حظي موضوع الدعم الأمريكي السخي المطلق لإسرائيل بنقاش واسع منذ أن تنامى بسفور كامل بعد حرب أكتوبر عام 1973، وتعددت مستويات هذا النقاش ومقارباته بين الأبحاث التي تنطلق من مبدأ المصالح الاستراتيجية المشتركة بين الولايات المتحدة ودولة الكيان المحتل، وأخرى تفسّر العلاقة الحميمة بين الطرفـين انطلاقًا من دراسة النشاط التاريخي للمجتمع اليهودي فـي صناعة السياسة الخارجية الأمريكية تجاه قضايا العالم، وبمزيج من السياسة والمال، بينما يدور النقاش فـي سياقات أخرى حول مقاربة دينية ترتكز على دور المسيحية الصهيونية وتحالفها مع/ أو توظيفها لـ«المسألة اليهودية».
لا نُغفل أيضًا تأثير التناول الإعلامي والشعبوي المسطَّح، خاصة فـي الأوساط العربية، والذي يماهي مماهاة شبه تامة بين السياسات الأمريكية والإسرائيلية فـي الشرق الأوسط، ذاهبًا فـي كثير من الأحيان لصناعة الأساطير وترويجها عن الفئة القليلة التي تحكم العالم من الغرف المظلمة، هناك فـي نيويورك أو واشنطن، أو عبر منظمات الضغط الصهيونية مثل «إيباك» التي صنفتها دراسة لـNational Journal عام 2005 كأقوى اللوبيات الأمريكية فـي واشنطن، متعادلة مع الاتحاد الأمريكي للمتقاعدين.
والحقيقة أن التفكير مليًا بسياسات الدعم الأمريكي المفتوح لإسرائيل، وخاصةً فـي تجلياتها الأبشع بعد السابع من أكتوبر 2023، تصيبنا فعلًا بالعجز عن مقاربة الأمر مقاربةً سياسية تقليدية من المنظور النظري المحدد والمركز لفهم التحالفات والعلاقات الدولية التقليدية.
نعم، لا يمكننا أن نفكر فـي هذه العلاقة دون أن نقع أسرى لمناخها الأسطوري الذي يندر (أو ربما يستحيل) أن نعثر على حالة شبيهة به فـي مجمل سجلات الحركات الاستعمارية، بحيث نصبح فـي موقف لا بأس فـيه أن نجازف -مع بعض الحذر الضروري- باعتبار الدعم الأمريكي اللامشروط لإسرائيل حالةً أسطورية عبر التاريخ بالفعل.
ثمة حقائق مباشرة عن هذا الدعم، وعلى رأسها أن إسرائيل هي «أكبر متلقٍ سنوي للمساعدة الأمريكية المباشرة، الاقتصادية والعسكرية، منذ سنة 1976، وأكبر متلقٍ إجمالي للمساعدة منذ الحرب العالمية الثانية».
جاء هذا فـي دراسة بالغة الأهمية فـي توقيتها عام 2006، نشرتها كلية جون ف. كينيدي التابعة لجامعة هارفرد بعنوان «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية» التي قدّمها جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية البارز فـي جامعة شيكاغو، برفقة ستيفن والت عميد كلية كينيدي. تصف الدراسة الولايات المتحدة بـ«المحسن العظيم» الذي يجازف بمصالحه العليا لمساندة «الديمقراطية اليتيمة فـي الشرق الأوسط» ولإنقاذ داود الواقف وحيدًا فـي مواجهة جالوت العربي العملاق، مع أن واقع القوة على الأرض لا يعكس إلا انقلابًا صارخًا للأسطورة.
مع ذلك، هناك ما يضع العقل بالكف حين نعلم أن السياسيين الأمريكيين كثيرًا ما اشتكوا (بصوت منخفض طبعًا) من تجسس إسرائيل وعملائها على المؤسسات والمصالح الأمريكية؛ إذ تُعتبر إسرائيل الحليف الأكثر تجسسًا على أمريكا، وفقًا لما تشير إليه الدراسة التي سارعت جامعة هارفرد للتنصل منها بإزالة اسمها وشعارها، وذلك بعد أن تلقت تهديدًا صارمًا من قبل جماعات الضغط اليهودية فـي أمريكا التي توعَّدت بحجب التبرعات عن الجامعة فـي حال توانت عن إنزال أشد العقوبات بمؤلفـي الدراسة، وهو ما دعا ستيفن والت لتقديم استقالته من منصبه. وكانت مجلة الدراسات الفلسطينية قد سارعت لنشر نص الدراسة مترجمًا بعد فترة وجيزة فـي عددها 66، ربيع 2006.
