العالم يتخلى عن منظمة التجارة العالمية.. وأميركا والصين تقودان المسار
تاريخ النشر: 8th, October 2024 GMT
نشرت مجلة "فورين أفيرز" تقريرًا يسلط الضوء على الأزمة الحالية في النظام التجاري المتعدد الأطراف الذي ساعد على استقرار الاقتصاد العالمي لعقود، واعتبرت أن انتهاك الولايات المتحدة والصين لقواعد منظمة التجارة العالمية قد أدى إلى أزمة حادة في منظومة التعاون التجاري العالمي، كما أن دولا مثل الهند وإندونيسيا تعيق جهود الحفاظ على هذا النظام مما ينذر بفوضى تجارية عالمية.
وقالت المجلة في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن النظام التجاري متعدد الأطراف ساعد على ضمان استقرار الاقتصاد العالمي خلال أكثر من 75 سنة، فقد جمعت الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة وخليفتها، منظمة التجارة العالمية، الدول معًا للتعاون في خفض التعريفات الجمركية وغيرها من الحواجز التجارية، وتعزيز التكامل الاقتصادي العالمي ووضع قواعد لتنظيم التجارة، وقد أثبت هذا النظام فعاليته غير العادية وعزز حقبة من الازدهار العالمي غير المسبوق.
وترى المجلة أن هذا النظام التجاري الليبرالي يمر الآن بأزمة؛ فقد انهار التعاون الدولي في مجال التجارة إلى حد كبير، وتخلت الولايات المتحدة عن التزامها بالتجارة الحرة والتعاون متعدد الأطراف واحترام سيادة القانون، وانتهكت واشنطن علنًا قواعد منظمة التجارة العالمية ومبادئها من خلال فرض التعريفات الجمركية وتقديم الدعم الهائل في قطاعات صناعية متعددة. وبالمثل، أفسدت الصين هذه المنظومة واستخدمتها كسلاح من خلال الإعانات والضغوط الاقتصادية.
وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها العديد من الدول للإبقاء على التعددية والحفاظ على النظام التجاري القائم، إلا أن دولاً أخرى - بما في ذلك العديد من الاقتصادات الناشئة الكبرى مثل الهند وإندونيسيا - قوضت تلك الجهود من خلال عرقلة المفاوضات التجارية وإعاقة إنفاذ قواعد التجارة العالمية، مما قد يؤدي إلى دخول النظام التجاري في حالة من الفوضى، وفقا للمجلة.
جهود غير مكتملة
أوضحت المجلة أن الغرض الرئيسي لمنظمة التجارة العالمية هو وضع وتطبيق القواعد التي تحكم التجارة الدولية، وذلك من خلال تسهيل المفاوضات بين أعضائها، ولكن على مدى السنوات الـ 15 الماضية، وصلت جهود منظمة التجارة العالمية في كثير من الأحيان إلى طرق مسدودة.
وحسب المجلة، يظهر ذلك بوضوح في جولة المحادثات الفاشلة في الدوحة، والتي بدأت سنة 2001 لخفض الحواجز التجارية حول العالم، والتي انهارت بسبب الصراع بين الصين والولايات المتحدة؛ حيث رفضت بكين تخفيض تعريفاتها الجمركية في مجالات مثل الزراعة والمواد الكيميائية والآلات الصناعية دون تخفيضات أكبر في الدعم الحكومي الزراعي في الولايات المتحدة.
لكن إنعاش مفاوضات منظمة التجارة العالمية أمر ضروري للحفاظ على التعاون الدولي في مجال التجارة وضمان مواكبة القواعد العالمية للتجارة للتحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي، وستكون مفاوضات منظمة التجارة العالمية الحالية بشأن إعانات صيد الأسماك اختبارًا حاسمًا لعزم المجتمع الدولي على استعادة قواعد التجارة العالمية.
لقد أدت الإعانات التي تقدمها الحكومات لمصايد الأسماك إلى أزمة الإفراط في الصيد؛ حيث أصبحت 90 بالمائة من الأرصدة السمكية العالمية مستغلة بشكل مفرط أو مستنفدة، وبما أن العديد من البلدان النامية تعتمد بشكل كبير على صيد الأسماك من أجل الأمن الغذائي والتصدير، فهي معرضة بشدة لتراجع الأرصدة السمكية، وبالتالي فإن اتفاق منظمة التجارة العالمية لتقييد هذه الإعانات الضارة سيمثل مكسبًا للتجارة العالمية والتنمية والبيئة.
