لطالما تجنبتُ وجوه الأمهات اللواتي فقدن أحد أبنائهن، لاسيما فـي أيام العزاء الأولى، إلا أنّي تفرستُ هذه المرّة شحوب الأمّ التي فقدت طفلتها البالغة الثالثة من عمرها غرقا فـي حوض، بينما كانت تهتمُ برضيعها الجديد. بدت لي شديدة اليأس ولم ترفع رأسها عندما انحنيتُ لتقبيلها.
شاهدتُ امرأة أخرى فـي طفولتي، تصرخُ كحيوان جريح وهي تجثو على جثة ابنها الذي قضى نحبه فـي حادث دهس، ولم أستطع تجاوز نحيبها كلما رأيتها، وهي أيضا لم تفعل.
يخبرنا إرفـين د. يالوم، فـي كتابه المهم «تعرية الحبّ»، ترجمة: جوهر عبدالمولى، والصادر عن منشورات حياة، عن رفض الناس التحدث عن موت أبنائهم، يصلُ الأمر بالبعض إلى العجز عن التذكر أو الذهاب إلى النوم، بينما يُساور البعض الآخر شعور يومي بالذنب.
تظهرُ عند البعض نبرة اتهام للذات ظاهرة أو خفـية، وشعور بالخزي، ويفعلُ بعضهم كما فعلت المرأة التي دُهس ابنها «يُجمدون الحزن»، فـيُكابدون ما يسميه يالوم «الفجيعة المُزمنة»، حيث يتعاظمُ إحساسهم بالخسارة، لأنّهم لم يعتقدوا للحظة واحدة أنّ الموت سينالُ من أعزّ أحبتهم!
أتذكرُ أمّ الغريقة -ودموعها تلتهبُ على خديها المُحمرين- وهي تتحدثُ بسرد موجع عن الفستان الأخير الذي ألبسته ابنتها، وكأنّها راغبة فـي التأكيد على شيء ما.. إلا أنّ النسوة قاطعنها وطلبن منها ألا تحكي وأن تستغفر وأن تحتسبها عند الله، وقلن لها شيئا عجيبا عن الدموع التي تؤذي الموتى!
وآنذاك فكرتُ بأنّ أسوأ ما قد يحدث هو ألا نقدر على مشاركة الآخرين تلك المشاعر الكئيبة التي تُمزق دواخلنا. إذ لا يعي الكثير من الناس أنّ لكل واحد منا طريقة ما لتجاوز الحزن، يستطيع بعضنا التخطي والقفز بينما بعض آخر يتأخرُ شعوره بالخلاص، فلا شيء يُغضب الآباء والأمهات أكثر من العجز عن مساعدة أبنائهم!
من وجهة نظر يالوم يعكس الأمر رغبتنا فـي السيطرة على ما لا نستطيع السيطرة عليه، إذ إنّ عقلنا يُحدثنا طوال الوقت: هنالك ما كان ينبغي فعله ولم نفعله، فنحنُ محاطون بوهم يجعلنا نعتقد بأنّ لدينا قوة ونموا غير محدودين، وأنّ الوجود عبارة عن مسار مُعبد بالإنجازات المتصاعدة إلى الأبد، بينما ينبغي أن نكون وجها لوجه مع قصّة زوالنا المؤكدة. فالمشاعر لا تتعلقُ دائما بذلك التفسير السطحي: قوة الإيمان أو ضعفه، فهي ليست زرا يُمرر أحدنا سبابته فـيشعلها أو يُطفئها!
يذهب يالوم إلى أنّ فقد أحد الوالدين يعني أن نفقد الماضي، أمّا فقدان الأبناء فـيعني أن نفقد المستقبل، فنحنُ ننظرُ للأبناء باعتبارهم مشروع الحياة الذي يُحقق لنا شيئا من الخلود.
عندما لا تُقدم المساعدة النفسية الملائمة، ولا يُفسح المجال لإظهار الهشاشة العميقة، فإنّ الثكالى يرزحون طويلا تحت عبء التورط بالإنكار المرير، «الاستعارة التي تنطبقُ على الحزن المزمن هي الجمود، حيث يصبح الجسم مُتخشبا والوجه مشدودا، وتُعيق الأفكار الباردة والمتكررة عمل الدماغ».
