التمسك بالحرب كأداة للحفاظ على الهيمنة: قراءة سياسية في عقلية “قطع العقدة بالسيف”
تاريخ النشر: 24th, October 2024 GMT
دكتور هشام عثمان
في ظل الصراعات المعقدة التي يشهدها السودان اليوم، تظهر توجهات عديدة تدعو إلى استمرار الحرب كخيار أساسي رغم التحديات والواقع الميداني الذي يشير إلى عجز واضح في إدارة الصراع على جميع الجبهات. يبدو أن هذه الدعوات لا تقتصر فقط على المنطق العسكري، بل تتجاوز ذلك إلى سياقات سياسية واجتماعية تعكس محاولات بعض القوى للحفاظ على الهيمنة والنفوذ في ظل الأوضاع المضطربة.
جذور التمسك بالحرب: الأبعاد النفسية والسياسية
إن التمسك بالحرب رغم عجز الجيش السوداني في مواجهة التحديات هو نتيجة مباشرة لاستثمار بعض الفئات في الصراع، سواء على المستوى النفسي أو السياسي. فالتراجع عن القتال، بالنسبة لهم، يعتبر خيانة للمبادئ أو اعترافًا بالهزيمة، وهو ما يولد نوعًا من العناد والإصرار على الاستمرار. هذه العقلية يمكن فهمها في إطار ما يسمى بـ"التكلفة الغارقة"، حيث يكون الفاعلون أكثر استعدادًا للتمسك بمواقفهم بغض النظر عن العواقب، لأنهم يشعرون بأنهم قد استثمروا الكثير ولا يمكنهم التراجع الآن.
السياسيون والقيادات العسكرية الذين يستمرون في دعم الحرب يعلمون تمام العلم أن الحلول السياسية قد تعني تغييرًا جذريًا في موازين القوى، وهو ما يخشونه. لهذا، تبرز الحرب كأداة لحماية مصالحهم وإدامة سيطرتهم على المشهد السياسي والاجتماعي في السودان. الحل السياسي، في منظور هؤلاء، قد يحمل تهديدات بإعادة توزيع السلطة أو تقليص النفوذ، وهو ما يدفعهم للتمسك بالخيار العسكري حتى وإن كان يبدو غير مجدٍ أو غير قابل للتحقيق.
الهيمنة والتمسك بالعنف: هل هو خيار استراتيجي؟
تاريخيًا، لجأت العديد من الأنظمة السياسية في دول العالم الثالث إلى الحروب والصراعات المسلحة كوسيلة للحفاظ على سيطرتها، وتفادي أي تغيير قد يمس هيمنتها على السلطة. في السودان، نجد أن نفس العقلية تسيطر على النخب التي ترفض أي بدائل سياسية حقيقية خوفًا من فقدان امتيازاتها. هذا التوجه يعكس عقلية متمسكة بالهيمنة عبر أدوات العنف، حيث يعتبر استمرار الحرب ضمانًا لإبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه.
لكن الاستمرار في هذه السياسات يطرح تساؤلات حول مدى عقلانيتها وإمكانية نجاحها على المدى الطويل. فالحروب لا تحقق فقط تكاليف باهظة على المستوى الإنساني والمادي، بل تؤدي إلى إنهاك الدولة والمجتمع وتعميق الانقسامات الداخلية. هذه الانقسامات قد تخلق بيئة خصبة لنشوء مزيد من الحروب الأهلية والصراعات الطائفية، ما يجعل الحل العسكري بعيد المنال حتى بالنسبة لمن يدعون له.