وقد توصلت منظمة التجارة العالمية سنة 2022 إلى اتفاق مبدئي لحظر الإعانات المقدمة للصيد غير القانوني وغير المنظم، وصيد الأرصدة السمكية المستنفدة، والصيد غير المنظم في أعالي البحار، لكن هذه البنود تغطي جزءًا ضئيلًا من جميع الإعانات الضارة لمصايد الأسماك، أما العمل الحقيقي المتمثل في معالجة الإعانات التي تشجع الصيد المفرط، فقد تُرك للاجتماع رفيع المستوى لمنظمة التجارة العالمية في شباط/ فبراير 2024.
وكاد هذا الاجتماع أن يسفر عن اتفاق تاريخي لتقييد مثل هذه الإعانات، لكن الهند عرقلت الاتفاق بإصرارها على إعفاءات شاملة كانت ستجعل الاتفاق بلا معنى، ورغم أن الهند كانت هي الدولة الوحيدة التي عارضت الاتفاق، إلا أن المفاوضات انهارت لأن قواعد منظمة التجارة العالمية تتطلب توافقًا في الآراء.
ونظرًا لهذا التحدي المتمثل في تأمين توافق في الآراء، لجأت عدة دول إلى الاتفاقات محدودة الأطراف، وهي اتفاقات اختيارية ولا تنطبق إلا على المجموعات الفرعية من أعضاء المنظمة الذين يختارون التوقيع عليها، بدلاً من الاتفاقات التقليدية متعددة الأطراف التي تلزم جميع الأعضاء، وتهدف إحدى هذه الاتفاقيات، التي وقعتها 128 دولة سنة 2024، إلى تسهيل الاستثمار الأجنبي المباشر بشكل أفضل من خلال تبسيط إجراءات منح التراخيص للمستثمرين.
تضيف المجلة أنه من المتوقع أن تحقق الاتفاقية مكاسب اقتصادية عالمية كبيرة، سيعود معظمها إلى البلدان محدودة ومتوسطة الدخل، ويرى مؤيدو الاتفاقية أنها وسيلة مهمة للبلدان النامية للمطالبة بحصة أكبر من الاستثمار الأجنبي المباشر ومعالجة الفجوات الاستثمارية الكبيرة في تلك البلدان. ولكن لكي تدخل الاتفاقية حيز التنفيذ، يجب أن يتم اعتمادها في الهيكل القانوني لمنظمة التجارة العالمية، وهو إنجاز يتطلب موافقة جميع الأعضاء، وقد تم عرقلة هذا الجزء من العملية من قبل ثلاث دول - الهند وجنوب أفريقيا وتركيا - التي تعترض من حيث المبدأ على فكرة الاتفاقات محدودة الأطراف داخل منظمة التجارة العالمية.
وقد أدت عرقلة هذه الجهود التفاوضية إلى خلافات بين الدول الأعضاء -وفقا للمجلة-، فعلى النقيض من الخلاف المعتاد بين الشمال والجنوب، والذي غالبًا ما كان يميز سياسات التجارة العالمية في الماضي، أصبحت الدول النامية في مواجهة بعضها البعض في كل من قضيتي إعانات مصايد الأسماك والاتفاق المتعلق بالاستثمارات الأجنبية.
الاستئناف في الفراغ
اعتبرت المجلة أن التهديد الأكبر للنظام التجاري العالمي يأتي من إضعاف آلية تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية، حيث أن قانون المنظمة للفصل في المنازعات التجارية ضروري لإنفاذ قواعد التجارة العالمية، وقد حقق معدلات امتثال عالية جداً.
لكن الولايات المتحدة اتخذت في السنوات الأخيرة خطوات متعمدة لتعطيل هذه الآلية -كما تقول المجلة-، حتى تتمكن من اتباع سياسات تنتهك قواعد منظمة التجارة العالمية مع الإفلات من العقاب. فقد منعت الولايات المتحدة خلال رئاسة دونالد ترامب جميع التعيينات القضائية في هيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية، وهي مجموعة من سبعة قضاة تنظر في الطعون المتعلقة بالأحكام الصادرة عن منظمة التجارة العالمية بشأن النزاعات.