يهملُ مجتمعنا والأفراد فـيه أهمية العلاج النفسي، أو على الأقل مشاركة الشريكين فـي التحدث عن الحزن الذي ألمّ بهما، لاستيعاب الخسارة والتصالح مع حتمية الموت، كيلا يبقيا حبيسا تلك البرهة التي لا تمضي إلى الأبد، وللانغماس مُجددا مع الأحياء وكل الأشياء التي تجعل للحياة معنى.
يغدو التحدث إلى المصابين بالفجيعة، مُحفزا لكل طبقة من طبقات الحزن لأن تكشف عن الأخرى وصولا إلى الصميم المُعقد. «فالمرء إذا أراد أن يتعلم كيفـية التعايش مع ذهاب الموتى، يجب عليه أولا أن يتعلم كيفـية التعايش مع الأحياء».
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
مبادرة مدارس السَّلَم.. عندما يغير التعليم مصير الأطفال في قطر
أطلقت مؤسسة التعليم فوق الجميع، مبادرة "مدارس السَّلم" ضمن مشروع "سويا"، بالشراكة مع وزارة التربية والتعليم العالي القطرية، وبدعم من الجهات المانحة المحلية.
وذلك في إطار تحقيق رؤية دولة قطر في تعزيز العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وضمان التحاق جميع الأطفال بالمدارس بغض النظر عن جنسياتهم أو ظروفهم الاجتماعية.
ويهدف مشروع "سويا" إلى توفير الوصول العادل إلى التعليم للأطفال عبر المجتمعات في الدولة بتوفير فرص تعليم ذي جودة، مما يتيح لهم التغلب على التحديات وتحقيق إمكاناتهم الكاملة. كما أطلق "سويا" مبادرات رائدة مثل التعليم المنزلي والتعلم المدمج لدعم الفئات التي يصعب دمجها في الأنظمة التقليدية.
وساهم المشروع في تطوير السياسات الوطنية المتعلقة بتسجيل الأطفال في المدارس، بتنسيق الجهود مع المؤسسات الحكومية المعنية، مما أدى إلى إنشاء منصة وطنية لرصد الأطفال غير المسجلين رسميا بالمدارس ودعمهم للالتحاق بمقاعد الدراسة.
"مدارس السَّلم" الخمس تغطي جميع المراحل الدراسية من المرحلة الابتدائية وحتى الثانوية (الجزيرة)
التعليم الشامل
و"مدارس السَّلم" الخمس تغطي جميع المراحل الدراسية من المرحلة الابتدائية وحتى الثانوية، وتعمل هذه المدارس وفق مناهج تعليمية معتمدة في قطر، إذ تطبق ثلاث منها المنهج الوطني القطري، بينما تعتمد المدرستان الأولى والثالثة المنهج البريطاني تلبية لاحتياجات الطلبة غير الناطقين بالعربية.
إعلانكما تسعى مدارس السَّلم إلى توسيع نطاق خدماتها التعليمية بإطلاق "مدرسة السَّلم السادسة"، التي ستُخصص لتقديم التعليم النوعي للطلبة من ذوي الإعاقة، بما يضمن دمجهم الفاعل في المجتمع وتمكينهم أكاديميًا واجتماعيًا.
ومنذ تأسيسها، استفاد من خدمات مدارس السّلم أكثر من 16 ألفا و515 طالبًا وطالبة، وقُدمت أكثر من 18 ألفا و636 منحة دراسية، سواء من خلال مدارس السّلم أم مدارس خاصة ومجتمعية. ينتمي الطلبة إلى جنسيات، من أبرزها: فلسطين، سوريا، اليمن، السودان، الصومال، أفغانستان، مصر، باكستان، وغيرها.
وفي حديث خاص لـ"الجزيرة نت"، ذكرت نورة السليطي، مديرة مشروع "سويا" التابع لمؤسسة التعليم فوق الجميع، التحديات الأساسية في الوصول إلى الأطفال غير المسجلين رسميا لا سيما من أبناء بعض الجاليات، خاصة أولئك الذين يعيشون حواجز تعيقهم من الدخول في المدراس، ومنها تجاوز الطالب عمر الالتحاق بالصف الدراسي وفقدان الأوراق الثبوتية والتحديات المادية والاجتماعية، وأيضا قد يتطلب ذلك بناء جسور من الثقة مع هذه المجتمعات، واعتماد حلول مبتكرة مثل مبادرات التعليم المنزلي.
