خير جليس في الزمان "موبايل".. هل أخطأها المتنبي؟!
تاريخ النشر: 5th, November 2024 GMT
مؤيد الزعبي
لو أعدنا النظر بواقع حياتنا اليوم قياسًا على قول المتنبِّي: «وَخَيْرُ جَلِيْسٍ في الزّمانِ كِتابُ»، لوجدنا أنه أخطأها هذه المرة؛ فالكتاب تحوَّل لصورة أو فيديو يُعرض على الهاتف المحمول "الموبايل"، أو شاشة أيًا كان حجمها، وقريبًا سيلمع على عدسات نظاراتنا، ومن بعدها سيدخل لعقولنا عبر الشرائح والمجسَّات، فنحن نعيش في عصر الصُورة لا عصر الكلمة، ولم تعد النصوص قادرة على إشباع رغباتنا وطموحاتنا في التسلية، ولم تعد وسيلة محببة للعلم والتعلم، وباتت الصور والإنفوجرافيك (الرسوم البيانية) والفيديوهات أقرب لقلوبنا وعقولنا.
لهذا سنتناقش أنا وأنت عزيزي القارئ، فيما إذا اخطأ المتنبي أم لم يُخطئ؟
لكن قبل أن أبدأ دعني أخبرك بأنني لن اتناول موضوع تراجع قيمة الكِتَاب، إنما تراجع الكلمة والنص مقابل الوسائل المرئية، وعن دخول الذكاء الاصطناعي التوليدي وكيف سيؤثر على مكانة النص في قادم الوقت.
عندما عبَّر المتنبي واصفًا الكتاب بأنه خير الأصدقاء وخليل الإنسان في تعمُّقه الفكري أو صولاته وجولاته في العلوم والأدب وحتى السفر للماضي والمستقبل، لكن بات اليوم الهاتف المحمول أو الموبايل هو خليل الإنسان بالمعنى الحرفي للكلمة، هو الذي يرافقك أينما حللت وترحلت، وهو نفسه الذي يطير بك عبر الأزمان؛ ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وهو ذاته ما تشاهد عليه كل ما تريده، ولو احتجت لشيء فأول ما تقوم به أن تُخرج هاتفك من جيبك أو حقيبتك لتستعين به. وغدًا عندما تُصبِح أدوات الذكاء الاصطناعي هي الحاضرة في أغلب مفاصل حياتنا حينها سيكون صديقنا الكتاب منسيًا في ركن الزاوية. وسنقول إن هذا النص من هذا الكتاب أو من ذلك لكن وسيلتنا في استقبال المعلومات أو إرسالها لم تعد أوراقًا وحروفًا وكتابات، إنما تحولت لصور وفيديوهات وأصوات وشروحات ممزوجة بالقليل من النصوص؛ فالنص بات غير جذاب، كما ذكرت لك في البداية، وبات دوره مقتصرًا على العناوين أو التوضيحات البسيطة.
قد تقول إنني أُبالغ في هذا الطرح، لكن تفكَّر معي- عزيزي القارئ- بأننا تحوَّلنا للعالم الرقمي، وأقصد هنا دخول الكمبيوتر والانترنت لحياتنا بهذا التوسع والشمولية منذ ما يقرب من 20 عامًا فقط؛ أي إن الكِتَاب بات يتراجع دوره كناقل للمعلومات، مقابل الوسائل الحديثة بسرعة غير مسبوقة. واليوم ومع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي ستتغير المُعادلة، فلم نعد بحاجة لأن نبحث في الكتب ولا في النصوص؛ بل كل ما سنطلُبه أن يُلخِّص لنا النصوص ويعطينا "الزبدة"، يعطينا الملخص، يعطينا أقل عدد من الكلمات. وفي قادم الوقت سنطلب منه أن يُحوِّل لنا تاريخنا المعرفي من كُتب ونصوص لصور وفيديوهات، ويُكمل مسيرتنا البشرية التي بدأناها بتحويل كل إرثنا وموروثنا العلمي والفلسفي والفني لموروث رقمي، يظهر على الشاشات بمختلف أشكالها وأحجامها واستخداماتها، فمع كل هذا يجدر بنا أن نتساءل إلى أين يتجه المستقبل؟!
ثمّة إشارة واضحة بأن الذكاء الاصطناعي سيساعدنا كثيرًا في تعزيز قدراتنا البشرية في توليد النصوص المعرفية، خصوصًا مع تطور أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي، وبات بالإمكان لأي شخصٍ أن يكتب كتابًا في يوم واحد فقط. وفي المقابل تتجه البشرية إلى وسائل بصرية في تلقي المعلومات والرسائل وحتى في تبسيط العلوم؛ وصولًا لدخولها في أنظمة التعليم فبات لدينا مدارس رقمية وكتب رقمية وفيديوهات تعليمية وباتت وسيلة فعالة لنقل المعرفة. وأنا هنا لا أُنكر هذا الأمر، إذ إنني واحد ممن يحصلون على معلوماتهم بهذه الطريقةـ لكن طرحي هنا لندرك أين نحن من لغات وكلمات وحروف، بتنا نستسيغ تداولها وتناولها بشكل مختصر وصغير والفجوة تتسع يومًا بعد يوم.
