دكتور هشام عثمان

في ظل الصراعات المعقدة التي يشهدها السودان اليوم، تظهر توجهات عديدة تدعو إلى استمرار الحرب كخيار أساسي رغم التحديات والواقع الميداني الذي يشير إلى عجز واضح في إدارة الصراع على جميع الجبهات. يبدو أن هذه الدعوات لا تقتصر فقط على المنطق العسكري، بل تتجاوز ذلك إلى سياقات سياسية واجتماعية تعكس محاولات بعض القوى للحفاظ على الهيمنة والنفوذ في ظل الأوضاع المضطربة.



جذور التمسك بالحرب: الأبعاد النفسية والسياسية

إن التمسك بالحرب رغم عجز الجيش السوداني في مواجهة التحديات هو نتيجة مباشرة لاستثمار بعض الفئات في الصراع، سواء على المستوى النفسي أو السياسي. فالتراجع عن القتال، بالنسبة لهم، يعتبر خيانة للمبادئ أو اعترافًا بالهزيمة، وهو ما يولد نوعًا من العناد والإصرار على الاستمرار. هذه العقلية يمكن فهمها في إطار ما يسمى بـ"التكلفة الغارقة"، حيث يكون الفاعلون أكثر استعدادًا للتمسك بمواقفهم بغض النظر عن العواقب، لأنهم يشعرون بأنهم قد استثمروا الكثير ولا يمكنهم التراجع الآن.

السياسيون والقيادات العسكرية الذين يستمرون في دعم الحرب يعلمون تمام العلم أن الحلول السياسية قد تعني تغييرًا جذريًا في موازين القوى، وهو ما يخشونه. لهذا، تبرز الحرب كأداة لحماية مصالحهم وإدامة سيطرتهم على المشهد السياسي والاجتماعي في السودان. الحل السياسي، في منظور هؤلاء، قد يحمل تهديدات بإعادة توزيع السلطة أو تقليص النفوذ، وهو ما يدفعهم للتمسك بالخيار العسكري حتى وإن كان يبدو غير مجدٍ أو غير قابل للتحقيق.

الهيمنة والتمسك بالعنف: هل هو خيار استراتيجي؟

تاريخيًا، لجأت العديد من الأنظمة السياسية في دول العالم الثالث إلى الحروب والصراعات المسلحة كوسيلة للحفاظ على سيطرتها، وتفادي أي تغيير قد يمس هيمنتها على السلطة. في السودان، نجد أن نفس العقلية تسيطر على النخب التي ترفض أي بدائل سياسية حقيقية خوفًا من فقدان امتيازاتها. هذا التوجه يعكس عقلية متمسكة بالهيمنة عبر أدوات العنف، حيث يعتبر استمرار الحرب ضمانًا لإبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه.

لكن الاستمرار في هذه السياسات يطرح تساؤلات حول مدى عقلانيتها وإمكانية نجاحها على المدى الطويل. فالحروب لا تحقق فقط تكاليف باهظة على المستوى الإنساني والمادي، بل تؤدي إلى إنهاك الدولة والمجتمع وتعميق الانقسامات الداخلية. هذه الانقسامات قد تخلق بيئة خصبة لنشوء مزيد من الحروب الأهلية والصراعات الطائفية، ما يجعل الحل العسكري بعيد المنال حتى بالنسبة لمن يدعون له.

استنفار القبائل: أداة لاستدامة الحرب الأهلية

أحد أبرز مظاهر التمسك بالحرب هو محاولات تغطية العجز الميداني من خلال استنفار القبائل، وهو ما يمثل تحولًا خطيرًا في مسار الصراع. عندما تواجه القوى السياسية والعسكرية عجزًا في تحقيق تقدم ميداني أو المحافظة على مواقعها، تلجأ إلى تعبئة القبائل كمصدر للدعم البشري والعسكري. هذا التكتيك يعكس استغلالًا غير أخلاقي للهياكل القبلية التقليدية في السودان، حيث يُستدعى الولاء القبلي لتحفيز المشاركة في القتال، دون الاهتمام بالتداعيات الكارثية لهذا النهج.

إن استدعاء القبائل للقتال يؤدي إلى تعميق الانقسامات الأهلية وتحويل الصراع إلى حرب أهلية مفتوحة، حيث تتداخل المصالح الشخصية والقبلية مع الأجندات السياسية. هذا يزيد من صعوبة حل الصراع سياسيًا، إذ يتحول الصراع من كونه نزاعًا بين القوى المركزية إلى نزاع مجتمعي شامل. ولعل أبرز ما يميز هذا النهج هو أنه يعتمد على استدامة الحرب بدلاً من البحث عن حل حقيقي، ما يعني استمرار العنف والتدهور على حساب وحدة الدولة.

هذه العقلية التي تعتمد على استنفار القبائل تتجاهل تمامًا قانون "النتائج غير المحسوبة"، The law of unintended consequencies حيث يمكن أن تؤدي تعبئة هذه الجماعات إلى انفلات السيطرة عليها، وبالتالي حدوث صراعات داخلية جديدة غير متوقعة. القوى التي تلجأ إلى هذا الأسلوب تتغاضى عن إمكانية فقدان السيطرة على الحرب نفسها، حيث قد تتفاقم الصراعات وتخرج عن السيطرة، لتتحول إلى مواجهات طائفية وقبلية يصعب احتواؤها.

