طريق التكامل والتعاون والسيادة (2)
تاريخ النشر: 4th, November 2024 GMT
سالم بن محمد العبري
لعلنا في الحلقة الماضية أَشَرْنَا إِلى أنَّ محاولات الجمهورية الإسلامية الإيرانية الدؤوبة هي مدخل لبناء منطقةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ في جغرفيا المنطقة، التي حَدَّدْنَاهَا بالمحيطين شرقًا، وغربًا، وشمالًا بحدود «روسيا الاتحادية»، وجنوبًا بالصحراء الكُبرى بأفريقيا. وذكرنا أن جهود «إيران» الإسلامية منذ قامت الثورة الإسلامية بعد تَخَلُّصِهَا من النظام المـَلَكِي العَضَوضِ -كما يراه الإيرانيون، وعلى رأسهم العلماءُ والمراجعُ؛ لأنه أَعْطَى الغَرْبَ الاستعماريَّ مقاليدَ أمره.
والغرب لا يُقِيمُ نُظُمًا مُسْتَنِيرَة معتدلة، ولا أقول عادلة، بل يدفع النظم التي تأخذ سلوكًا مُرْضِيًّا للشعوب؛ لتهدأ وتنحو نحو الإصلاح التدريجي، وهو إذ يفعل ذلك كأنه يسابق الزمن؛ ليحلب ويسرق ما أمكنه في وقتٍ ليس ببعيدٍ، وقد نزعم أنَّ هذا الغرب الذي اخْتُصِرَ -في العقود الأربعة الأخيرة- بأمريكا بعد أن قضت حرب السويس، عام: (١٩٥٦م) على القوى القديمة، وإنْ كانت «فرنسا» تُزَيِّنُ وَجْهَهَا الاستعماريَّ، وبَطْشَهَا الإمبريالي بنشر اللغة الفرنسية، والعلوم الإدارية ... إلخ، فإنَّ أختها الكُبرى «بريطانيا» تسابقها في تقسيم الأوطان من آسيا إلى أمريكا اللاتينية، مرورًا بالوطن العربي، وأفريقيا، إلا أنَّ بعض المتعاملين مع هذه الدول يُعْطُون «بريطانيا» أفضليةً للتعامل، وإمكانيةً الفهم، وقد يكون الذي جعلهم يرون هذا أن الصلف والعربدة الأمريكية قد بلغتا حَدًّا لا يُمكن تحمله، حتى مَنْ رضوا بالتعامل والطواعية لها، وهم -أي الأمريكان- قد بلغ بهم التَّعَنُّت والغلو والصلف في السيطرة مَبْلَغًا يجعلهم يدفعون حتى مَن ارتضى التعامل معهم، وإعطاءهم موطىء قدم لهم في وطنه؛ يفعلون ذلك خشية تصرفاتهم الهوجاء، وقد يكون سلك السلوك ذاته؛ لأن العالم فَرَّقُوهُ شِيَعًا ونُتَفًا، وزرعوا الفتن، وأسعروا ما بالمجتمعات من أسباب الفرقة والتناحر، والتدابر والتقاطع، ووجدوا في الأديان والفرق والملل والنحل والمذاهب مطيةً سبوقًا، وساعدهم وغَذَّى فكرتهم كُتْبَ وكُتَّابَ الملل والنحل التي صَنَّفَهَا السابقون منذ أن أَطَلَّت الفتنة الكبرى برأسها بين المسلمين، بُعَيْدَ وفاة رسول الرحمة والهدى -عليه سلام الله وصلاته دائمين مقبولتين إلى يوم الدين.
من هنا نرى أن ما يمكننا من إقامة الفهم، وتوسيع الحكمة، وإعمال العقل لبناء منطقة متكاملة منسجمة وطنية عادلة فيما بينها، وبين شعوبها هي العوامل الآتية:
أولًا: الاتفاق والتنفيذ والالتزام وإلزام الأمة بعدم الخوض في الفتنة الكبرى بين المسلمين؛ مقدماتها، وفصولها، ونتائجها؛ فالله –تعالى- يقول: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 134 –و141].
