يجد صعوبة تذكر في وسم عشرية الديمقراطية بـ"العشرية السوداء". وقد ظنّ الكثير من "الديمقراطيين" أن الربط بين "العشرية السوداء" وبين حركة النهضة سيجعلهم شركاء في "تصحيح المسار" أو على الأقل غير مستهدفين من طرفه، وهو ظنّ أثبتت الأحداث أنه من أحاديث النفس وما تهوى.
وبمعنى ما، يمكننا القول إن النجاح الأهم للرئيس -ومن ورائه النواة الصلبة لمنظومة الحكم- كان في القدرة على توظيف الصراعات الهوياتية بين حركة النهضة وأغلب مكوّنات ما يُسمّى بـ"العائلة الديمقراطية"، لجعل الديمقراطيين يرون في "تصحيح المسار" إنقاذا للديمقراطية من مشروع "أخونة الدولة"، لا انقلابا على الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة كلها. ورغم أننا لا نستبعد أن يكون "الديمقراطيون" على وعي بما يهددهم من مخاطر محتملة في "تصحيح المسار"، فإننا نستبعد أن يكونوا قد توقعوا حجم خسائرهم بعد ضرب حركة النهضة باعتبارها مركز الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدل.
لقد زيّن الوعي المؤدلج لأغلب "القوى الديمقراطية" أن ترى في الرئيس -غير المسنود بحزب ولا بتاريخ نضالي ولا بلوبي جهوى صلب- مجرد مشروع انقلابي مؤقت سيحتاج إليها بالضرورة للتخلص من الخطر المشترك عليهم جميعا: الإسلام السياسي أو الديمقراطية التمثيلية التي تجعل من ذلك الإسلام السياسي مركز السلطة. ولم يكن الرئيس يحتاج إلى أكثر من تغذية هذا الوهم ليحافظ على دعم نشط من تلك القوى، ولكن الأزمة تبدأ عندما تنتبه تلك القوى "الديمقراطية" إلى أن الرئيس قد اختار -أو فُرض عليه- أن يُشرعن سلطته بعيدا عن أي جسم وسيط وخارج منطق الشراكة مع أي طرف سياسي أو نقابي أو مدني. "تصحيح المسار" قد نجح إلى هذه اللحظة في الدفع بتناقضات الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدّل إلى نهاياتها المنطقية، كما أن "التصحيح" قد نجح في إظهار هشاشة الانتقال الديمقراطي ومكوناته الأساسية. وبالإضافة إلى ذلك، أظهر "تصحيح المسار" أن الديمقراطية لم تكن يوما مطلبا شعبيا، ولا حتى مطلبا حقيقيا للكثير من أدعيائها ودعاتهافالرئيس قد اختار أن يكون الجسم الوسيط الأوحد بينه وبين الشعب هو منظومة الاستعمار الداخلي وأذرعها في أجهزة الدولة وخارجها، كما أن منظومة الاستعمار الداخلي قد اختارت أن تختزل واجهاتها السياسية في واجهة واحدة هي تصحيح المسار، وهو ما أوجد علاقة "تكافلية" أو علاقة تعامد وظيفي بين الرئيس والدولة العميقة بصورة طاردة لكل شريك أو نظير، وجاذبة لكل الأجسام/الشخصيات القابلة للتدجين والتوظيف.
إن الحديث عن نجاح تصحيح المسار أو عن فشله سيكون حديثا مرسلا ما لم يكن مرتبطا بسياقات أو برهانات معينة سواء في استراتيجيات السلطة أو في استراتيجيات خصومها. فـ"تصحيح المسار" قد نجح إلى هذه اللحظة في الدفع بتناقضات الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدّل إلى نهاياتها المنطقية، كما أن "التصحيح" قد نجح في إظهار هشاشة الانتقال الديمقراطي ومكوناته الأساسية. وبالإضافة إلى ذلك، أظهر "تصحيح المسار" أن الديمقراطية لم تكن يوما مطلبا شعبيا، ولا حتى مطلبا حقيقيا للكثير من أدعيائها ودعاتها.
ونحن نعتبر أن النجاح الأبرز لتصحيح المسار يتمثل في إظهار فشل الانتقال الديمقراطي في إصلاح كل القطاعات وتحصينها ضد نوازع الفساد والاستبداد. أما فشل تصحيح المسار فيتمثل أساسا في عجزه عن تحويل "الشرعية" إلى "مشروعية" بعيدا عن منطق التملص من المسؤولية ورمي الفشل على "الفاسدين" و"الخونة" و"المتآمرين"، سواء في منظومات الحكم السابقة أو في منظومة الحكم الحالية. كما فشل تصحيح المسار في تصعيد نخبه البديلة إلى مركز القرار وظل رهين نخب الدولة العميقة، وفشل "التصحيح" أيضا في تحقيق منجزات توسع في دائرة مناصريه والمستفيدين من بقائه. وبحكم غياب مقومات السيادة وهيمنة القوى الخارجية على مراكز القرار، فإننا نعتبر أن بقاء "تصحيح المسار" أو انتهاء الحاجة إليه هما فرضيتان لا ترتبطان بعوامل داخلية (الدعم الشعبي، الإنجاز الاقتصادي، وضع المعارضة.. الخ)؛ بقدر ما ترتبطان بعوامل إقليمية ودولية ستكون هي المحدد الأساسي لإبقاء تونس في "حالة الموت السريري"، أو نقلها إلى حالة أخرى لا يمكن التكهن بطبيعتها على وجه اليقين.