استنفار القبائل: أداة لاستدامة الحرب الأهلية
أحد أبرز مظاهر التمسك بالحرب هو محاولات تغطية العجز الميداني من خلال استنفار القبائل، وهو ما يمثل تحولًا خطيرًا في مسار الصراع. عندما تواجه القوى السياسية والعسكرية عجزًا في تحقيق تقدم ميداني أو المحافظة على مواقعها، تلجأ إلى تعبئة القبائل كمصدر للدعم البشري والعسكري. هذا التكتيك يعكس استغلالًا غير أخلاقي للهياكل القبلية التقليدية في السودان، حيث يُستدعى الولاء القبلي لتحفيز المشاركة في القتال، دون الاهتمام بالتداعيات الكارثية لهذا النهج.
إن استدعاء القبائل للقتال يؤدي إلى تعميق الانقسامات الأهلية وتحويل الصراع إلى حرب أهلية مفتوحة، حيث تتداخل المصالح الشخصية والقبلية مع الأجندات السياسية. هذا يزيد من صعوبة حل الصراع سياسيًا، إذ يتحول الصراع من كونه نزاعًا بين القوى المركزية إلى نزاع مجتمعي شامل. ولعل أبرز ما يميز هذا النهج هو أنه يعتمد على استدامة الحرب بدلاً من البحث عن حل حقيقي، ما يعني استمرار العنف والتدهور على حساب وحدة الدولة.
هذه العقلية التي تعتمد على استنفار القبائل تتجاهل تمامًا قانون "النتائج غير المحسوبة"، The law of unintended consequencies حيث يمكن أن تؤدي تعبئة هذه الجماعات إلى انفلات السيطرة عليها، وبالتالي حدوث صراعات داخلية جديدة غير متوقعة. القوى التي تلجأ إلى هذا الأسلوب تتغاضى عن إمكانية فقدان السيطرة على الحرب نفسها، حيث قد تتفاقم الصراعات وتخرج عن السيطرة، لتتحول إلى مواجهات طائفية وقبلية يصعب احتواؤها.
العناد الأيديولوجي: رفض للواقعية السياسية
من أبرز سمات التمسك بالحرب كأداة للحفاظ على الهيمنة هو العناد الأيديولوجي الذي يتجسد في رفض أي حلول سياسية واقعية. هذه العقلية تستند إلى مفاهيم وطنية أو أيديولوجية تعزز فكرة أن الاستمرار في الحرب هو الخيار الوحيد للحفاظ على كرامة الأمة أو سلامة الوطن. هنا، يتحول العنف إلى قيمة بحد ذاته، يتم تقديسه والدفاع عنه، رغم أنه قد لا يحقق أي نتائج ملموسة.
في السودان، نجد هذا العناد يتجسد في الخطاب السياسي الذي يرفض أي محاولات للسلام أو الحوار، ويصور الحلول السياسية كتنازلات غير مقبولة. هذه العقلية تتجاهل تمامًا التعقيدات على الأرض والآثار الكارثية التي تخلفها الحرب، مثل الدمار الاقتصادي والنزوح الجماعي والانهيار الاجتماعي. بدلاً من التفكير الواقعي في كيفية تحقيق السلام والاستقرار، يتم التمسك بالقتال كوسيلة لفرض الهيمنة السياسية والحفاظ على الوضع القائم.
الخوف من فقدان السلطة: المحرك الأساسي للتمسك بالحرب
من أكبر الأسباب التي تدفع بعض الفئات السياسية والعسكرية في السودان إلى التمسك بالحرب هو الخوف من فقدان السلطة. هذا الخوف ينبع من حقيقة أن الحل السياسي قد يحمل في طياته إعادة توزيع للسلطة والثروة، مما يهدد النفوذ الذي يتمتع به بعض القادة والمجموعات السياسية. الحرب في هذه الحالة تصبح وسيلة للحفاظ على الامتيازات وضمان استمرار السيطرة على مؤسسات الدولة.
هذا الخوف قد يكون مبررًا من منظور تلك الفئات، ولكنه على المدى الطويل يمثل استراتيجية محفوفة بالمخاطر. فالاستمرار في الحرب يعني المزيد من الدمار والتراجع الاقتصادي والسياسي، ما يضعف الدولة بأسرها ويجعل من الصعب الحفاظ على السلطة بأي شكل كان..
