كالمستجير من الرمضاء بالنار
تاريخ النشر: 4th, November 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أيام قليلة تفصل العالم عن معرفة الرئيس الجديد للولايات المتحدة، فاليوم الثلاثاء الخامس من نوفمبر الجاري سوف تُجْرَى انتخابات الرئاسة الأمريكية بين المرشح الجمهورى دونالد ترامب والمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، وأيًا كانت النتيجة التي سوف تسفر عنها هذه الانتخابات؛ فإن الساكن الجديد للبيت الأبيض سوف يكون ملتزمًا بثوابت السياسات الأمريكية، لأن أمريكا دولة مؤسسات، قد تكون للرئيس الجديد رؤى واجتهادات، لكنه أبدًا لن يكون بوسعه أن يفعل ما يقوم به أي حاكم جديد في بعض دول العالم الثالث من هدم لكل ما حققه الرئيس أو الرؤساء السابقون عليه.
تأسيسًا على ما سبق أرى أن من يمني النفس بأن المرشح الجمهوري سيكون أكثر عدلاً وإنصافًا من المرشح الديمقراطي في موقفه تجاه قضايا أمتنا العربية – وفي مقدمتها قضية فلسطين – إذا نجح في الانتخابات عن المرشح الآخر؛ أو أن المرشح الديمقراطي سيكون أكثر عدلاً وإنصافًا من المرشح الجمهوري؛ أقول إن من يتوهم ذلك سيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار.
طوال أكثر من سبعين عامًا؛ كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة داعمة دومًا لإسرائيل وحامية لها. وقد كشف العدوان الصهيوني على غزة ولبنان عن مدى دعم أمريكا ومساندتها لإسرائيل، إلى حد التَواطُؤ. قدمت الحكومات الأمريكية المتعاقبة دعمًا عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا للكيان الصهيوني طوال العقود السبعة الماضية لضمان تفوقه من الناحية السياسية على كل دول المنطقة مجتمعة. ولقد كشفت الأحداث التي أعقبت طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر العام الماضي عن مدى تماهي الولايات المتحدة مع الكيان الصهيوني في حرب الإبادة البربرية التي يشنها على الشعبين الفلسطيني في غزة واللبناني في الضاحية الجنوبية من بيروت. ومن المرجح استمرار هذا النهج أيًا كان القادم إلى البيت الأبيض بعد الخامس من نوفمبر الجاري.
إن السياسة الدولية لا تستند إلى أساس أخلاقي، بل تحركها المصالح، رغم ادعاء بعض الدول – وفي مقدمتها أمريكا – عكس ذلك. واقع الحال يقول إن المصالح هى أساس علاقات الدول بعضها ببعض. وعلينا أن نميز في حديثنا عن أمريكا، بين الشعب الأمريكي الذي ينبغي أن ننظر إليه بوصفه شعبًا مسالمًا كبقية شعوب العالم، وبين أمريكا كسياسة خارجية لدولة عظمى. وحين نتحدث عن أي دولة لابد أن نذكر ما لها وما عليها، وأمريكا ليست استثناءً.
ساحة أمريكا ليست بريئة من الخطايا والآثام، لقد ارتكبت من الجرائم يَنْدَى لها الجبين:
أولاً: الولايات المتحدة الأمريكية قامت في الأساس على جريمة إبادة السكان الأصليين في القارة الأمريكية.
ثانيًا: استخدامها القنابل الذرية في ضرب اليابان.
ثالثًا: دعمها المطلق لإسرائيل، واستخدامها حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي لمنع صدور أي قرارات تدين إسرائيل.
رابعًا: يزعم أنصار أمريكا أن الواجب يقتضي ألا نلوم القَويّ على استخدام قوته، وإنما نلوم الضعيف على قبوله ورضائه بأن يظل ضعيفًا. إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تقوم أمريكا والغرب كله معًا، بتوجيه اللوم إلى روسيا بسبب عدوانها على أوكرانيا؟
خامسًا: إن زعم أنصار أمريكا بأن الولايات المتحدة «تَحرُس» طرق التجارة الدولية، بهدف حماية الأمن والسلم العالميين، لا بغرض «السيطرة» و«الهيمنة»، إنما ينطوي على مغالطة!! .. فإذا كانت أمريكا «تحرُس» فمن يا ترى نصَّبَها للقيام بهذه المهمة؟! وعلى أي أساس أعطت لنفسها هذا الحق. إن أي «فتوة» في أي منطقة أو حارة، حين يفرض نفوذه على الجميع بقوته البدنية، يدعي أنه «يحرُس» مصالحه ومصالح أهل الحارة. ويستاء ممَنْ يصفه بأنه «بلطجي». أليس هذا ما تفعله أمريكا مع كل دول العالَم؟.. «البلطجة»!