وقد تكون تلك الفتنة هي اختبار من الله لتلك الفئة المؤمنة السابقة بالموقف والإيمان؛ فَمَنْ يسوقُ خبرًا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نَبَّهَ أو أشار إلى تلك الفتنة التي تأتي بعده، فقال أبو بكر الصِّدِّيق: أين أنا؟ فقال: أنت معي في التراب، ثم تساءل عمرُ بنُ الخطَّاب: أين أنا؟ فقال: معنا، ثم أردف عثمان بالسؤال فقال: وأنا أين أكون؟ فقال: بك تبدأ، ثم اخْتُتِم بتساؤل أبي الحسن عليٍّ، فقال: أنت زمامها.
أليست هي فتنة وابتلاء واختبارًا؟ ألم يلهبها عمرو بن العاص حين دفع أبا موسى الأشعري بخلع الإمام علي ليأتي هو ويُثَبِّتُ معاوية.
لقد مَرَّ عَلَيَّ الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين، وهو أستاذ بكلية دار العلوم، بجامعة القاهرة -آنذاك، وكاتب برامج إعلامية -رحمة الله عليه- وَقَفَ على يسار مكتبي بالسفارة العُمَانية بالقاهرة، وكأن هذا الموقف ماثلًا أمام عيني الآن، فقال: رأيت عمرو بنَ العاص في المنام، وكأنه يعاتبني عن إحجامي عن الخطابة في جامعه بالفسطاط بمصر، وأنا لا أحب الخطابة فيه، وكأن عبد الصبور يَعْزِفُ عن الخطابة بجامعه؛ لما تَرَسَّبَ في صدره عن دور ابن العاص في الفتتة الكُبْرَى، وكانت عن يمينه أجزاء من «التفسير الوسيط» للقرآن الكريم، لشيخ الأزهر الراحل الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي، وكان رُبَّمَا للتَّوِّ قد أهداني الشيخ السيد علي الهاشمي المستشار السابق للشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات الراحل نسخةً من التفسير، فَقَلَّبَ عبد الصبور فيه قليلًا، ثم نَطَقَ بصوتٍ عالٍ مُتَوَجِّعْ «نِفْسِي أَعْمَلُ»، أو قَال: «أكتب تفسيرًا»، فقلت في نفسي: أهي رغبة؟ أم أمنية؟ أم إضافة لحاجة لازمة؟ أو لأسباب موجبة أخرى قد بدت له؟
ربما أخذني العجب فحبسته، لكن الواقعة لم تغب عن الذاكرة، ولم تُلق في مهاوي النسيان؛ لأن كل حَدَثٍ يمر عَلَيَّ يستدعي الوقوف عليه، لا يَمُرُّ بسرعةٍ وخِفَّةٍ، وهذه المواقف وتلك الأحداث تعطيني إشارةً عن حال العرب والمسلمين، خصوصًا في هذه الفترة النفطية، والتي رُبَّمَا دفعت بالبعض أن يكتب، ويباهي، وينافس، والمال موفور -إن أمكن الوصول إليه، وتلاقت غايات المـُسطرين والممولين.
نعم أول مقدمات بناء الأمة العربية خاصَّةً، والإسلامية عامَّة، ووحدتها: الترفع والتأدب والصمت عن تلك الفترة، وأحداثها، ووصمها أنها فترة ابتلاء، وفرقة، واختبار إلهي، وهي قد مَضَتْ بكُلِّ فصولها، وشخوصها، ولنمسك ألسنتنا عن الخوض فيها تأدبًا، وفي هذا الصدد يقول الخليفة الراشد عمرُ بنُ عبد العزيز –رضي الله عنه- حينما سُئِلَ عن أهل صِفِّين؟ فقال: «تلك دماء طهَّر الله يدي منها، فلا أحِبُّ أن أخْضِب لساني بها» -وفي رواية: «عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا»، نُمسِكُ تأدبًا مع تلك القامات التي خَصَّهَا اللهُ بصحبة النبي المجتبى والنور المقتفى، والسراج المنير، وقَدَّرَ لها أن تتعلم منه، وأن تكون معه بالغار، و بدر، وأُحُد، والأحزاب، والفتح، وتكسير الأصنام، وعاصروا الوحي، وشاهدوا التنزيل، ورأوا صور نزول الوحي والهيئة التي يظهر بها أمين الوحي جبريل -عليه السلام.