في النهاية، يمكن القول إن التمسك بالحرب كأداة للحفاظ على الهيمنة في السودان يعكس أزمة عميقة في الفكر السياسي السائد. هذه الأزمة تتمثل في عدم القدرة على الاعتراف بالواقع المتغير والحاجة الملحة لحلول سياسية تضمن استقرار البلاد واستعادة مؤسسات الدولة. على الفاعلين السياسيين والعسكريين أن يدركوا أن الحرب ليست وسيلة مستدامة لتحقيق الهيمنة، وأن الحلول السياسية قد تكون السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق.
إن التحلي بالواقعية السياسية والتخلي عن العناد الأيديولوجي قد يكون هو المفتاح لإنهاء الصراع في السودان وإعادة بناء الدولة على أسس أكثر عدالة وتوازن. الحلول العسكرية قد تؤدي إلى نصر مؤقت لبعض الأطراف، لكنها لن تحقق السلام والاستقرار اللذين يحتاجهما السودان على المدى الطويل.
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: هذه العقلیة فی السودان وهو ما
إقرأ أيضاً:
“طبيعة الصراع مع العدو الإسرائيلي” في ندوة علمية بجامعة المحويت
المحويت|يمانيون
نظّمت جامعة المحويت، بالتعاون مع اللجنة التحضيرية لمؤتمر فلسطين، واللجنة المركزية للحشد والتعبئة، ومركز الدراسات السياسية والاستراتيجية اليمني، اليوم ندوة علمية بعنوان “طبيعة الصراع مع العدو الإسرائيلي”.
ويأتي تنظيم الندوة في إطار الفعاليات الأكاديمية المكرسة لتعزيز الوعي بالقضية الفلسطينية وتحديث المقاربات الفكرية المرتبطة بالصراع العربي الإسرائيلي.
وفي افتتاح الندوة، التي حضرها أمين عام محلي المحافظة الدكتور علي الزيكم ووكيلا المحافظة عبدالسلام الذماري وحسين عركاض ومسؤول التعبئة بالمحافظة اسماعيل شرف الدين، أكد رئيس جامعة المحويت الدكتور محمد الشلبي، أن القضية الفلسطينية ستظل في وجدان اليمنيين بصفتها قضية مبدئية وموقف ثابت لا يتغيّر مهما تبدلت الظروف.
وأشار إلى أن اليمن عبر التاريخ، شعبيًا يقفون في الصف الأول دفاعاً عن حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، مبينًا أن الندوة تأتي في سياق الموقف اليمني الداعم للقضية الفلسطينية في كل المحافل، ومواصلةً الدور التوعوي الذي تضطلع به الجامعات في كشف ممارسات الاحتلال وتعزيز فهم الأجيال لطبيعة الصراع مع العدو الإسرائيلي.
وأكد الدكتور الشلبي، أن انعقاد الندوة يأتي في مرحلة حساسة تمر بها المنطقة في ظل تصاعد تهديدات العدو الصهيوني، ما يستدعي تحمل المسؤولية في التوعية بخطر الكيان الصهيوني وكشف جرائمه والتصدي للآلة الإعلامية للعدو.
وبين أن المعركة مع المشروع الصهيوني، معركة وعي وثبات وانتماء قبل أن تكون مواجهة سياسية أو عسكرية، مشددّا على أن جامعة المحويت ستواصل دورها في تبني الأبحاث والبرامج العلمية التي تُسهم في ترسيخ الهوية والنضال الفلسطيني، وتدعيم موقف اليمن المبدئي الذي يعتبر فلسطين قضيته المركزية لا تقبل المساومة.
وتم خلال الندوة التي حضرها مدير أمن المحافظة العميد عبدالله الطاووس ونائب مسؤول التعبئة بالمحافظة عامر الاقهومي ومدراء المكاتب التنفيذية وعمداء الجامعات وأكاديميون وباحون، استعراض ثلاثة محاور رئيسية قدّمها نخبة من المختصين.