ومع عدم وجود قضاة للنظر في الطعون، توقفت الهيئة عن العمل، وقد أدى ذلك إلى تقدم أي دولة يصدر ضدها حكم عقابي من منظمة التجارة العالمية، باستئناف على الحكم الصادر من المنظمة وتأخير تنفيذه إلى أجل غير مسمى، وأصبح هذا يُعرف باسم الاستئناف "في الفراغ".
وتعد الولايات المتحدة أكبر مصدر منفرد للاستئنافات في الفراغ، حيث تمثل 38 بالمائة من إجمالي الاستئنافات، وقد واصلت إدارة بايدن انتهاك قواعد منظمة التجارة العالمية بشكل صارخ مع رفضها إعادة هيئة الاستئناف، مما يمكّن واشنطن من عرقلة الأحكام الصادرة ضد تعريفاتها الجمركية غير القانونية في منظمة التجارة العالمية.
وأضافت المجلة أن العديد من البلدان الأخرى تتبع السياسة ذاتها، مستغلة غياب هيئة الاستئناف لتتحدى علانية قواعد منظمة التجارة العالمية. فقد فرضت إندونيسيا، على سبيل المثال، حظرًا على تصدير النيكل الخام، وهو مكون رئيسي في الفولاذ المقاوم للصدأ وبطاريات السيارات الكهربائية.
وتسيطر إندونيسيا على أكثر من نصف إمدادات العالم من النيكل، وتهدف من خلال حظر صادرات النيكل إلى إجبار الشركات التي تعالج النيكل على الاستثمار داخل البلاد. وقد نجح الاتحاد الأوروبي في سنة 2022 في الطعن على الحظر الإندونيسي في منظمة التجارة العالمية، وأمرت لجنة المنازعات في منظمة التجارة العالمية إندونيسيا بإزالة قيود التصدير، لكن إندونيسيا استأنفت الحكم في الفراغ لمنع تنفيذ الحكم، وبدلاً من إلغاء حظر التصدير، تقوم إندونيسيا الآن بتوسيع نطاقه ليشمل المعادن الأخرى غير المصنعة.
واتخذت الهند أيضًا خطوات مماثلة؛ حيث وضعت نظامًا واسع النطاق من الإعانات المرتبطة بـ "المناطق الاقتصادية الخاصة" لتعزيز صادراتها، مما أدى إلى إغراق صناعات الصلب والأدوية بالواردات الرخيصة المدعومة من الهند. وقد رفعت الولايات المتحدة قضية في منظمة التجارة العالمية للطعن في الإعانات وكسبت القضية، وقضت اللجنة بأن دعم الحكومة الهندية ينتهك قواعد منظمة التجارة العالمية ويجب إلغاؤه، واحتفلت واشنطن في البداية بالحكم، لكن الهند جردت الحكم من أي قوة قانونية بعد فترة وجيزة من خلال الاستئناف في الفراغ.
وتذكر المجلة أن ثلثي الأحكام الصادرة عن منظمة التجارة العالمية يتم استئنافها الآن في الفراغ، كما انخفض عدد النزاعات في منظمة التجارة العالمية إلى حوالي ثلث ما كان عليه قبل انهيار هيئة الاستئناف، ويأتي هذا الانخفاض الحاد في الوقت الذي تتبنى فيه المزيد من الدول تدابير تجارية حمائية تتعارض مع قواعد منظمة التجارة العالمية؛ حيث لم تعد الدول ترى في منظمة التجارة العالمية وسيلة فعالة لضمان مصالحها في النظام التجاري الدولي.
وفي محاولة للحفاظ على آلية فعالة لتسوية المنازعات وضمان أن تظل قواعد منظمة التجارة العالمية قابلة للتنفيذ، أطلقت مجموعة من الدول بقيادة الاتحاد الأوروبي ترتيبات التحكيم الاستئنافية المؤقتة متعددة الأطراف، والتي بدأت النظر في القضايا سنة 2022، والتي تحاكي دور هيئة الاستئناف، لكنها تشمل فقط الدول الموقّعة عليها، ولم توافق عليها حتى الآن سوى 53 دولة فقط، بينما بقى غالبية أعضاء منظمة التجارة العالمية خارج الآلية الجديدة.