وقالت السليطي "لاحظنا أن توفير بيئة تعليمية حاضنة ومشجعة، تمكن الأطفال من تحقيق تطور أكاديمي واجتماعي ملموس، أصبح الطلاب أكثر اندماجا في المجتمع و لديهم طموحات واضحة نحو مستقبل أفضل".
وأشارت إلى أن أبرز ما يميز مدارس السَّلَم أنها تقدم تعليما شاملا له جدوى، باللغتين العربية والإنجليزية مع دعم نفسي واجتماعي متكامل، وأضافت "نحن لا نركز فقط على الجوانب الأكاديمية، بل نولي اهتماما خاصا ببناء شخصية الطالب وتمكينه من التغلب على التحديات الشخصية والاجتماعية".
وأكدت السليطي أن الأثر الفعلي للمشروع يتجاوز الأرقام، "فقد تمكنا من إحداث تغيير حقيقي في حياة الآلاف من هؤلاء الأطفال بتوفير فرص تعليمية حقيقية لهم، مما انعكس إيجابا على مستقبلهم وطموحاتهم".
إعلانوعن خطط التوسع المستقبلية للمشروع، قالت السليطي "نعمل حاليا على توسعة مدارس السَّلَم، وتعزيز برامج التعليم للأطفال ذوي الإعاقة، بتطوير شراكات مع مؤسسات وطنية لضمان استدامة هذا الأثر، حيث يخطط المشروع لافتتاح مدرسة سادسة لدعم الأطفال ذوي الإعاقات الخفيفة إلى المتوسطة، إلى جانب إطلاق مشروع لتعزيز تعليم المهارات المرتبط بالزراعة والفنون والحرف، كما تم إدخال دعم نفسي شامل بشراكة مراكز الطب المحلية، وبرامج للإرشاد المهني بالتعاون مع مركز قطر للتطوير المهني".
ويعتبر محمد (15عاما) نموذجا لنجاح المشروع، وصل إلى قطر قادما من سوريا عام 2022، حاملا معه أحلاما كبيرة وتحديات جسيمة، بما فيها التعافي من عملية جراحية في القلب والتأقلم مع بيئة جديدة، بفضل مدرسة السَّلَم الخامسة، حيث التحق بالصف السابع.
وجد محمد ملاذا تعليميا حاضنا له ولأشقائه الذين التحقوا بالصفين الأول والخامس، محمد الذي كان يخشى أن يفقد شغفه بالتعلم، استعاد حبه للمعرفة، لا سيما في مادتي اللغة الإنجليزية والعلوم، وهو اليوم يصفه معلموه بأنه "طالب موهوب يتحدى المصاعب بإصرار".
أما حنين، الطفلة اليمنية ذات العشرة أعوام، فقد وجدت في مدارس السَّلَم منصة لتحقيق أحلامها، هربت حنين مع عائلتها من أهوال الحرب الأهلية في اليمن، وواجهت في البداية صعوبة كبيرة في التكيف مع حياتها الجديدة، إلا أن دعم معلماتها وزملائها سرعان ما مكنها من التفوق التعليمي، إذ أصبحت من أوائل الطلاب في الصف السادس، تحلم حنين بأن تصبح معلمة، وأن تسهم ذات يوم في إعادة بناء وطنها.
بينما تحدى أحمد (16عاما) من السودان، أصعب الظروف بعد أن اضطر إلى مغادرة قريته الصغيرة في بلده بسبب الحرب التي دمرت مدرسته وعصفت بأحلامه، وصل إلى قطر مع عائلته بدون والده الذي لم يتمكن من مرافقتهم، بعد عام قضاه دون تعليم، وجد أحمد ضالته في مدرسة السَّلَم الخامسة التي فتحت له أبوابها، رغم الفجوة الكبيرة التي واجهها، أثبت عزيمته واجتهاده، حتى أصبح اليوم من أكثر الطلاب تميزًا، محققا إنجازات تعليمية باهرة، وملهما لكل من يعرفه بقوة إصراره وإيمانه بأن الفرص تصنع الفرق.
إعلانوالجدير بالذكر أن مشروع "سويا" يثبت أن توفير التعليم الشامل والمتكافئ يمثل ركيزة أساسية لبناء مجتمعات مزدهرة وآمنة، وبينما تستمر المبادرة في التوسع، تظل قصص الأطفال الذين تغيرت حياتهم بفضلها شهادة حية على أثر الاستثمار في الإنسان، وصورة مشرقة لرؤية قطر نحو التنمية المستدامة.