إنَّ صدق المنطق وعظمة الأمر الجَلَل يدفعنا لأن نتركه لأمر الله، ولزمانه الذي مَضَى عليه أربعة عشر قرنًا من الزمان، فأين نحن منهم؟! وكل ملابساته؟! ولتأخذ الأمة الإسلامية من صور تَرَفُّعِ العُمَانيين ونهجهم في الوحدة، والتئام صفوفها طريقًا للعيش في أحداث اليوم، وحاجاته، ومقضياته، ها هم شيوخ عُمان من علماء تلك الفترة حين بلغ اللغط مبلغه حتى في جوانب من حوار عقيم «كتاب الله أقديم أم حديث»، فاجتمعوا بصحار برئاسة الشيخ محمد بن محبوب الرحيلي، واجتمعت كلمتهم على «أنه كتاب الله، ووحيه، وتنزيله»، فَنَزَّهُوا ألسنتهم، وكلماتهم، ومؤلفاتهم عما دونه، ثم و هُمْ قد رأوا عمر بن عبد العزيز يسير بالأمة على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصلح ما أفسدته تلك الحقبة، وهَذَّبَ الأمة من القِيلِ والقَالِ، ومِنْ أن يتطاول اللاحق على السابق، ومِن أن تُدَنَّسَ المنابر بالإساءة والتلفظ بألفاظ اللعن والطعن والنقد بكلمات أتى الإسلام بحيث لا تَنْطِقُ الألسنُ إلا بالقرآن، وصوره، وكادوا –أقصد: العُمانيين- أن يُعْطُوا ويقدموا صورة ناصعة بأن يكونوا جزءًا من الدولة الإسلامية، وإن اتسمت باسم جزئي «ببني أمية» عَافِّينَ عن الماضي بكل أحداثه، وصراعاته، ودمائه التي سُفِكَت من كل الأمة، وموقنين بأن الوحدة الوسطية هي مقصد الرسالة، قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143].
ثم هذان العلامتان المفتيان الشيخ إبراهيم بن سعيد العبري، والشيخ أحمد الخليلي يكتبان ويُوَجِّهَان ويعملان لتوحيد العُمانيين على كلمةٍ سواءٍ، ويَوَدَّانِ أن يضربا مثلًا لصورة وحدة الشعوب، ومِنْ ثَمَّ الأمة الإسلامية جمعاء.
فهيا للوحدة؛ فالوحدة قوة، والتفرق عِلَّة تُوهِنُ القوة، وتَذْهَبُ بها، وتُورِّثُ الفرقة والضعف، وتتداعى الأمم عليكم، كما تتداعى الأكلة على القصعة، أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند حسن، من حديث ثَوْبَانَ -رضي الله عنه- مَوْلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا». قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ: أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ». قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ».
وحال الأمة -الآن- خير دليل وداع لما ندعو ونقول .. حرب ضروس جاوزت العام، والمجاهدون يجودون بأرواحهم، ويبذلون دماءهم، ويُقَدِّمون مهجهم رخيصة في سبيل الله، ومساكنهم خيمهم التى تقيهم القَرَّ والحر، و تستر عوراتهم، والبعض لا يترفع، والمعركة مع الباغي ظاهرة، والحق أبلج، والباطل لجلج، لا يترفع، ويسكت حتى تنتهي المعركة، وتقف المجازر التي تأتي على بني الإسلام، وأوطان الاسلام، فإذا ما تَمَّ النصر لكم أن تنقدوا، وتبدوا رأيكم بصور الحوار الراقية البَنَّاءة، لا الظالمة المفترية المتعنتة، ثُمَّ تخلينا عما ندعو إليه، وفُرِّقَت الأمةَ عربًا وعَجَمًا، ألا يحزنكم أن تكون النصرة والموقف والمدد من إيران الإسلامية، وأنتم بعضٌ أو كُلٌّ كأن الحرب لا تدور من أجل الأقصى وفلسطين العربية المغتصبة، ومن أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ثم قولوا لي بالله عليكم: أَنُسِخَت آية الله: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [المائدة: 82].
