في تقديري أنّه لم يكن مطلوبًا من الراحل يوسف شاهين أن يأتيَنا في فلمِه المُنتَج عام 1985 بشاهدٍ تاريخيٍّ على أنّ هتافاتٍ "وطنيّةً" - بالمعنى الذي كرَّسَه تنامي الوعي الوطني المصري في القرن التاسع عشر وما تلاه – كهذا الهتاف كانت ضِمنَ هُتافات الخارِجين على الحُكم الفرنسيّ في ثورتَي القاهرة الأولى والثانية في أكتوبر 1798 ومارس 1800.

 

هذا الهُتاف الذي يتفتّق عنه ذِهن علي (الذي قام بدَوره محسن محيي الدين) فيلقّنُه أخاه الأصغر يحيى (محمد عاطف) يكاد يغطّي على ما يتردد في ثنايا الفِلم على لسان أخيهما الأكبر (بكر) - الذي جسَّدَه أحمد عبد العزيز – وأصدقائه من الأزهريين، مِن أنّ الجنود الفرنسيين كُفّار، ومِن ثَمّ فإنّ مقاومتَهم تدخَلُ في باب الجِهاد.

والحَقُّ أنّ يوسف شاهين لم يتجاهل العاطفة الدينيةَ بوَصفِها دافعًا مهمًّا وراءَ جِهادِ المصريين الحملةَ الفرنسيةَ، ولا ينبغي أن ننسى المَشهد الذي يَخترقُ فيه (بكر/ أحمد عبد العزيز) صفوفَ المتمايلين على الإنشاد الدينيّ ومعركةُ الأهرام – بين الفرنسيين والمماليك - على وشك الابتداء، إذ يصرخ فيهم بَكرٌ مذكِّرًا إياهم بأنّ المسلمين الأوائل لم يكونوا يحاربون بالدروَشَة والتمايُل طَرَبًا وإنما بالسيف، وبه كانوا ينتصرون. بَيدَ أنّ مَشهد "مصر حتفضل غالية عليّا" يَبقى هو المَشهد الأيقونة الذي لا ينساه مَن شاهدوا الفِلم.



 وذلك أنه يتصادى ورَاهِنَ الخِطاب الوطنيّ المهيمِن في مصر، إذ يتراجع فيه الباعثُ الدينيُّ خطوةً إلى الوراء مفسِحًا الصدارةَ لخِطاب التاريخ العريق وضرورة العَيش المشترَك، كما يتجاوب هذا المَشهد مع تفاصيلَ زرعَها شاهين في فِلمِه، أهمُّها (فلتاؤوس) القِبطيّ الذي يقِف بين الثُّوّار رفيقًا لهم في جِهادِهم - وقد جسّده (فريد محمود) – وأخته (ناهد/ داليا يونس). 

هذا مع ملاحظة أنّ مِثلَ هذه التفاصيل لا تبدو متّسِقةً مع المَرويّات التاريخية عن أحداث ثورتَي القاهرة، فها هو ذا موقع (الأقباط متّحِدون) يقول عن ثورة القاهرة الثانية: "اشتبك الثوار مع طوائف الأقليات في معارك راح ضحيتها عديدون من نصارى القبط والشوام وغيرهم، وتحصن الفرنسيون بمعسكرهم بالأزبكية"، وهو ما يردده موقع ويكيبيديا العربي وغيرُه، أي أنّ جِهادَ المحتلّ الفرنسيّ آنذاك لا يمثّل فردوسَ الوحدة الوطنية كما كرَّسَها الخِطابُ المصريُّ الرسميُّ ابتداءً من ثورة عام 1919. 

لكنّي أعود إلى ما بدأتُ به هذا المقالَ لأكرِّر أنّ شاهين لم يكن مضطرًّا إلى الإتيان بشواهد تاريخيّةٍ على ما أحَبَّ أن يُثبتَه، وذلك انطلاقًا من حريتِه الإبداعية التي كان معتزًّا بها أيّما اعتزاز، تلك الحريةِ التي جعلَته يتناول في فِلمِه اللاحق (المُهاجِر) سيرةَ نبي الله يوسف دون أن تتوافَق الأحداثُ تمامًا مع الحكاية القرآنية، وكذلك في فِلمِه (المصير) الذي خلقَ فيه أحداثًا وشخصيّاتٍ من خيالِه لتُحيطَ بالفيلسوف الإسلامي أبي الوليد ابن رُشدٍ في الأندلس. 