ربما يكون الكاتب والصحفـي الأمريكي ستيفن آيزاكس من أوائل من قدّموا كتابًا فـي الموضوع بعد حرب أكتوبر، الحرب التي افتتحت فصلًا جديدًا فـي التبني الأمريكي لإسرائيل وضاعفت من المساعدات العسكرية والمالية لها. فـي كتابه «اليهود والسياسة الأمريكية» الصادر عام 1974، يعلل آيزاكس سطوة اليهود على مجريات الحياة السياسية فـي أمريكا، والتي تنعكس بالتالي على السياسة الخارجية تجاه إسرائيل، من خلال ما وصفه بنشاط اليهود المفرط والاستثنائي فـي السياسة مقارنة بالفئات الأخرى.
إنهم فـي أمريكا، فـي «أول بلد يعاملهم كرجال ونساء قبل أن يعاملهم كيهود»، وفـي أمريكا باتوا يؤمنون أكثر من أي وقت مضى بأن «الإنسان هو صانع التاريخ أكثر مما هو صنيعته»، مع ذلك فهم يتهربون من التعريف بأنفسهم يهودًا، خاصة فـي مجال العمل السياسي كما فـي الأوساط الأكاديمية، لم يعودوا يقولون: «أنا يهودي»، بل يقولون: «أنا ديمقراطي»، «أنا تقدمي»، «أنا أمريكي».
أصبح معظمهم من الليبراليين، متعلمين جدًا، وناجحين فـي المهن والجامعات، وميَّالين للاحتجاج، والنسبة العظمى منهم تصوت لصالح الحزب الديمقراطي ضد الجمهوريين المحافظين، ويتعاملون مع الانتخابات بقلق شديد.
لقد تخلى معظمهم عن الصلاة والابتهال كليًا ليتديَّن بالسياسة، كما لم يحدث قط فـي تاريخ اليهودية عبر آلاف السنين. لقد أصبحت السياسة هي دينهم كما عبر أحد المعبرين الفكريين عن اللجنة اليهودية الأمريكية: «إن حماسة اليهود غير التقليديين للسياسة هي ديانتهم فـي الأمر الواقع. وعلى الرغم من كل ما مروا به من محن، فإن أولئك اليهود ما زالوا يؤمنون بالخلاص الديني، وديانتهم هي السياسة».
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فـی أمریکا
إقرأ أيضاً:
واشنطن تحذر اليهود والإسرائيليين في الإمارات من خطر وشيك
أصدرت البعثة الدبلوماسية الأميركية في الإمارات، اليوم الجمعة، تحذيرًا من تهديدات أمنية محتملة تستهدف الجاليات اليهودية والإسرائيلية داخل الدولة، داعية المواطنين الأميركيين إلى توخي الحذر وتجنب المواقع المرتبطة بهذه الجاليات، بما في ذلك أماكن العبادة.
وقالت البعثة، في منشور عبر حسابها الرسمي على منصة "إكس"، إنها تحث المواطنين الأميركيين على الابتعاد عن المواقع التي قد تشكل أهدافًا محتملة، دون أن توضح طبيعة التهديدات أو الجهات التي تقف خلفها.
ووفقًا لوكالة "رويترز"، شهدت الإمارات تزايدًا ملحوظًا في أعداد الجاليتين الإسرائيلية واليهودية منذ توقيع "اتفاقيات أبراهام" عام 2020، والتي أسست لعلاقات رسمية بين الإمارات والاحتلال الإسرائيلي، برعاية أميركية.
لكن مع اندلاع الحرب على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تبعها من تصاعد الغضب الشعبي إزاء جرائم الاحتلال الإسرائيلي، باتت الجاليات اليهودية والإسرائيلية أكثر حذرًا وأقل ظهورًا في الفضاء العام.
ونقل أفراد من الطائفة اليهودية في الإمارات أن المعابد أغلقت أبوابها بعد بدء الحرب، لأسباب أمنية، وأن التجمعات الدينية باتت تُقام بشكل محدود داخل المنازل. ولا توجد إحصاءات رسمية عن عدد اليهود أو الإسرائيليين المقيمين في الإمارات، غير أن تقديرات غير رسمية تشير إلى وجود بضعة آلاف.
وفي سياق متصل، كانت محكمة استئناف أبو ظبي الاتحادية قد أصدرت في مارس/آذار الماضي حكمًا بالإعدام بحق ثلاثة أشخاص، بعد إدانتهم بقتل الإسرائيلي المولدوفي زافي كوجان، في حادثة وقعت في نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
© 2000 - 2025 البوابة (www.albawaba.com)
قانوني وكاتب حاصل على درجة البكالوريوس في الحقوق، وأحضر حالياً لدرجة الماجستير في القانون الجزائي، انضممت لأسرة البوابة عام 2023 حيث أعمل كمحرر مختص بتغطية الشؤون المحلية والإقليمية والدولية.
الأحدثترنداشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن
اشترك الآن