حيث ركّزت الأربعة المحاور على “الصراع مع أهل الكتاب وأهمية المقاطعة خلال عملية طوفان الأقصى وسيطرة الصهيونية على الغرب بهدف تحليل جذور الصراع وتداعياته الإقليمية والدولية، ومناقشة الأبعاد الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية المرتبطة به ودور النظام السعودي في خدمة العدو الصهيوني.
وقدّم رئيس جامعة صعدة الدكتور عبدالرحيم الحمران، المحور الأول بعنوان “الصراع مع أهل الكتاب”، مستعرضًا طبيعة الصراع مع أهل الكتاب من منظور فكري وتاريخي.
وبين أن فهم البيئة الثقافية والدينية للصراع يسهم في تصحيح المفاهيم وإبراز أحقية الشعب الفلسطيني في أرضه ومقدساته، مؤكدًا أن الإحاطة بالأبعاد الفكرية والدينية للصراع تسهم في تصحيح المفاهيم المغلوطة، وتعزيز الإدراك الواعي بعدالة القضية الفلسطينية، وإبراز أحقية الشعب الفلسطيني في أرضه ومقدساته، باعتبارها حق ثابت لا يمكن الطعن فيه أو تجاوزه.
فيما تناول المدير التنفيذي لمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية اليمني عبدالعزيز أبو طالب المحور الثاني الذي ركّز على أهمية المقاطعة خلال عملية طوفان الأقصى، مشدداً على دور المقاطعة الاقتصادية في إضعاف منظومات الدعم المادي للعدو، باعتبارها أداة شعبية فعّالة تساند المقاومة وتكامل الأدوار الوطنية والقومية.
واعتبر المقاطعة إحدى أهم صور المشاركة الشعبية في معركة الوعي، بما تحمله من تأثير مباشر على الشركات الداعمة للعدوان، مؤكداً أن هذا المسار الشعبي يُعد امتداداً للدور الوطني والقومي في إسناد القضية الفلسطينية، وتعزيز صمود المقاومة، وترسيخ مفهوم التكامل في مواجهة المشروع الصهيوني.
وركز رئيس جامعة البيضاء الدكتور أحمد العرامي في المحور الثالث على تناول موضوع السيطرة الصهيونية على الغرب وانعكاسات ذلك على سياسات الدول الكبرى تجاه القضية الفلسطينية.
وأوضح أن تغلغل النفوذ الصهيوني في المؤسسات الغربية ما يزال يشكّل أحد أبرز التحديات أمام نضال الشعب الفلسطيني، مؤكداً ضرورة تعزيز الوعي العربي والإسلامي بأدوات تلك السيطرة ووسائل مواجهتها.
وأكد الدكتور العرامي، أن تعزيز الوعي العربي والإسلامي بطبيعة الهيمنة، وكشف آلياتها وأساليب عملها، يمثّل ضرورة ملحّة لمواجهة تلك التحديات، وبناء موقف موحّد يسند صمود الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة.
وأكّدت توصيات الندوة، أن الصراع مع العدو الإسرائيلي ليس حدثاً طارئاً، بل هو صراع وجود وهويّة، يتطلّب تعزيز الوعي المجتمعي، ودعم محور المقاومة، وتحصين الجبهة الداخلية العربية والإسلامية.
وشددّت على دور الجامعات والمؤسسات البحثية في تعميق البحوث والدراسات التي تخدم القضية الفلسطينية وتكشف زيف الرواية الصهيونية.
ودعت التوصيات إلى استمرار عقد مثل الندوات وتوسيع دائرة الدراسات العلمية والفكرية المتخصصة وتعزيز الخطاب الديني والوطني في مواجهة العدو الصهيوني
#جامعة_المحويت#طبيعية_الصراع_مع_العدو_الإسرائيلي#ندوة_علمية