والشاهد أنّ لسانَ حال مُخرجِنا كان ينطِق بأنّ لصانع الأفلام سُلطةً لا تُنازَع في خَلق تاريخٍ بديلٍ، يكرّسُ مِن خلالِه أفكارَه وما يراه جديرًا بأن يكون الحقيقة، وأن يُسقِط من وقائع التاريخ ما لا يتوافَق مع ما يراه جديرًا بالإثبات. 

ففي (الوداع يا بونابرت) مثَلًا نرى جميل راتب في دور (فَرط الرمّان) – وهو الاسم الذي أطلقَه المصريون على اليوناني بارتلِمي خادم المملوك محمد بك الألفي، سخريةً منه – ذلك الشخص غير المحدَّد الهُويّة، المجنون بالتعذيب والإحراق وإهانة المصريين تزلُّفًا لسادتِه الفرنسيين، ولا نكاد نَلمح في ثنايا الفِلم أية إشارةٍ إلى هويّتِه العِرقية، كأنّ شاهين قد أراد أن يسلّط الضوء على هذا النموذج الوحشيّ من البشَر دون التفاتٍ إلى أصلِه، فقد يكونُ مملوكيًّا أو مصريًّا أو غير ذلك، لا يهم. 

كما أنه قد أسقطَ تمامًا تلك المناوَشات بين المسلمين والمسيحيين في سياق جِهاد الفرنسيين، ولم يُلمِح مِن قريبٍ أو بعيدٍ إلى شخصيّة المعلّم يعقوب، ذلك العسكريّ القبطيّ الذي رقّاه الفرنسيون إلى رتبة جنرال واعتمدوا عليه في إحكام قبضتِهم على الصعيد، والذي مازالَ إلى الآن شخصيةً جدَليةً مهمّةً، فالبعضُ يراهُ خائنًا باعَ وطنَه للمحتلّ، والبعضُ يراه وطنيًّا مخلِصًا حالمًا باستقلال بلادِه عن الدولة العثمانية وتخليصِها من حُكم المماليك، ومن الفريق الأخير مؤرّخٌ كبيرٌ هو (محمد شفيق غربال) في كتابِه "الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس".

هذا إلى أنّه يبدو أنّ هَمّ الوحدة الوطنية قد سيطرَ فترةً كبيرةً على ذهن شاهين، فكما نرى هنا (فلتاؤوس)، نرى في فِلم (الناصر صلاح الدين) شخصية (عيسى العوّام) التي جسّدَها صلاح ذو الفقار.

والمعروف تاريخيًّا أن هذا العوّامَ كان غوّاصًا مسلمًا قاتلَ إلى جوار صلاح الدين الأيوبي، وقد أوردَ أخبارَه القاضي أبو المحاسنِ بهاءُ الدين بنُ شدّادٍ في كتابِه (النوادر السُّلطانية والمحاسن اليوسُفيّة) وأبو شامةَ المَقدِسيُّ في (كِتاب الروضتَين في أخبار الدولتَين النُّوريّة والصلاحيّة).

لكنّ شاهينَ قد صادرَ هذه الشخصيّةَ وتصرَّفَ في هويّتِها الدينية، فجعلَ عيسى العوّام مسيحيًّا ليَخدُمَ فكرةَ الوَحدة الوطنية والانتماءَ القوميّ بوَصفِه متعاليًا على الانتماءات العَقَديّةِ مِن وجهة نظرِه.

وأرى أنه من الظُّلم أن يُحاكَم عملٌ فنّيٌّ بمقاييسِ الموثوقيّة التاريخيةِ وإن اغترفَ مادّتَه وموضوعَه من التاريخ، فالأولويّة في الفنّ لمَعاييرَ أخرى مُنبَتّة الصِّلة بتلك الموثوقية. كما أننا نجانبُ الصوابَ إذا اعتمدنا في معلوماتِنا التاريخيةِ على أفلام السينما أو غيرِها من أعمال الفنّ، فما إلى هذا أصلًا يَرمي الفنانُ المُخلِصُ لفنِّه!

كافارِلِّي ونابليون وحديثُ المِثلية:

لا ينبغي أن يفوتَنا أنّ عنوانَ الفِلم يُتلفَّظ به مرّةً واحدةً فحَسبُ خلالَ الحِوار، وذلك في المشهد الذي يبدأ في الدقيقة 29 بعد الساعة الأولى، ويدور في غرفة الجنرال كافارِلّي (ذي الساق الخشبية) بين الجنرال الذي جسَّده الممثّل الفرنسي ميشيل بيكولي Michel Piccoli وعلي، تحديدًا بعد مشهد الحمّام الذي يُصارحُ فيه كافارلّي رفيقًا له من رِجال الحَملة بأنه لن ينسى الشابّ (يحيى) أبدًا، وأنّ لأخيه (علي) نظرةَ يحيى نفسَها التي أسَرَته، فيردّ عليه الرفيق بأنّ الشابَّين يحيى وعليًّا يبحثان عن أبٍ، وأنه قدَّم لهما حبًّا متسلِّطًا، وعليه أن يحبَّهما إلى درجةٍ أقلّ، فإنّ ذلك سيكونُ أفضلَ لهما.

