لا يمكن اليوم الحديث عن السياسات العامة المستنيرة دونما التوقف عند مسألة جودة البيانات وتوافرها وتحديثها وكفاءتها وشموليتها. ويمكن الحكم بأن كفاءة أي سياسة عامة تستصدر إنما تحتكم إلى كفاءة ونوعية البيانات (الأدلة) التي بنيت عليها، ومدى قدرة تلك البيانات على صناعة (حجج السياسة) وتوجيه مسارها، وهو ما يتطلب قدرًا من محاكمة البيانات المتاحة والتأكد من ست خصائص رئيسة لها وهي: الدقة والموضوعية والشمول، والواقعية والقابلية للاستخدام والتوظيف والحداثة.
على مستوى سياسات الإصلاح التعليمي تبدو المسألة أكثر تطلبًا فيما يتعلق بالبيانات، وذلك لعدة أسباب؛ أولها أن التعليم يتعامل مع فترة ممتدة من حياة الفرد؛ إذا احتسبنا مرحلة في التعليم المبكر، ثم التعليم المدرسي، والتعليم الجامعي، وفي بعض الحالات تمتد إلى الدراسات العليا، إذن في المتوسط يتعامل التعليم مع مرحلة تمتد على الأقل لمدة (15-16) عامًا من حياة الفرد، وهذه المرحلة تتشكل فيه الشخصية والهوية الذاتية، وتختبر فيها الكثير من عمليات إندماج الفرد في المجتمع والثقافة والاقتصاد والفعل السياسي والتشكل الذاتي، وبالتالي فإن وجود البيانات الكافية حول دور التعليم في كل ذلك يوجه الكثير من السياسات المستقبلية، وينبه على عملية أولويات الإصلاح، والطرق التي يمكن أن يتفاعل فيها التعليم مع تغيرات الفرد والمجتمع. ثاني الأسباب هو أن التعليم يدور في دائرة ملتفة حول دوره في تشكيل الاقتصاد، ودور الاقتصاد في تشكيله وتوجيهه، وهذا يقود إلى الجدلية الشائعة (التي يصعب أن تحسم في تقديرنا): هل يجب أن يكون التعليم لأجل تلبية متطلبات اقتصادية، أم يجب أن يكون التعليم تهيئة للحياة بعمومها؟. أما ثالث هذه الأسباب فهو أن واقع التعليم في ذاته هو ناتج، ناتج عن فعل الاقتصاد، وفعل السياسة، وفعل الثقافة الاجتماعية، وبالتالي فإن فهم وتوجيه سياسات إصلاحه إنما يقتضي توفر بيانات كل الأطراف والفواعل التي تؤثر في التعليم وتتأثر به.
تقترح هذه المقالة إنشاء سجل وطني موحد للتعليم؛ والفكرة منه أن يكون تفاعليًا ويجمع البيانات حول التعليم والعوامل المؤثرة فيه في لحظتها، ومن خلاله يكون لكل طالب سجل أداء فيه مجموعة من العناصر التي تجمع حولها البيانات، ويمتد مع الطالب ليس فقط إلى نهاية المرحلة المدرسية، وإنما إلى غاية انخراط المتعلم في الاقتصاد، سواء في شكل وظيفة ثابتة أو أي فعل اقتصادي آخر. سيعنى هذا السجل بتسجيل أداء الطالب، والتغيرات التي تطرأ على هذا الأداء بمرور المراحل الدراسية، والأداء على مستوى المقررات والتخصصات والمناهج، والحالات المدرسية المسجلة من حالات اجتماعية أو نفسية أو سواها، ثم سيكون المنصة التي ترجح للطالب الاسترشاد في خياراته الدراسية بمجموعة هائلة من البيانات المجموعة عن المراحل السابقة، ثم في مرحلة الخيارات الجامعية سيمكن الموجهين المهنيين، وأولياء الأمور من التوجيه بناء على بيانات الأداء. والمبدأ الأساس في هذا السجل هو عدم الفصل بين بيانات المتعلم في مرحلة التعليم العام والمرحلة الجامعية وبين الدور الاقتصادي الذي سينشط فيه في سوق العمل والاقتصاد لاحقًا.