ثم هل غابت عن أعينكم صور ما يُرَادُ للبشرية مِنْ رجوعٍ لصورٍ أُبِيدَت أمم من أجل ارتكابها، وممارستها، ألم يهلكِ اللهُ قومَ لوط؛ لأنهم تركوا ما خلق الله لهم، وصاروا «مثليين»؟! ألا ترون أن من يدعم العدو «الكيان الاسرائيلي»، هم مَنْ يريدون تبديل دين الله -بعضهم زَوْجُهُ مِثْلُهُ- وهو يقود العداء والحرب على الفلسطينين، واللبنانين، والسوريين، والعراقيين.
أتقولون لبعض المجاهدين: إنهم روافض، كلا إنهم مجاهدون، وعنا وعن الأمة يدفعون، فهلا تركنا الشقاق، وتمسكنا واعتصمنا بالوحدة والاتحاد الذي أمرنا الله به، وحثَّنا نبينا عليه، وإلى القادم -بعون الله- وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أُنِيب.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الدلالات العميقة في قراءة الشهيد القائد لآيات التقوى والاعتصام والنجاة
الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه، العلم الذي يمثل امتداداً لإعلام الهدى من آل بيت رسول الله صلوات الله عليه وآله، والصوت الذي خرج من عمق القرآن، وإشعاعاً روحياً أعاد للكتاب العزيز قدسيته في حياة الناس، لم يُقدِّم قراءاته الدلالية للآيات القرآنية ،كمفسّر بين المفسرين، بل قدّمها كمن عاش مع الآيات حتى تحوّلت في روحه إلى نور، وفي وعيه إلى بصيرة، وفي خطابه إلى نهضة، وعندما تناول المعاني الدلالية في آيات من سورة آل عمران، كانت ملامح هذه الروح القرآنية تتجلى في كل كلمة، في كل يقين، وفي كل نَفَس، لقد قرأ هذه الآيات قراءة دلالية أعاد لها حياتها وأعاد بها حياةً لمن أنصتوا إليه،
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِـمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ } (104)
يمانيون / تحليل / أعده للنشر ، طارق الحمامي
آيات تُقرأ بروح من تجلّى له معناها
ليست القراءة الدلالية عند الشهيد القائد مجرد شرح لمعنى لغوي أو سياق تفسيري، بل انكشافٌ لمعنى حيّ، كان يقف أمام الآية كما يقف الإنسان أمام باب يُفتح له على عالم آخر، عالم يرى فيه الحركة الإلهية في التاريخ، ومسؤولية الأمة، وخطر التفرق، وجلال الاعتصام بحبل الله.
حين قرأ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، لم يكن يرى فيها تقوى الخائف الساكن، بل تقوى من أيقن بالله حتى امتلأ قلبه قوة وعزماً، تقوى ترفع الإنسان إلى مقام الشهود لا مقام الانكسار.
وحين تلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً}، كان يرى فيها إعلاناً إلهياً لبناء أمة لا يفرّقها شيء، ولا تهزّها الفتن، ولا تضعفها التحديات، كان يرى أن الاعتصام ليس اجتماعاً شكلياً، بل اتحاداً روحياً يجعل الأمة كالجسد الواحد.
لغة التحذير في قراءته الدلالية تحوّلت إلى بوصلة
حين وقف عند قوله تعالى: {وَلَا تَفَرَّقُوا}، لم يعد الخطاب مجرد ذكرى، بل جرس إنذار يدوّي في الوعي، فهو يصرّ على أن التفرق ليس مجرد حالة اجتماعية، بل مرض يفتك بالأمة من داخلها، يقودها إلى الضعف، ثم إلى الاستسلام، ثم إلى فقدان هويتها.