المهمّ أنّ المَشهد المُرادَ يقدِّم لنا حوارًا يحاولُ فيه كافارِلّي إقناعَ عليٍّ بأن يرضخَ لمحاولاتِه الاقترابَ منه، فيستنكِر عليٌّ هذه المحاولات، ويتصاعد التوتُّر بينهما فيَرمي عليٌّ صديقَه الجنرالَ بأنه مِثلُ باقي الفرنسيين، بدأ باغتصاب الوطن والأرض ثمّ بُيوت الناس، وها هو ذا ينتهي باغتصاب الأخوَين! وينتهي المشهدُ بقطيعةٍ وشيكةٍ بينهما، إذ يوحِّد عليٌّ بين كافارِلّي – الوَجه الثقافيّ للحملة الفرنسية – ونابليون، وجهِها العسكريّ الذي لا يتورّع عن استخدام القوّة المُفرِطة في سَحق مَن يعترضون طريقَ أهدافِه، فيقولُ لكافارِلّي: "أنتَ الجنرال. الوداع يا بونابارت!".

 وبعد تتابُعٍ من المَشاهِد نَرى كافارِلّي وقد أصابَت ذراعَه طلقةٌ في حصار الفرنسيين لعكّا، وانتقضَ جُرحُه وأصابَته حُمّى موشكةٌ على إنهاء حياتِه، وقد ذهبَ إليه عليٌّ ليزورَه، ويدور بينهما حديثٌ قصيرٌ يبدو فيه أنّ كافارِلّي قد ندِم على ما بدرَ منه من محاولاتٍ لإغواء عليٍّ كما أغوى أخاه الأصغر الراحلَ يحيى، ويكرِّر ما نصحَه به رفيقُ مَشهد الحمّام، فيقول لعليّ: "إنني أحبك الآن أقلّ، ولكن هذا أفضل!".

ويلوحُ لي أنّ مسألةَ المِثليةِ هنا ليسَت مجرَّدَ صدىً لهمٍّ مؤرِّقٍ لدى شاهين، تكرَّرَ تعبيرُه عنه في كثيرٍ من أفلامِه. 

وذلك أنّ أحدَ أهمّ مَحاورِ الفِلم يتمثّل في العلاقة المُريبة بين عليّ وذلك الجنرال الفرنسي، فعليٌّ هو الوَجه المصري الذي لم يُعطِ ظهرَه للغُزاة مثلَ أخيه الأزهريِّ المُحافِظِ (بكر)، وإنما جالَدَهم تارةً ودخلَ بينهم تارةً، فتعلَّمَ لغتَهم وحديثَهم وأفادَ منهم فيما قد نسمّيه شكلًا من أشكال المُثاقَفة. 

وقد جرَّ عليه ذلك درجةً من درجات النبذ الاجتماعيِّ مِن ناحيةِ أهلِه، فأصبح حالُه حالَ النُّخبة المصرية المثقَّفة (المستنيرة بلُغة بعض مثقَّفينا)، يعاني قطيعةً من ذَويه ولكنّه لا يستطيعُ أن ينسى جذورَه. 

فحين تتطور تلك العلاقةُ إلى مشروعٍ جنسيٍّ صريحٍ، فإنّ ذلك يَرمز إلى إعلان هيمنة الغازي على ابنِ البلَد ثقافيًّا كما هيمنَ عليه عسكريّا. وتظلُّ عِبارةُ "الوداع يا بونابارت" التي قذفَها عليٌّ في وجه كافارِلّي إعلانًا غاضبًا عن رفضِ هذه الهيمنةِ الكاملة، وتمرُّدًا على حالة الخُضوع غير المشروط لثقافةِ الغازي، كما تَبقى عبارة "أحبُّك الآنَ أقلَّ، ولكن هذا أفضل" دعوةً متجددةً من مُخرجِنا الكبير لمثقَّفي الغرب أن يَخرجوا من شرنقة المركزية الأوربّيّة ويدَعوا نظرةَ الاستعلاء الثقافيّ التي دأَبوا على أن يَنظُروها إلى عالَمِنا العربيّ.