•هناك عشر منافع من إيجاد مثل هذا السجل في تقديرنا؛ فهو أولًا يمكن من توفير أدلة أكثر متانة ودقة لصناع السياسات التعليمية، وثانيًا سيكون أداة رصد للتغيرات الطارئة ليس على التعليم وحده، وإنما على التعليم والمجتمع والثقافة بوصفها فواعل مؤثرة في سياق حقل التعليم، ثالثًا سيمكن وجود مثل هذا السجل من معرفة التطورات التي تطرأ على شخصية المتعلم، والمحطات الفارقة في رحلة التعلم، والعوامل التي شكلت تلك المحطات، رابعًا سيوجه وجود مثل هذا السجل عمليات الإرشاد والتوجيه على المستوى النفسي والاجتماعي أو المهني والتعليمي وستكون تلك العمليات قائمة على الأدلة والسجلات التاريخية المعززة لها. أما خامس تلك المنافع فإن وجود مثل هذا السجل سيعزز لدى الطالب قرار الخيارات الدراسية المستنير بالأدلة، ليس فقط على مستوى الدراسة الجامعية، ولكن حتى في المراحل المبكرة من اختيار المواد الدراسية. سادسًا سيكون مثل هذا السجل أداة تقييم للحقل التعليمي بأطرافه ومكوناته المختلفة، على مستوى أداء المعلمين، والإدارات التعليمية. وسابع تلك المنافع بكون مثل هذا السجل أداة لتقييم المناهج والتخصصات الدراسية ودورها في تشكيل شخصية المتعلم. ثامنًا فإن هذا السجل سيكون أحد مداخل قياس العائد على الاستثمار في حقل التعليم وخاصة على المستوى الوطني. كما هو في المنفعة التاسعة سيمكن من معرفة أسباب وعوامل فجوات الإنجار بالنسبة للطلبة، سواء على مستوى الأداء أو الشخصية، وسيمنح الباحثين في حقل سياسات التعليم مجالات جديدة للبحث والتنقيب تتباين عن المجالات التقليدية التي تحتكم إلى توافر البيانات المحدودة. وعاشرًا سيمكن هذا السجل من تجسير الفجوة بين المهارات المكتسبة والمهارات المطلوبة وذلك من خلال فهم مسارات الطلبة بعد التخرج، والفرص المتاحة لهم، والفترات التي يقضونها للانخراط في الدورة الاقتصادية والإنتاجية، وعلاقة ما اكتسبوه وتخصصوا فيه بمساراتهم شغلهم اللاحقة.
حقل التعليم كحقل تنموي أمام فرص كبيرة فيما يتعلق باستثمار فرصة البيانات الضخمة، ذلك أنه يتعامل مع القطاع الأوسع في المجتمع، ويصل إليه بشكل يومي، ويرصد تشكل معالم الشخصيات والهويات والأفعال الاقتصادية في مرحلة عمرية مهمة من تشكل الكائن الاجتماعي، وكلما كان هناك استثمار في هذه الفرصة كلما ساعد ذلك في إنجاز سياسات تعليمية أكثر استنارة ومرونة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: على مستوى التعلیم ا
إقرأ أيضاً:
“كاوست” ضمن أفضل 100 جامعة عالميًا في تصنيف تأثير الجامعات الصادر عن ” مجلة التايمز للتعليم العالي”
• “كاوست” تُحقق أعلى تصنيف لها في مؤشر الاستدامة الصادر عن “تصنيف التايمز لتأثير التعليم العالي”
البلاد (ثول)
تواصل جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) تعزيز مكانتها كنموذج رائد في الابتكار والتعليم بالمنطقة، حيث تعكس كيفية مساهمة المملكة العربية السعودية في تحقيق إنجازات علمية وتقنية متميزة من خلال الممارسات المستدامة. وقد نالت جهود الجامعة في مجال الاستدامة تقديراً مستمراً من تصنيفات “تأثير الجامعات” التي تصدرها مجلة التايمز للتعليم العالي (THE Impact Rankings)، حيث حققت كاوست هذا العام إنجازاً تاريخياً بدخولها قائمة أفضل 100 جامعة عالمياً للمرة الأولى.