إذا كان هذا ليس «عدوانًا» فماذا يسمى؟
زعمت الولايات المتحدة أن العراق يمتلك أسلحة نووية، فضربته ضربة راح ضحيتها عشرات الآلاف من البشر الأبرياء، واحتلت العراق. في حين اتضح بعد ذلك أن ما زعمته الولايات المتحدة كان محض هراء. في حين أن دولة «كوريا الشمالية» تعلن ليل نهار أنها تملك أسلحة نووية، وأسلحة دمار شامل، وتقوم بتجريب صواريخ بعيدة المدى يمكن أن تُطال المدن الأمريكية، ومع ذلك تقف أمريكا مكتوفة الأيدي إزاء كوريا الشمالية، بل إن رئيس أمريكا «ترامب» أثناء فترة رئاسته السابقة ذهب صاغرًا لزيارة رئيس جمهورية كوريا الشمالية!! أين حرص أمريكا على حراسة مصالحها؟ وأين أساطيلها التي تمخر عباب معظم بحار العالَم ومحيطاته؟ وأين قدرتها على ضرب أي هدف، في أي مكان، وفي أي وقت؟
أمريكا إذن مجرد «فتوة» يستقوى على الضعيف، أما إذا ظهر أمامه في «الحارة» «فتوة» أقوى، فإنه يجبن ويتخاذل إزاءه. إذن المسألة منحصرة في «البلطجة» وليست «الحراسة»!!.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: كالمستجير من الرمضاء بالنار انتخابات الرئاسة الامريكية أمريكا الولایات المتحدة
إقرأ أيضاً:
ترامب يدمر ريادة أمريكا التكنولوجية
من سبوتنيك في خمسينيات القرن العشرين إلى طفرة الإلكترونيات اليابانية في الثمانينيات، أعرب الأمريكيون مرارا وتكرارا عن تخوفهم من خسارة تفوقهم التكنولوجي لصالح منافسين أجانب. ولكن في كل مرة، كانت الولايات المتحدة تستجيب بمضاعفة الجهد في تعزيز مواطن قوتها -اجتذاب المواهب العالمية، والاستثمار في الأبحاث المتطورة، وتطبيق قانون المنافسة (مكافحة الاحتكار)- وكانت في النهاية تخرج أكثر قوة. بيد أن أخطر تهديد لريادة أمريكا في مجال التكنولوجيا اليوم ليس سبوتنيك آخر أو سوني أخرى؛ بل تآكل المزايا الأساسية في الداخل. ويكاد يبدو أن السياسات التي ينتهجها الرئيس دونالد ترامب مصممة لتفكيك ذات الركائز التي يقوم عليها الإبداع الأمريكي.
تتمثل الركيزة الأولى في المؤسسات البحثية الأمريكية. أثناء الحرب الباردة، دعم إجماع من الحزبين الجمهوري والديمقراطي برامج طموحة مثل برنامج أبولو ووكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة. فكان الباحثون والمحققون يتمتعون بقدر كبير من الاستقلالية الفكرية. نشأت طلائع شبكة الإنترنت الحديثة المبدعة -مفهوم «الحوسبة التفاعلية» الذي ابتكره جيه. سي. آر. ليكلايدر وشبكة ARPANET لتبديل الحزم- ضمن شبكية فيدرالية/جامعية غير مقيدة تربط بين جامعة ستانفورد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وجامعة كولومبيا وغيرها من الجامعات. لكن تخفيضات الإنفاق التي فرضتها إدارة ترمب قوضت هذا النموذج: تواجه ميزانيات المؤسسة الوطنية للعلوم، ومديرية العلوم في ناسا، والمعاهد الوطنية للصحة تخفيضات بنسبة 56%، ونحو 50%، ونحو 40% على التوالي.