وتَبقى أخيرًا هذه الرؤيةُ محضَ رؤيةٍ شخصيّةٍ من جانبي، وإن كنتُ أزعمُ أنّ ظواهِرَ الحكاية السينمائيّة في هذا الفِلم تَدعمُها. ويَبقى هذا المقالُ القصيرُ بعيدًا عن لُغة النقد السينمائيّ المدقِّقة، فهو ليس إلا نظرتَين إلى مسألتَين رأيتُهما مهمَّتين في تلقّي هذا النصّ السينمائيّ الفريد.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تقارير يوسف شاهين المصري مصر السينما المصرية يوسف شاهين سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی ف لم الف لم الذی ی

إقرأ أيضاً:

الصفعة ـ الرمز.. حين تعرّي الكاميرا رئيساً مهرّجاً وتفضح زيف الصورة الفرنسية

لم تعد الصورة حدثاً عابراً يُستهلك في دورة الأخبار، بل تحوّلت إلى خطاب بصري تتدفق منه الدلالات وتتشكل من خلاله الوقائع. في عالم تحكمه الكاميرات والمنصات و"الفضائح الرقمية"، تخرج السياسة من مؤسساتها الصلبة لتُعرض على خشبة المسرح، حيث يغدو الحاكم ممثلاً، وتتحول المشاعر إلى أدوات دبلوماسية، وتصبح الحركات الجسدية – ولو عفوية – شفرات لفهم العلاقات السلطوية والبُنى الأعمق التي تنتجها.

من هذا المنطلق، لا يمكن التعامل مع "صفعة بريجيت لماكرون" بوصفها مجرد مشادة زوجية أو لقطة مثيرة للفضول، بل هي حدثٌ بصري مشحون بطاقة رمزية هائلة. فقد فجّرت هذه الصفعة تفاعلات دولية، وأعادت ترتيب رمزية الجسد الرئاسي، وكشفت حدود الصورة المصطنعة للرئيس "المثالي" الذي طالما سوقته فرنسا لنفسها. صفعة لم تقتصر على وجه ماكرون بل لامست وجه فرنسا، في زمن تهتز فيه أعمدة إرثها الاستعماري ونفوذها الدولي.

في هذا النص، لا نقرأ الصورة بل نفكك خطابها. لا نرصد الحركة فحسب، بل نعيد بناء السرد الكامن فيها، ونتقصى كيف تسرّبت السياسة إلى الجسد، والرمزية إلى الكفّ. من خلال تفكيك المشهد وتفجير استعاراته الكبرى ـ من استعارة [الرئيس/الدولة] إلى استعارة [الرئيس/المهرّج]  ـ نحاول أن نفهم ما خفي خلف المشهد، ونكشف عن البنية العميقة التي جعلت من هذه "الدفعة-الصفعة" حدثاً كاشفاً لانهيار معادلة "الصورة ـ السلطة" في فرنسا المعاصرة.

ـ 1 ـ

اهتزّت القنوات العالمية إثر نشر مقطع عن وكالة أسوشيتد برس فيديو للطائرة الرئاسية الفرنسية عند وصولها إلى مطار هانوي في فيتنام  25/05/2025. فقد تزامن انفتاح الباب باندفاع يديْ بريجيت ماكرون  صوب وجه زوجها إمانوييل ماكرون فيما قُدّر أنه صفعة إثر شجار بينهما. وهذا ما سبب حرجا وارتباكا كبيرين لقصر الإليزيه. فلم يجد بدّا من أن يؤكّد صحة الفيديو بعد أن أنكره في البداية. واضطرّ ماكرون إلى أن "يوضّح" الحادثة إلى وسائل الإعلام قائلا:"على الأصح كنت أمزح مع زوجتي كما نفعل في كثير من الأحيان ، ولكن الواقعة تحولت إلى كارثة جيو- سياسية عالمية. الفيديو حقيقي.

اهتزّت القنوات العالمية إثر نشر مقطع عن وكالة أسوشيتد برس فيديو للطائرة الرئاسية الفرنسية عند وصولها إلى مطار هانوي في فيتنام 25/05/2025. فقد تزامن انفتاح الباب باندفاع يديْ بريجيت ماكرون صوب وجه زوجها إمانوييل ماكرون فيما قُدّر أنه صفعة إثر شجار بينهما. وهذا ما سبب حرجا وارتباكا كبيرين لقصر الإليزيه.ولكن ثمة تأويلات غير حقيقية يتداولها الناس على منصات التواصل الاجتماعي وفقا لمخيلاتهم". معتبرا أنّ تفسيرها كان مضللا ومتآمرا من قبل "شبكات يمكن التعرّف عليها بسهولة" متهما "الروس" و"المتطرفين في فرنسا". وبالفعل فسريعا ما أشارات الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، إلى الفيديو ساخرة مؤكدة أنّ "المثير للاهتمام ليس هذا ولكن ما سيطلع به قصر الإليزيه هذه المرة للتغطية على إيمانويل غيت الجديدة".