x.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التونسي قيس سعيد الديمقراطية الانقلاب انقلاب تونس الديمقراطية قيس سعيد مقالات مقالات مقالات سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة من هنا وهناك سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الانتقال الدیمقراطی الإسلام السیاسی تصحیح المسار فی هذه اللحظة بقدر ما لم یکن
إقرأ أيضاً:
هكذا يتم الانتقال إلى التعليم الثانوي
قال المدير العام للتعليم بوزارة التربية الوطنية، إن كل مترشح يحصل على معدل 10 في شهادة التعليم المتوسط ينتقل مباشرة إلى السنة الأولى ثانوي.
وأوضح قاسم جهلان في تصريح للإذاعة الأولى، اليوم الأحد، أن في حال عدم تحقيق ذلك، يحسب المعدل العام بناءً على متوسط علامة الشهادة والمعدل السنوي. كما يُسمح بالانتقال إذا تجاوز هذا المعدل 10.
إضغط على الصورة لتحميل تطبيق النهار للإطلاع على كل الآخبار على البلاي ستور
إضغط على الصورة لتحميل تطبيق النهار للإطلاع على كل الآخبار على البلاي ستور
ويجتاز اليوم الأحد، أزيد من 800 ألف تلميذ على المستوى الوطني، امتحانات شهادة التعليم المتوسط، حسب ما أفاد بيه بيان لوزارة التربية الوطنية.
ويتوزع المترشحين على نحو 30 ألف مركز إجراء عبر الوطن، التي ستحتضن امتحانات شهادة التعليم المتوسط. ابتداء من اليوم الأحد 01 جوان 2025 وتستمر إلى غاية يوم الأربعاء 03 جوان 2025، تحت إشراف أزيد من 240 ألف مؤطر في مختلف مراكز الإجراء.
وأكّدت مصالح وزارة التربية اتخاذها جميع الإجراءات لضمان السير الحسن لامتحان شهادة التعليم المتوسط (دورة جوان 2025).
ضبط كل الترتيبات والأسئلة ضمن الدروسوفي هذا الصدد، أكد الأمين العام للديوان الوطني للامتحانات والمسابقات، محمد حاج كولا، أنّه تمّ ضبط الترتيبات اللازمة. بغرض ضمان اجتياز المترشحين لهذا الامتحان في ظروف جيدة، مشيرا إلى تسخير موظفين من القطاع للإشراف على تنظيم وتأطير العملية.
وبخصوص المواد العشر التي سيمتحن فيها التلاميذ، أكّد ذات المتحدث أنها ستكون من ضمن الدروس. التي تلقاها التلاميذ حضورياً في أقسامهم.
وللمساهمة في تخفيف العبء على المترشحين، قرّرت وزارة التربية الوطنية إبقاء المواقع الخاصة بسحب استدعاءات الاختبارات. الكتابية للمترشحين مفتوحة، وهذا بغرض تمكين كل مترشح من استخراج نسخة جديدة لاستدعائه في حالة الضياع.
من جهته شدد الديوان على أهمية قيام المترشح بالمعاينة المسبقة لمواقع تواجد مركز الإجراء الخاص به. وذلك تفادياً للحضور المتأخر، مع الاحتفاظ بالاستدعاء وبطاقة الهوية لإظهارهما عند الدخول إلى مركز الإجراء إلى غاية انتهاء الامتحانات.
ويتعين على المترشحين أيضا الالتزام بإجراءات ضمان نزاهة الامتحانات، والتي تنص على عدم استعمال أي أداة اتصال. مهما كان نوعها أو إدخالها إلى مركز الامتحان.
وكانت الوزارة دعت المترشحين إلى تجنّب متابعة ما يروج له عبر منصات التواصل الاجتماعي من معلومات مغلوطة. ونادت للحرص على المراجعة والتحضير في هدوء وسكينة دون أي ضغوطات، بعيدا عن كافة مصادر التشويش.
كما عينت بالتنسيق مع وزارة الصحة، أخصائيين نفسانيين عبر مراكز الإجراء قصد مرافقة التلاميذ لاجتياز امتحاناتهم في هدوء وأريحية. ولتفعيل آليات الدعم النفسي للمترشحين.