مثل هذه التخفيضات العميقة، إلى جانب الاختبارات السياسية لانتقاء الـمِـنَـح البحثية، إلى خنق النظام البيئي الذي تعتمد عليه الاكتشافات العلمية المتقدمة. الركيزة الثانية المهمة هي الموهبة. على مدار أكثر من قرنين من الزمن، كانت أعظم ميزة تتمتع بها أمريكا هي القدرة على اجتذاب الناس من مختلف أنحاء العالم. في القرن التاسع عشر، جلب صامويل سلاتر خبرة صناعية بريطانية حَـرِجة إلى المصانع الأمريكية.
وفي وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، أمضت عالمة الكيمياء الحيوية المجرية المولد كاتالين كاريكو عقودا من الزمن في المختبرات الأمريكية وهي تضع الأساس للقاحات الحمض النووي الريبي المرسال المنقذة للحياة. غير أن التدابير الصارمة التي فرضها ترامب على منح التأشيرات، وحظر الطلاب الأجانب، والعداء تجاه الجامعات، جعلت الولايات المتحدة أقل جاذبية للمواهب العالمية. والآن، تحتفل المؤسسات البحثية الأوروبية باجتذاب كبار العلماء من الولايات المتحدة. لقد أصبح «كسب العقول» الذي مَـيَّـزَ أمريكا تاريخيا قريبا بدرجة خطيرة الآن من التحول إلى «استنزاف للعقول». الركيزة الثالثة هي المنافسة. لم تأت الثورة التكنولوجية في أمريكا من الصناعات المحمية؛ بل جاءت من الشركات التي اضطرت إلى المنافسة مع نظيراتها، سواء في الداخل أو في الخارج. وعلى عكس اليابان، حيث فضلت سياسة المنافسة المتساهلة التكتلات الراسخة وخنقت الابتكار والإبداع، استهدف نظام مكافحة الاحتكار القوي في أمريكا الاحتكارات على نحو مستمر، وبالتالي عمل على تعزيز ريادة الأعمال. على سبيل المثال، أدى تفكيك شركة الاتصالات العملاقة AT&T في عام 1984 إلى منع شركة واحدة من احتكار شبكة الإنترنت الناشئة، فساعد هذا في خلق بيئة تنافسية سمحت بازدهار الإبداع بشكل طبيعي. لكن التزام أمريكا بالمنافسة القوية تمكن منه الضعف على نحو متزايد لعقود من الزمن. فأصبح تَـرَكُّـز الصناعات في ازدياد، وتناقص عدد الشركات البادئة، وتباطأ نمو الإنتاجية. وكما لو أن هذه الاتجاهات لم تكن سيئة بالقدر الكافي، فإذا بجدار ترامب الجمركي يعمل على التعجيل بالانزلاق، وتعمل حماية الشركات الراسخة من المنافسين الأجانب -عَـبر نظام إعفاءات غير شفاف- على تحويل السياسة التجارية إلى بازار «المال النقدي مقابل الخدمات».
وعلى هذا فقد ارتفعت نفقات جماعات الضغط المرتبطة بالإعفاءات الجمركية -لتكافئ التقارب السياسي وليس الأداء- إلى عنان السماء لتتجاوز الزيادة نسبة 277% على أساس سنوي في الربع الأول من عام 2025. يشير نظام الإعفاءات المُسيّس هذا إلى الانجراف نحو رأسمالية المحسوبية، والابتعاد عن السوق المفتوحة والتنافسية التي كانت تدعم الإبداع الأمريكي في السابق.