ـ 2 ـ

على خلاف معارضي ماكرون السياسيين الذين عبروا عن امتعاضهم من صفعة تسيء إلى صورة فرنسا، وشأنُ السّاسة أن يترصدوا زلات خصومهم، تجند الإعلام الفرنسي ليهوّن من الكارثة. فاعتبر محللو فرنسا 24 أنّ هذا الانتقاد يصدر عن تصور ذكوري للعلاقة الزوجية مدارها على خضوع المرأة للرجل. وانتصرت صحيفة "لوموند" إلى رواية الإليزيه وأدرجت تفاعل المنتقدين ضمن نظرية المؤامرة التي تتعسّف في تأويل ما يبدو مزاحا بين الزوجين. واعتمدت صحيفة لوبوان المقص في عرض اللقطة لتحدّ من وقعها.

ردّا على تفاعل وسائل الإعلام الفرنسية التي حاولت تزيّف قراءة الفيديو  حتى تنقذ زيارة دبلوماسية يراد لها أن تلأم التصدعات التي تتعرض لها تلك صورة فرنسا باستمرار، نقترح قراءتنا هذه بصفتنا مختصين في سيميائيات الخطاب البصري وندرجها ضمن اهتمامنا بالطاقة السردية للصورة. ونحاول أن نفهم من خلالها ومن خلال ما صاحبها من التفاعلات، شيئا من الراهن السياسي الفرنسي.

 نصادر ضمن اشتغالنا الأكاديمي على قراءة الخطاب البصري على أنّ  للصورة الثابتة أو للقطة المفردة طاقة سردية تجعلها قادرة على عرض تسلسل ما من الوقائع. ولكنها تقتضي بالمقابل من متقبلها عملا تعاضديا يحرك ثباتها ويتأوّلها انطلاقا من علاقة الواحدة منها بسابقاتها ولاحقاتها  أو بناءً على استدعاء مخزون تجاربه وتمثل منطقها الداخلي.  فصورة ثابتة لإصابة طائر بطلق ناري  يدفع الذهن إلى أن يكمل الفراغات وإلى أن يفعّل الحركة الكامنة في ثباتها، بداية من عمل الصياد على توجيه البندقية إلى وقوع الطائر أرضا إلى عدو الكلب نحوه ليلتقطه ويأخذه إلى سيده.

وفي قراءتنا لهذه اللقطة سنتوقف عند بعض الصور [الفوتوغرامات] وانطلاقا من محتواها واستنادا إلى موسوعتنا الثقافية نحاول إعادة تشكيل مشهد المناوشة بين الزوجين وتأوّل خلفياته.

ـ 3 ـ

الصورة 1 ـ يُفتح الباب فإذا بيدي بريجيت (الراحتين، تحديدا)تضربان وجه ماكرون: كل ما في تسلسل الصور يشير إلى أنها حركة دفع عنيفة إثر تشنج شديد في منطلقها، تحولت في منتصف الطريق إلى صفعة. وتجعلنا هذه الصّورة نقدّر أن بريجيت تردّ الفعل على هذا النحو لأنها تشعر بإهانة قصوى في تلك اللحظة وأنها أدركت أن الدّفع وحده لا ينتقم إلى كيانها المحطّم.

الصورة 2 ـ في الأثناء ينفتح الباب ومباشرة.فيلوح ماكرون المرتبك بتحية تجاه الفراغ مرفوقة بابتسامة عريضة بدت تنم عن بلاهة أكثر مما تعكس حالة من الهدوء الرصين.  وليست هذه الابتسامة غير محاولة مرتجلة منه لتحويل أنظار المتفرّج المفترض، عن هذا الشجار وتوليد الانطباع بالوئام بين الزوجين والانسجام.

الصورتان 3 + 4 ـ يتقدم الزوجان وعند تجاوزهما باب الطائرة ووصول إلى الدرجة الأولى من السلم يناولها ذراعه لتتأبطه تأكيدا لهذا الوئام. ولكنها تبتعد عنه وترفض الاحتكاك الجسدي به. فيسحب ذراعه تدريجيا حتى لا ينتبه هذا الناظر إلى حركته تلك وإلى خيبته الجديدة.