وحققت كاوست إنجازًا عالميًا بارزًا، بعدما جاءت ضمن أفضل 10 جامعات على مستوى العالم في هدفين رئيسيين من أهداف التنمية المستدامة التي حددتها الأمم المتحدة، وهما: الهدف الحادي عشر المتعلق بالمدن والمجتمعات المحلية المستدامة، والهدف الرابع عشر المعني بالحياة تحت الماء. كما صُنّفت كاوست ضمن أفضل 20 جامعة عالميًا في الهدف السادس الخاص بالمياه النظيفة والنظافة الصحية، إضافة إلى الهدف السابع عشر المعني بعقد الشراكات لتحقيق الأهداف.
وعلى مستوى العالم العربي، حلّت كاوست في المرتبة الخامسة بين الجامعات العربية، والثالثة على مستوى الجامعات السعودية. وواصلت تميزها الإقليمي بتصدرها المركز الأول عربيًا في الهدف 11 (المدن والمجتمعات المحلية المستدامة) والهدف 14 (الحياة تحت الماء)، ما يعكس التزامها العميق بدعم أجندة التنمية المستدامة من خلال البحث والابتكار والتعاون الدولي.
وفي هذا السياق، قال رئيس الجامعة، البروفيسور إدوارد بيرن:” تمثل الاستدامة محوراً أساسياً في رسالة كاوست. نحن نستخدم العلوم والابتكار لتقديم حلول لتحديات العالم الملحة، مع تعزيز مجتمع شامل ومتين داخل كاوست ومع شركائنا في المملكة العربية السعودية”.
ويُعزى الأداء المتميز للجامعة أيضاً إلى شراكاتها الواسعة مع القطاعين الحكومي والخاص، والتي ساهمت في دعم تطوير سياسات تجارية وتسويقية مستدامة.
من جانبها، علّقت البروفيسورة آنا مارغاريدا كوستا، رئيسة الاستدامة في كاوست، قائلة “يؤكد هذا التصنيف الجديد أن كاوست تُسرّع جهودها نحو تحقيق الاستدامة عبر التعليم والبحث والابتكار والتشغيل والمشاركة المجتمعية. إن النهج متعدد التخصصات الذي تتبعه الجامعة، والذي يركز على التطبيقات الواقعية والشراكات داخل المملكة وخارجها، يُسهم في تحقيق تأثير ملموس على المستويين المحلي والعالمي.”
وفي تأكيد على التزامها بالشفافية والتطوير المستدام، أصدرت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) في مايو الماضي تقريرها السنوي للاستدامة، الذي أعدّه مكتب الاستدامة في الجامعة، ليسلط الضوء على إنجازاتها المتقدمة ضمن الأهداف السبعة عشر للتنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة. ويستعرض التقرير عددًا من المبادرات الرائدة التي تعكس الدور الحيوي لكاوست في مواجهة التحديات العالمية، من بينها تطوير أجهزة مبتكرة لجمع المياه من الغلاف الجوي تعمل بالطاقة الشمسية، بهدف توفير مياه شرب ميسورة التكلفة في المناطق القاحلة، واستخدام تقنيات تصوير وتحليل حاسوبية متقدمة لتحديد المناطق الأكثر عرضة للكوارث المرتبطة بالمناخ، إلى جانب ابتكار أدوية ومعززات حيوية تهدف إلى حماية الشعاب المرجانية واستعادة عافيتها، في خطوة تعزز من استدامة النظم البيئية البحرية، كما يستعرض التقرير المراكز الأربعة للتميز التي افتُتحت مؤخراً في كاوست، والتي تُركز على دعم ركائز البحث والتطوير والابتكار الوطنية في المملكة.
تُجسد هذه الإنجازات التزام كاوست طويل الأمد بمواءمة جهودها البحثية والابتكارية مع أولويات المملكة الوطنية، والتي تشمل تنويع مصادر الطاقة، والأمن الغذائي والمائي، وتعزيز الرعاية الصحية، وتطوير القطاعات المستقبلية – وهي أولويات تنعكس بجلاء في أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة وتهدف جميعها إلى رفع جودة الحياة.