العناد الأيديولوجي: رفض للواقعية السياسية

من أبرز سمات التمسك بالحرب كأداة للحفاظ على الهيمنة هو العناد الأيديولوجي الذي يتجسد في رفض أي حلول سياسية واقعية. هذه العقلية تستند إلى مفاهيم وطنية أو أيديولوجية تعزز فكرة أن الاستمرار في الحرب هو الخيار الوحيد للحفاظ على كرامة الأمة أو سلامة الوطن. هنا، يتحول العنف إلى قيمة بحد ذاته، يتم تقديسه والدفاع عنه، رغم أنه قد لا يحقق أي نتائج ملموسة.

في السودان، نجد هذا العناد يتجسد في الخطاب السياسي الذي يرفض أي محاولات للسلام أو الحوار، ويصور الحلول السياسية كتنازلات غير مقبولة. هذه العقلية تتجاهل تمامًا التعقيدات على الأرض والآثار الكارثية التي تخلفها الحرب، مثل الدمار الاقتصادي والنزوح الجماعي والانهيار الاجتماعي. بدلاً من التفكير الواقعي في كيفية تحقيق السلام والاستقرار، يتم التمسك بالقتال كوسيلة لفرض الهيمنة السياسية والحفاظ على الوضع القائم.

الخوف من فقدان السلطة: المحرك الأساسي للتمسك بالحرب

من أكبر الأسباب التي تدفع بعض الفئات السياسية والعسكرية في السودان إلى التمسك بالحرب هو الخوف من فقدان السلطة. هذا الخوف ينبع من حقيقة أن الحل السياسي قد يحمل في طياته إعادة توزيع للسلطة والثروة، مما يهدد النفوذ الذي يتمتع به بعض القادة والمجموعات السياسية. الحرب في هذه الحالة تصبح وسيلة للحفاظ على الامتيازات وضمان استمرار السيطرة على مؤسسات الدولة.

هذا الخوف قد يكون مبررًا من منظور تلك الفئات، ولكنه على المدى الطويل يمثل استراتيجية محفوفة بالمخاطر. فالاستمرار في الحرب يعني المزيد من الدمار والتراجع الاقتصادي والسياسي، ما يضعف الدولة بأسرها ويجعل من الصعب الحفاظ على السلطة بأي شكل كان..

في النهاية، يمكن القول إن التمسك بالحرب كأداة للحفاظ على الهيمنة في السودان يعكس أزمة عميقة في الفكر السياسي السائد. هذه الأزمة تتمثل في عدم القدرة على الاعتراف بالواقع المتغير والحاجة الملحة لحلول سياسية تضمن استقرار البلاد واستعادة مؤسسات الدولة. على الفاعلين السياسيين والعسكريين أن يدركوا أن الحرب ليست وسيلة مستدامة لتحقيق الهيمنة، وأن الحلول السياسية قد تكون السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق.

إن التحلي بالواقعية السياسية والتخلي عن العناد الأيديولوجي قد يكون هو المفتاح لإنهاء الصراع في السودان وإعادة بناء الدولة على أسس أكثر عدالة وتوازن. الحلول العسكرية قد تؤدي إلى نصر مؤقت لبعض الأطراف، لكنها لن تحقق السلام والاستقرار اللذين يحتاجهما السودان على المدى الطويل.

hishamosman315@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: هذه العقلیة فی السودان وهو ما

إقرأ أيضاً:

“مواصلة التنسيق والعمل المشترك”.. السيسي يستقبل البرهان في العلمين

قال المتحدث الرسمي باسم الرئاسة المصرية، محمد الشناوي في تصريح عقب اللقاء:– اللقاء تناول مستجدات الأوضاع الميدانية في السودان، إلى جانب الجهود الإقليمية والدولية المبذولة لاستعادة السلام والاستقرار هناك– الرئيس السيسي أكد خلال اللقاء ثوابت الموقف المصري الداعم لوحدة السودان وسيادته وأمنه واستقراره، مشددًا على استعداد مصر لبذل كل جهد ممكن في هذا الإطار– الجانبان توافقا على أهمية تكثيف المساعي الرامية إلى تقديم الدعم والمساندة للشعب السوداني الشقيق، في ظل الظروف الإنسانية القاسية التي يمر بها جراء النزاع الدائر– المباحثات تطرقت أيضًا إلى سبل تعزيز العلاقات الثنائية، بما في ذلك جهود إعادة إعمار السودان، وفتح آفاق جديدة للتعاون المشترك، لا سيما في المجالات الاقتصادية، بما يلبي تطلعات الشعبين الشقيقين لتحقيق التكامل والتنمية المتبادلة– تم التأكيد على تطابق رؤى البلدين إزاء الأولويات المتعلقة بالأمن القومي، وحرصهما على مواصلة التنسيق والعمل المشترك لحماية الأمن المائي، ورفض الإجراءات الأحادية في حوض النيل الأزرق.الجزيرة – السودان إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • “أنين حواضرنا هو صوتنا”.. حملة لمناصرة المدن المحاصرة في السودان
  • جهود “أممية” حثيثة لإنهاء الصراع المسلح في السودان وتوصيل المساعدات
  • “مواصلة التنسيق والعمل المشترك”.. السيسي يستقبل البرهان في العلمين
  • اتفاق جوبا واستمرار الصراع على السلطة
  • السودان.. من لم يمت بالحرب ابتلعته مناجم الذهب
  • في مؤتمر “أممي”.. رؤية سودانية لإعمار ما دمرته الحرب
  • العدل والمساواة: “اتفاق جوبا” ليس تسوية سياسية بل خطوة لمعالجة الاختلالات التاريخية في السودان
  • أوحيدة: المسار الوحيد لحل الأزمة السياسية يمرّ عبر توافق “النواب” و”الدولة”
  • “صمود” يطرح رؤيته لإنهاء الحروب في السودان واستعادة الثورة
  • فيديو تهكّم ترامب على خامنئي بجملة فزنا بالحرب يثير تفاعلا