وطبيعي أن يكون الفيديو مادة دسمة لخبراء لغة الجسد.  وبالفعل فقد اتفقوا تقريبا على أنّ كل ما في هذه اللقطة يؤكّد تعرض الرئيس إلى تعنيف مفاجئ من زوجته. ويبررون  قراءتهم هذه بعنصر المفاجأة وبحالة حالة الارتخاء العضلي التي كان عليها الرئيس.

ـ 4 ـ

يجعلنا نظرنا في تسلسل الصور ووضعها في سياق مفترض مستند إلى التعاضد التأويلي، نفهم أن [صفعة بيرجيت/ عنفها] كان انحرافا لعملية إبعاد زوجها عنها. فمن البديهي أنه سيقترب منها والباب يُفتح، لينزلا السلم معا وفق العرف الدبلوماسي. فقد كان [الزوج/ الرئيس] يريد أن يظهر وزوجته متحدين أمام عدسات المصورين. ورفعه يدَه بالتحية عند انفتاح الباب المفاجئ وتلقي الصفعة معا، يؤكد ذهاب ذهنه آليا إلى هذه الصورة المأمولة ومحاولته ترميم ما انكسر منها، وهو الذي بَنى مجده السياسي على فكرة الانسجام العائلي لزواج كسر الأنماط وتمرّد على السائد. فاستثمرها للوصول إلى سدّة الحكم.

بالمقابل كانت هي [تدفعه/ تصفعه] لأنها كرهت اقترابه منها بعد حوار متشنّج دار بينهما. فقد كانت وترفض أن تمنحه هذا "الشرف" المنافق.  ولا تخرق هذا العرف الدبلوماسي حرصا على عرض صورة صادقة عن حياتهما الخاصّة بعيدا عن الرياء. فزواجهما كان عملية مقايضة تقوم على أساس هذا نفاق متبادل منذ البداية: أن تمنحه المكانة في المجتمع الأرستقراطي مقابل أن يمنحها الإحساس بأنوثتها المعطبة وأن يمنح محيطها المالي والديني النفوذ الذي يحتاج ليواصل هيمنته على الحياة الفرنسية.

ـ 5 ـ

لا بدّ أن نستدعي معطيات كثيرة تساعدنا على فهم طبيعة العلاقة بين الزوجين وطبيعة المهمة التي رُشح لها ماكرون من قبل لبيات المال والنفوذ. أولها صورة ذلك الفتي "الشاطر" الذي تعجب به معلمته سليلة العائلة البورجوازية. فتطمئن لصداقته مع ابنتها ثم تشاركه إعداد مسرحية، فيلتقيان في منزلها، مساء كل يوم جمعة لكتابتها. وبدل أن يخرجا عملا إبداعيا أخرجا زوجها أندريه لويس أوزيير من حياتها ليتزوجا عام 2007. وسيكون هذا الزواج وسيلة الشاب المتخرّج من معهد الإدارة العالي لربط الصلة بأكثر  العائلات الفرنسية ثراءً، مثل عائلة برنارد آرنو، صاحب أكبر ثروات في العالم، أو عائلة روتشيلد اليهودية المالكة للبنوك متعددة الجنسيات والمورطة في الحروب القارية الكبرى والتي يشار إلى يد ما لها في اغتيال حكام في أوروبا أمريكا ممن مثلوا عائقا أمام مصالحها المالية. فيُعين في أعرق مصارفها (بنك روتشيلد في باريس) ثم يصبح شريكاً لها في بعض مكاسبها. ومنها يبدأ رحلة الركض السياسي نحو الرئاسة فيدركها ولم يصل بعد إلى سنّ الأربعين.

ـ 6 ـ

لهذه العوامل جميعا لا يكترث الرئيس النهم للسلطة بالدفعة ـ الصفعة. ويحاول أن يرأب صدعا مفاجئا أصاب الصورة التي يريد في جولته الآسيوية. فالرئيس الشاب لا يزال في حاجة إلى الأنفاس الأخيرة من زوجته العجوز، وذهنه يظلّ موجها دائما إلى المستقبل، وهو على مشارف معركة الخروج الآمن من الرئاسة والبحث عن مستقبل سياسي أو مالي يعفيه من التقاعد المبكّر. هذا ما يؤكّده طلبه لودّ اللوبي الصهيوني في فرنسا ولعبه لورقة التطرف الإسلامي في سبيل ذلك. وتحريض على كراهية ضد المسلمين بالإشارة إلى دور هدّام "لاتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا"، باعتباره "الفرع الوطني للإخوان المسلمين في فرنسا" واتهامه لوزرائه بعدم تقديم الحلول الكافية لمواجهة تهديدهم.