وفي تحذيره من التفرق، كان يقرأ المستقبل بعين من يرى مواقع الضعف التي يمكن أن تنفذ منها الهزيمة إلى الأمة.
المفلحون مقامٌ عظيم لا يناله إلا من نهض بروح الأمة
من أقوى ما ميّز قراءة الشهيد القائد الدلالية للآيات هو تفسيره لكلمة المفلحين في الآية الكريمة، بتلك الروح العالية التي رآها فيها، فهو لا يراها مجرد بشارة، بل مقاماً إلهياً لا يبلغه إلا من حمل هم الأمة، ونهض بواجبها، ووقف في صف الحق بلا وهن.
فهو يقول إن المفلحين هم، أبناء العمل الصادق، وأهل المواقف الكبيرة، وصُنّاع الكرامة للأمة، الذين يضيئون وجوههم في الدنيا قبل الآخرة.
وبهذا فُهم الفلاح في معناه الدلالي كأنه وسامٌ رباني لا يناله الضعفاء ولا المتخاذلون.
التثبيط .. الخطر الذي يجعل الأمة تفقد روحها
في مقاربته للتحذير القرآني من المرجفين والمثبّطين، فإن الشهيد القائد يتحدث بلغة ممتلئة بالألم والحزم في آن واحد.
فهو يرى أن الكلمات التي تُرهب الناس، أو تزرع فيهم الخوف، أو تدعوهم للابتعاد عن مسؤوليتهم، هي أخطر بكثير من ظنّ العامة، ويشدد على أن المثبط قد يبدو ناصحاً، لكنه في الحقيقة يسلب الأمة أعظم ما تملكه، وهي إرادة النهوض، والقرآن حين توعدهم، فهو يتوعد الحالة التي تهدم الأمم من داخلها.
وجوه تشرق .. وأخرى يسودّها الخذلان
في وقوفه أمام الآيات التي تصف يوم القيامة، كان الشهيد القائد ينقل مستمعيه إلى عالم آخر، كان يرسم ببيان قوي صورة، للوجوه التي أشرق نورها لأنها وقفت مواقف العزة والكرامة، وللوجوه التي اسودّت لأنها خذلت الحق في اللحظة التي احتاجها فيها، و هذا التصوير يُلهب الوجدان، لأنه يجعل الإنسان يقف أمام نفسه ليحدد موقعه، أفي صف المواقف المشرّفة؟ أم في صف التردد والخذلان؟
الثقة المطلقة بالله سلاح الأمة التاريخي
الآيات القرآنية الكريمة عند الشهيد القائد ليست أوامر مجردة، بل اشراقة تطمئن القلب، فهو يؤكد باستمرار أن الله لا يأمر بشيء إلا وقد أراد أن يُعين عليه، وأنه مالك السماوات والأرض، وأنه يهيئ الظروف، ويخلق المتغيرات، ويفتح الطرق حين تُغلق.
هذه الفكرة مركزية في رؤيته، وأن الأمة التي تسير على هدى الله لا يمكن أن تُترك وحدها.
لقد أعاد الشهيد القائد للقلوب الإحساس بأن القرآن كتاب حيّ، كتاب مسؤولية، كتاب حركة، كتاب يصنع الإنسان والأمة.
يحيي فيهم الشعور بالكرامة، ورفض القعود، والإيمان بأن للأمة دوراً، وأن لله وعداً لا يتخلف.
ختاماً
بهذه القراءة الدلالية العظيمة، قدّم الشهيد القائد رضوان الله عليه في وعي الأمة، نموذجاً فريداً للموجه الذي لا يكتفي بالمعنى، بل يغوص في الروح، ويستخرج من الآيات عزيمة تبعث الحياة، وقوة تُعيد للأمة ثقتها، ووعياً يحميها من التفرق والضعف والخذلان.
مثلما رأى في آيات من سورة آل عمران دعوة لأن تنهض الأمة، لا أن تبقى جالسة على ركام خوفها، ورأى فيها وعداً من الله لمن اعتصموا بحبله جميعاً، وتوكلوا عليه، وسلكوا الطريق الذي لا يُخلف الله أهله.