العامل الرابع هو التمويل. كان رأس المال الاستثماري في الولايات المتحدة -المرتكز على الأسواق العامة السائلة العميقة- هو الذي سمح لشركتي Apple وMicrosoft في سبعينيات القرن العشرين، ثم Amazon وGoogle في التسعينيات، بالتوسع بسرعة فائقة. وبحلول عام 2000، شكلت الشركات المدعومة برأس المال الاستثماري ثلث القيمة السوقية في الولايات المتحدة، الأمر الذي جعل النموذج الأوروبي الذي يركز على البنوك يبدو قِـزما بالمقارنة. لكن هذا المحرك بدأ الآن يتباطأ. وسوف تعمل تخفيضات ترامب الضريبية على توسيع العجز المالي، على النحو الذي سيجبر وزارة الخزانة على اقتراض المزيد، ومن المحتمل أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة. وسوف تؤثر تكاليف الاقتراض المرتفعة على الشركات البادئة في وقت، حيث تستنزف تقلبات السوق الناجمة عن التعريفات الجمركية بالفعل شهية المستثمرين للمخاطرة. وتحذر تقارير أخيرة من أن التعريفات الجمركية وحالة انعدام اليقين أظلمت آفاق التمويل الاستثماري والاكتتابات العامة الأولية، وهذا يهدد الأسس التي يقوم عليها اقتصاد الشركات البادئة في أمريكا. الركيزة الخامسة هي الدولة المحايدة. تعلمت أمريكا أثناء العصر الـمُـذَهَّـب أن الاحتكارات غير الخاضعة للرقابة والفساد السياسي يهددان النمو. وقد استجاب الكونجرس بإصلاحات داعمة للمنافسة: فقد استعاض قانون بندلتون لعام 1883 عن المحسوبية بخدمة مدنية قائمة على الجدارة، وقانون شيرمان لمكافحة الاحتكار لعام 1890 الذي كبح الممارسات المانعة للمنافسة. اليوم، يزداد ضَـعف هذه الضمانات المؤسسية. ومن شأن التغيير الذي اقترحه ترامب في قانون «الجدول F» أن يؤدي إلى تطهير الآلاف من الخبراء الحكوميين المحترفين واستبدالهم بموظفين موالين له، وهذا يعكس نهج الرئيس شي جين بينج في الصين (حيث يكون الولاء مفضلا على الكفاءة في كثير من الأحيان). على نحو مماثل، تهدد إدارة الكفاءة الحكومية -بقيادة إيلون ماسك- بإنتاج خدمة مدنية أقل كفاءة وأكثر عرضة للخطر من الناحية السياسية. ذلك أن وكالات مثل دائرة الإيرادات الداخلية توظف عددا هائلا من الموظفين في المقام الأول لأن قانون الضرائب الأمريكي شديد التعقيد ومليء بالثغرات. وبدون التبسيط التنظيمي، يصبح من غير الممكن الحد من البيروقراطية بشكل مجدٍ، ويتعذر تطبيق القواعد بشكل فعّال. العزاء الوحيد هو أن المنافس الرئيسي لأمريكا، الصين، تواجه هي الأخرى تحديات داخلية كبرى. فبرغم أن معظم النشاط الإبداعي في الصين لا يزال يأتي من شركات خاصة أو مدعومة من الخارج، فإن الحكومة تعمل على إعادة مركزية السلطة الاقتصادية: حيث يحابي تخصيص التراخيص والائتمان والعقود العامة على نحو متزايد التكتلات التي تتمتع بالثقة سياسيا؛ وتُـطَـبَّـق قواعد مكافحة الاحتكار بشكل انتقائي؛ وتتضاعف جهود حملة شي لمكافحة الفساد كمرشح للولاء. كما تعطلت الإنتاجية مع امتصاص قطاع العقارات المرهق لثلث الناتج المحلي الإجمالي. من ناحية أخرى، تعمل الشركات التي تفتقر إلى رعاة سياسيين أقوياء -وبينها شركة الذكاء الاصطناعي البادئة «DeepSeek»- في منطقة قانونية رمادية، كما أن قبضة الدولة المحكمة على تكنولوجيات المعلومات المهمة تستدعي رقابة أكثر تشددا من أي وقت مضى تخنق التجارب الشعبية. قد تؤمن استراتيجية «فرّق تسد» التي يتبعها شي السيطرة السياسية، لكنها تقوض اللامركزية الإقليمية التي دعمت صعود الصين بعد ثمانينيات القرن العشرين. بيد أن الديمقراطيات الليبرالية أيضا لا تضمن التقدم التكنولوجي المستمر. فالإبداع يعتمد على الانفتاح والقواعد النزيهة والمنافسة القوية. ولا يمكن اعتبار هذه الأمور من الـمُـسَـلَّمات. وفي ظل إدارة ترامب، تتدهور بسرعة المزايا التاريخية التي انفردت بها أمريكا. الواقع أن صيانة الإبداع -مصدر ازدهار أمريكا- تتطلب الدفاع بنشاط عن المؤسسات، وليس حماية الصناعات.
كارل بنديكت فراي أستاذ مشارك في الذكاء الاصطناعي والعمل في معهد الإنترنت بجامعة أكسفورد، ومدير برنامج مستقبل العمل في مدرسة أكسفورد مارتن، هو مؤلف الكتاب المرتقب «كيف ينتهي التقدم: التكنولوجيا والابتكار ومصير الأمم».
خدمة بروجيكت سنديكيت