أما حاكمة الإليزيه التي أطلقت عليها حركة "السترات الصفراء" اسم "بريجيت أنطوانيت" قياسا على ّماري أنطوانيت" التي اقترحت أن يأكل الجياع البسكويت لما كانوا يحتجون على افتقادهم للخبز، فذهنها موجه إلى الماضي كما الشيوخ جميعا، مركز على النكران الذي أبداه صنيعتها. لذلك فهي ترفض [إسعاف تلميذها] في اللحظة الحرجة، وكيف لها أن تتأبط ذراع من بات يحاول أن يستأثر بثمار هذا الزواج المنافق   لنفسه، بعد أن أهان كبرياءها.

ـ 7 ـ

لنا إذن أن نملأ الفراغات لنحصل على قصة إهانة الكبرياء كاملة وإن لم تقنعك فاملأها بنفسك بما تراه مناسبا: عند الاستعداد للنزول من الطائرة يوجه [الرئيس المولع ببهرج السلطة] ملاحظة قاسية للسيدة زوجته تتعلق بمظهرها وبكل ما يتعلق "بالابتسامة عشان الصورة تطلع حلوة". ولنا أن نفترض أنه ألمح إلى شيخوختها وإلى كونها باتت غير مكافئة له في "الصبا والشباب" أو أنها باتت عبئا ثقيلا عليه. ولنا أن نتخيل مساقا ما متشنجا قبليا لنُنزل ضمنه هذا التلميح، كان تكون ذكّرته بأياديها عليه وبما بات يظهره هذا [الرئيس المتطاوس] من الجحود.

الرئيس الشاب لا يزال في حاجة إلى الأنفاس الأخيرة من زوجته العجوز، وذهنه يظلّ موجها دائما إلى المستقبل، وهو على مشارف معركة الخروج الآمن من الرئاسة والبحث عن مستقبل سياسي أو مالي يعفيه من التقاعد المبكّر. هذا ما يؤكّده طلبه لودّ اللوبي الصهيوني في فرنسا ولعبه لورقة التطرف الإسلامي في سبيل ذلك. وتحريض على كراهية ضد المسلمين بالإشارة إلى دور هدّام "لاتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا"، باعتباره "الفرع الوطني للإخوان المسلمين في فرنسا" واتهامه لوزرائه بعدم تقديم الحلول الكافية لمواجهة تهديدهم.لهذا كلّه لم تغفر لطفل صنعه تحالف اللوبي المالي - الصهيوني، بدعم منها ومن محيطها، تطاوله. وأبعدته عنها بعنف. ولعل صورة المعلّمة التي تعزّز تلميذا انتهازيا وغير مؤدب تستولي على تفكيرها في تلك اللحظة. فتتحول الدفعة باليدين معا إلى صفعة تشفي الغليل. ثم تتحوّل الواقعة إلى مولّد لاستعارات نفهم من منطلقها حياتنا السياسية.

ـ 8 ـ

الاستعارة الأولى مثلت نسقا تصوريا وجّه ردود أفعال الإعلام الفرنسي ومدارها على [الرئيس- الدولة الفرنسية]. فمن منطلقها لم ير هذا الإعلام في صفع ماكرون وهو في مهمة دبلوماسية صورة لشجار عائلي بقدر ما كان يرى فيها صورة لفرنسا المترنحة. فالجولة الآسيوية محاولة لصياغة مشروع استراتيجي يعيد البلاد إلى الواجهة.

وفيتنام  محطة أولى من رحلة تمر عبر إندونيسيا لتصل إلى سنغافورة للمشاركة في "حوار شانغري ـ لا" السنوي وهو أكبر مؤتمر دفاعي في آسيا، وتأتي بعد أن فقدت فرنسا نفوذها في إفريقيا إثر سلسلة الانقلابات التي عصفت بحفائها في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وأجبرتها على غلق قواعدها العسكرية في التشاد والسنغال وكوت ديفوار. ومنظومة "فرنسا-إفريقيا" التي ركزها ديغول وبعثها  لتكون أداتها السياسية واقتصادية أولا والعسكرية والاستخباراتية ثانيا، تنهار يوما بعد يوم.

 والتّحكم في مصير إفريقيا وضمان تبعيتها في ضرب من الاستعمار المقنّع الذي يتولاه رؤساء أفارقة موالون يكفلون لها الحصول المواد الأولية والثروات التي بعث من أجلها الاستعمار المباشر، يفقد نجاعته.