انهيار النظام
ترى المجلة أن الأزمة في النظام التجاري العالمي تتجاوز الآن حدود المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، فقد أدى تجاهل الدولتين للمعايير والمؤسسات الراسخة إلى إضعاف الحوافز التي تدفع الدول الأخرى إلى الالتزام بهذا النظام والحفاظ عليه. ورغم أن العديد من الدول تسعى إلى إنقاذ النظام والدفاع عنه، إلا أن دولا أخرى تقوضه من خلال إفساد مفاوضات منظمة التجارة العالمية، وانتهاك قواعد التجارة العالمية مع الإفلات من العقاب، وعرقلة الجهود المبذولة لاستعادة هيئة تسوية المنازعات.
وحسب المجلة، فإن هجوم الولايات المتحدة على هيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية وضع النظام التجاري العالمي على مسار جديد وخطير، فمن دون الآليات التي تفرضها منظمة التجارة العالمية، لم يعد هناك الكثير من الوسائل التي تكبح السياسات الحمائية للدول، وقد أصبحت عواقب هذا المسار واضحة في ظل حمى المساعدات الحكومية والحروب الجمركية وغيرها من السياسات التي سترفع التكاليف وتغذي التضخم وتؤدي إلى زيادة العجز الحكومي، ما سيؤدي إلى مشاكل عميقة في الاقتصادي العالمي.
وتحذر المجلة من أن العالم قد يواجه خطر العودة إلى بيئة التجارة التي كانت سائدة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، عندما أدى التحول واسع النطاق نحو السياسات الحمائية إلى انكماش في التجارة العالمية وتفاقم الكساد الأعظم، وساعد على اندلاع الحرب العالمية الثانية، وهذا بالأساس هو ما تم تصميم النظام التجاري العالمي لتفادي حصوله.
وقد يصل العدد المتزايد من البلدان التي تتحدى قواعد منظمة التجارة العالمية إلى نقطة تحول ينهار فيها النظام التجاري المتعدد الأطراف بالكامل، وقد يؤدي هدم التكامل الاقتصادي إلى تزايد الصراع والفوضى في الاقتصاد العالمي والنظام الدولي ككل، وإذا حدث ذلك، فإن النظام الناشئ بعده لن يكون سلميًا.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية الاقتصاد التجارة الهند الصين اقتصاد امريكا تجارة الصين الهند صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی منظمة التجارة العالمیة لمنظمة التجارة العالمیة قواعد التجارة العالمیة الولایات المتحدة الاقتصاد العالمی التجاری العالمی النظام التجاری هیئة الاستئناف هذا النظام العدید من المجلة أن فی الفراغ من الدول من خلال
إقرأ أيضاً:
«البرازيل ليست حديقة خلفية».. بين تحدي الهيمنة وصعود القوة الناعمة في الجنوب العالمي
منذ عودته إلى سدة الحكم، رفع الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا شعار «البرازيل أولًا»، ليس كنسخة مقلّدة من شعارات قومية أخرى، بل كتعبير صادق عن رغبة وطنية لكسر حلقة التبعية والهيمنة، وإعادة تعريف موقع البرازيل على الخريطة العالمية.
في زمن تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية، وتتفكك فيه مراكز القوة التقليدية، قررت برازيليا أن تكون أكثر من مجرد قوة إقليمية: أن تصبح لاعبًا عالميًا له موقف مستقل، ورؤية مختلفة للعالم، بعيدًا عن الوصاية الغربية.
تسعى البرازيل اليوم لتكون رافعة جديدة للاقتصاد العالمي من خلال دورها المحوري في مجموعة «بريكس»، وتوسيع نفوذها في ملفات التنمية، والطاقة النظيفة، والمناخ، والغذاء، وأيضًا عبر سياسة خارجية متوازنة تراعي العدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
في هذا السياق، برز موقفها المتقدم من قضايا الشرق الأوسط، وخصوصًا في دعمها لحل الدولتين في فلسطين، ورفضها القاطع لأي تدخل عسكري أجنبي في سوريا، وإدانتها للحصار على غزة، ما جعل منها صوتًا جنوبيًا حرًا يعيد التوازن في خطاب العلاقات الدولية.
ولا يمكن تجاهل الدور المتنامي للجاليات العربية في الداخل البرازيلي، لا سيّما من أصل لبناني وسوري وفلسطيني، التي تجاوزت عدة ملايين من السكان، وساهمت في تشكيل المزاج العام والسياسات، سواء في البرلمان أو الإعلام أو التجارة.