بهذه الروح العظيمة بقيت كلماته في الوجدان، مصباحاً يضيء الطريق، وحضوراً لا يموت، وصوتاً يوقظ العزة في القلوب.
مقتطف من ملزمة سورة آل عمران ’’الدرس الثالث’’ للشهيد القائد رضوان الله عليه :
{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ}(البقرة: من الآية252) {تِلْكَ} إشارة إلى هذه الآيات، وكلمة {آيَاتُ} تعني أعلام من الهدى، أعلام من البينات، أعلام إلى الحقائق. {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} حق لا ريب فيه، حق لا شك فيه، حق لا يتخلف. {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} (آل عمران:108) كل هذه التأكيدات من عند الله سبحانه وتعالى بشكل رهيب، بشكل يخلق في نفس الإنسان شعوراً بالحياء وبالخجل أمام الله سبحانه وتعالى، تكشف عن رحمته العظيمة بعباده، إنه يرشدنا لأنه لا يريد لنا أن نُظلم. ثم عندما يرشدنا أن نسير على هذا الطريق، إلى هذه الطريقة، عندما يهدينا إلى هذا النّهج هو يقول لنا: بأنه سيكون معنا أنه سيقف معنا، وعندما يحصل لدينا إيمان بأنه سيقف معنا فلنعلم من هو الذي سيقف معنا، هو من له ما في السماوات وما في الأرض وإليه ترجع الأمور. هو من يمكن أن يهيئ، هو من يمكن أن يخلق المتغيرات، هو من يمكن أن يهيئ الظروف، هو من يمكن أن يُعَبِّدَ الطريق، هو من يهيئ في واقع الحياة المتغيرات التي تجعلكم قادرين على أن تصبحوا – وأنتم تسيرون في هذه الطريق – أن تصبحوا أمة قادرة على مواجهة أعدائكم، على ضرب أعدائكم، على قهرهم؛ ولهذا جاء بعدها {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (آل عمران:109) أي ثقوا بأني عندما أهديكم إلى أن تسيروا على هذا الطريق أني بيدي ما في السماوات وما في الأرض، أستطيع أن أجعل من يؤيدكم من خلقي، ألم يجعل الله الملائكة تؤيد المسلمين في بداية تحركهم مع الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) ؟.{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(الفتح: من الآية7) هو الذي كل من في السماوات والأرض خاضع له يستطيع أن يهيئ يستطيع أن يفتح الفرج، أن يفتح الثغرات في ذلك الجدار الذي تراه أمامك جداراً أصماً، تراه جداراً من الصلب، هو من يستطيع أن يفتح في هذا الجدار أمامك فترى كيف يمكن أن يضرب هذا الجدار، كيف يمكن أن يدمر ذلك الجدار، الذي ترى نفسك مهزوماً أمامه، ترى نفسك ضعيفاً أمامه، تراه من المستحيل أن تتجاوزه، من المستحيل أن تعلوه، من المستحيل أن تهدمه، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}. نحن قلنا أكثر من مرة أن بإمكان الإنسان – إذا تأمل في واقع الحياة – أن يرى ما يهيئه الله أمام عباده، إنه يهيئ الكثير من الفرص ؛لتعلم وتـثق بأنه ليس هناك من يمكنه أن يغلق الأجواء أمامك كاملة، ليس هناك من يمكنه أن يحيطك بسور من الحديد فيقفل عليك و يحاصرك في موقعك، فترى كل شيء مستحيلاً أمامك، إن الله يهيئ، إن الله يسخر، إن الله يخلق المتغيرات، فالأمور بيده له ما في السماوات وما في الأرض. أليس هذا مما يعزز الثقة في نفوس من يسيرون على هديه؟. وإنه لا يعطي تلك التهيئة ولا يهيئ ذلك إلا لمن هم جديرون بها. ولمن تكون تلك التهيئة، وتلك الإنفراجات تلك الفرص حجة عليهم إذا ما قصروا وفرطوا وتوانوا في استغلالها والتحرك لاستغلالها. {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (آل عمران:109) صدق الله العظيم. ،، إنتهى كلامه رضوان الله عليه .