 ويعسر على هذا الإعلام أن يرى رحلة البحث عن أفق جديد لإمبراطورية تخسر إرثها الاستعماري في أفريقيا تستهل بكارثة. ولعلّه يجد في الصفعة على خد ماكرون شيئا صفعة من المستعمرات  على خدّ فرنسا، لذلك يهبّ باتجاهه اليمني واليساري لفرض قراءة متواطئة تهوّن من هذا العطب الدبلوماسي.

ـ 9 ـ

خلف هذه الاستعارة نجد في الواقعة استعارة مغايرة مدارها على الزوج [الرئيس -المهرّج]. فقد سقطت السياسة في قبضة الممثلين عرفوا بأدوارهم على المسرح أو على شاشات السينما والتلفزيون، بداية من رونالد ريغن إلى أرنولد شوارزنيجر  إلى دونالد ترامب إلى الأوكراني بوريس الزنسكي إلى ماكرون وإن لم يتجاوز مرحلة الهواية أيام الصبا. وبصعود هؤلاء إلى سدّة الحكم تحوّلت البلاطات إلى سيرك. وحوّل حكمهم المنظومة الديمقراطية إلى تهريج ولعب.

لقد نهض فن التهريج أوّل أمره على ثلاثة أدوار: السيد لويال (monsieur Loyal) وأصل تسميته تعود إلى (مدير سيرك ومدرّب فرسان يحمل هذا الاسم ثم تحوّل بعدئذ إلى دور يؤدّى على المضمار والمهرّج الأبيض (le clown blanc) الذي يرتدي ملابس جادة إلى حدّ.  ويحمل هذا الاسم بالنظر إلى هيمنة اللون الأبيض على المكياج الذي يستعمله،  فيتولى دور الوساطة بين السيد لويال والمهرج أغسطس. ويكون جميلا وأنيقا ومهيمنا، ليمثل النجاح الاجتماعي. ولكن الإضحاك ينشأ من زهوه ومن تعاليه الذي لا يحدّ منه إلاّ السيد لويال. ويخوض صراعه مع أغسطس، ذلك المهرّج اللطيف الذي ينصت إليه ليتعلّم منه الفضائل ولكنّ المواقف الساخرة تفضح الوضعيات الدونية التي كان يعانيها في علاقته بسيده لويال.

والمهرّج ممثل نبيل لأنه يتخلى عن وقاره ويوظّف جسده للترفيه على المتفرّج أولا ولإنتاج معاني عميقة ثانيا. فغطرس المهرّج الأبيض المفتعلة في علاقته بأغسطس مثلا تذكّر المتفرّج بما يعانيه من تسلّط وتعرّي الوجه الاستبدادي للسلطة. أما في مضمار السياسة وضمن استعارة [الرئيس -المهرّج] فإن الرئيس الأنيق أو المهرّج الأبيض يحاول أن يحجب الوجه الاستبدادي للمال في عالم يكون فيه السيد لويال هو الشركات الاستثمارية الكبرى التي تجعل الحكام مهرجين في خدمتها بعيدا عن كل معاني النبل. وصفعة بريجيت على خدّ ماكرون إنما هي صفعة هذه الشركات واللوبيات على خدّ المهرّج الأبيض الذي نسي في لحظة طيش أنه يحكم بإجازتهم ومباركتهم.

مقالات مشابهة

  • الاعيسر في خطاب الوداع: أعلن عن تبرعي براتبي الشخصي طيلة فترة خدمتي وزيراً للثقافة والإعلام
  • حكم الجمع بين طواف الإفاضة والوداع.. دار الإفتاء تجيب
  • أكثر من 100 ألف محبوس.. السجون الفرنسية تحطم الرقم القياسي في عدد المعتقلين
  • الشهيد اللواء الركن ايهاب محمد يوسف
  • في ذكرى ميلاده.. يونس شلبي “ابن المنصورة” الذي دخل قلوب الجمهور ببراءته وظل يرسم البسمة حتى آخر أيامه
  • إلهام شاهين: تعدد الرؤى جعل الفن المصري نابضا بالحياة
  • عمل جديد لبانكسي على شكل منارة يظهر في مرسيليا الفرنسية
  • لوبان تلوّح بإمكانية سحب الثقة من الحكومة الفرنسية بسبب الضرائب
  • الصفعة ـ الرمز.. حين تعرّي الكاميرا رئيساً مهرّجاً وتفضح زيف الصورة الفرنسية
  • إلهام شاهين: ما أجمل لمة العائلة على ضفاف النيل