لقد أصبحت هذه الجاليات جسرًا ثقافيًا واقتصاديًا وإنسانيًا، يعزّز من روابط البرازيل بالمنطقة العربية، ويجعلها في قلب الحسابات الجديدة لما بعد عصر الهيمنة.
ترامب ونظرة التسلط المستمرةفي هذا الإطار، يبرز موقف الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، الذي لا يزال يتعامل مع أمريكا اللاتينية بعقلية الحرب الباردة. يعتقد ترامب أن البرازيل مجرد "حديقة خلفية"، وأن بإمكانه توجيه قراراتها، أو على الأقل ليّ ذراعها اقتصاديًا من خلال فرض ضرائب وعقوبات غير معلنة على صادراتها تحت ذرائع بيئية أو سياسية أو تجارية.
لكن هذه النظرة الفوقية تصطدم بواقع مختلف: البرازيل لم تعد تلك الدولة التي تُدار من واشنطن، بل باتت أكثر جرأة في رفض الإملاءات، وأكثر وعيًا بمصالحها القومية، كما ظهر في ملفات كبرى تتعلق بعلاقاتها مع الصين وروسيا، ورفضها التدخل في نزاعات لا تعنيها إلا من منظور العدالة الدولية، وليس الاصطفاف السياسي.
صراع الضرائب.. أم صراع السيادة؟في الأشهر الأخيرة، تصاعد التوتر التجاري بين البرازيل وبعض القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في شكل ضغوط مالية وضرائبية تمس قطاعات استراتيجية في الاقتصاد البرازيلي، مثل الزراعة والتعدين والطاقة.
هذه "الإتاوات الجديدة" ليست مجرد أدوات ضغط تجارية، بل هي شكل من أشكال تقييد القرار السيادي، وإجبار البرازيل على إعادة تموضعها الجيوسياسي.
البرازيل من جانبها لم تقف مكتوفة الأيدي، بل بدأت في تعزيز شراكاتها مع دول الجنوب العالمي، والانخراط بعمق أكبر في مبادرات بديلة للنظام المالي الغربي، سواء عبر بنك التنمية التابع للبريكس، أو في تعزيز التجارة بالعملات المحلية بعيدًا عن الدولار.
هل تستطيع البرازيل المواجهة؟الجواب نعم، ولكن بشروط، فالبرازيل تملك مقومات القوة: اقتصاد كبير ومتنوع يُعد من أكبر 10 اقتصادات في العالم، وموارد طبيعية هائلة تؤهلها لتكون قوة غذائية وطاقوية عظمى، وتحالفات استراتيجية مثل «بريكس+»، تمنحها بدائل للنظام الغربي، فضلًا عن رأي عام محلي بات أكثر وعيًا ورفضًا للهيمنة الأجنبية.
وفي المقابل، تحتاج إلى تحصين مؤسساتها السياسية ضد محاولات زعزعة الاستقرار، وإصلاح داخلي جاد يعالج التفاوت الاجتماعي ويعزز الثقة، وإعلام مستقل يستطيع أن يعبّر عن الرؤية الوطنية دون الوقوع في فخ الدعاية.
البرازيل والتاريخ المعاد كتابتهتخوض البرازيل اليوم معركة رمزية كبرى، ليست فقط على مستوى التجارة أو المناخ أو السياسة، بل على مستوى سردية «من يملك الحق في القرار».
لم تعد مستعدة لأن تكون تابعًا، بل شريكًا متكافئًا في كتابة فصول النظام العالمي الجديد.وكما قال أحد المحللين البرازيليين: «الاستقلال لا يُستعاد فقط من الاستعمار، بل من كل وصاية جديدة تتخفى خلف خطاب ديمقراطي أو بيئي أو أمني».
البرازيل إذن، ليست حديقة خلفية لأحد، بل غابة سيادية كثيفة، فيها ما يكفي من الجذور والأغصان لتقاوم الرياح القادمة من الشمال.
كاتب وباحث في الشؤون الجيوسياسية والصراعات الدولية. [email protected]
اقرأ أيضاًوزير الخارجية يلتقي نظيره البرازيلي في نيويورك لبحث جهود وقف إطلاق النار بغزة
رئيس البرازيل يرفض تهديدات ترامب: لن نخضع للضغوط