في السياقات الأكاديمية والعلمية حتى الآن مازال التوثيق والتحليل الكتابي من أهم وسائل التواصل؛ فالنصوص المكتوبة توفر التفاصيل، والاستدامة، والدقة والموثوقية التي يصعب ايجادها في جميع الوسائل البصرية، وأنا أقول إنه حتى الآن، ولكن ماذا سيحدث لاحقًا يكون مغايرًا، فلن يبقى الكتاب مصدر توثيقي للأبد، ولن يبقى خير جليس؛ فالموبايل وما يستحدث من تكنولوجيا قادمة ستكون هي خير جليس هذا شيء حتمي لا نقاش فيه، فلن تقول لي إن الكتاب سينافس نظارات الواقع المعزز التي تدخلك في قلب الحدث صوت وصورة، ولن يصدم أمام عوالم الميتافيرس القادمة، ولن يصمد أيضًا أمام شرائح مدمجة بعقولنا ستوفر لنا التسلية والمتعة التي نريدها دون أن نحرك ساكنًا، ولكن يكون الكتاب هو خليلنا مع كل هذه التطورات.
ما أريده- عزيزي القارئ- بأنه بات من الواجب أن نحمي إرثنا وموروثنا الفكري الذي نقلناه عن أجيال وعقول سبقتنا وبات من الواجب أن نحفظ مكتباتنا وكتبنا ولا أقصد هنا أن نحولها لكتب رقمية فنحافظ عليها من الضياع إنما علينا أن نفكر بأن الإنسان عاش الآلاف من السنين وكان النص والكلمة وسيلته للتعبير والشرح والنسخ والتناسخ والاستفاضة والتراسل والتواصل وكل هذا تبدل بأقل من 20 عامًا فما هو حالنا بعد 20 عامًا من الآن، في وقتها سوف التقي بك عزيزي القارئ لأقول لك إن الكلمة باتت نادرة في عصر باتت فيه للصورة والفيديو، طريقتنا لنتواصل، وربما تكون الإشارات الإلكترونية التي تدخُل عقولنا هي وسيلتنا لنتواصل، وننقل معارفنا دون نص أو كلمة أو كتاب، ولا حتى صورة ولا فيديو ولا صوت.. حينها سنخطئ كلنا في استنتاجاتنا ليس فقط المتنبي!
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الذكاء الاصطناعي يسرّع وتيرة العمل ويعيد تشكيل سوق الوظائف عالميًا
خاص
أعلن “تيم ستاينر”، الرئيس التنفيذي لشركة “أوكادو”، خلال أحدث مكالمة لمناقشة الأرباح، أن التقدم الكبير في مجالي الذكاء الاصطناعي والروبوتات مكّن الشركة من تسريع عمليات تنفيذ طلبات البقالة عبر الإنترنت بشكل غير مسبوق.
ففي عام 2012، كان تجهيز طلب مكوّن من 50 سلعة يستغرق نحو 25 دقيقة من العمل البشري، بينما تقلص هذا الزمن إلى 10 دقائق فقط اليوم.
هذه الكفاءة الجديدة مكّنت الشركة من تقليص حاجتها للموظفين، إذ باتت بحاجة إلى 500 موظف أقل هذا العام، ضمن خطة سبق وأن كشفت فيها عن أن 2300 وظيفة كانت مهددة خلال 2023.
لكن خلف هذا الإنجاز التقني، تبرز تساؤلات جوهرية بشأن تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل، ففي الوقت الذي ترفع فيه التكنولوجيا من الإنتاجية والربحية، فإنها تثير مخاوف جدية بشأن مصير الوظائف، وهو ما تناوله تقرير لصحيفة “فاينانشال تايمز” نقلته “العربية Business”.
تشير “كارين كيمبرو”، كبيرة الاقتصاديين في “لينكدإن”، إلى أن الشركات باتت تتحول من مجرد التساؤل عن استراتيجيات الذكاء الاصطناعي إلى دمجه فعليًا في العمليات التشغيلية، ما أدى إلى تغييرات ملموسة في بيئة العمل.
وفي هذا السياق، يرى “بيتر تشيز”، الرئيس التنفيذي لمعهد الموارد البشرية في المملكة المتحدة (CIPD)، أن الجيل الحالي من تقنيات الذكاء الاصطناعي قادر على تغيير شكل كل وظيفة تقريبًا، ومع أن الأثر لا يزال في بداياته، إلا أن بعض القطاعات بدأت بالفعل تلمس التحوّلات.
ورغم تبرير بعض الشركات قراراتها بتقليص العمالة بسبب التحديات الاقتصادية، إلا أن حالات مثل “آي بي إم” وتطبيق “Duolingo” أظهرت بشكل واضح ارتباط التسريحات بالتحول نحو الأتمتة.
كما حذر “داريو أمودي”، الرئيس التنفيذي لشركة “أنثروبيك”، من إمكانية اختفاء نصف الوظائف المكتبية الأولية خلال السنوات الخمس المقبلة.
أما بيانات “سيغنال فاير”، فتكشف أن نسبة توظيف الخريجين في كبرى شركات التكنولوجيا لم تتجاوز 7%، وهو تراجع ملحوظ مقارنة بالعام الماضي.
ورغم هذه المؤشرات المثيرة للقلق، يقول “بيتر براون” من شركة “بي دبليو سي” إن الذكاء الاصطناعي لا يُقصي الوظائف بقدر ما يُعيد تشكيلها، موضحًا أن ذلك يمنح الموظفين فرصة للتركيز على مهام أكثر قيمة.
ويؤكد “مايك كلانسي”، الأمين العام لنقابة “بروسبكت” البريطانية، أن العاملين في قطاعات حيوية مثل مراقبة الحركة الجوية تعايشوا منذ سنوات مع التطورات التكنولوجية، معتبرًا أن الذكاء الاصطناعي سيكون داعمًا لا بديلًا.
لكن المهن القائمة على النصوص – مثل المحاماة وخدمة العملاء – تبدو أكثر عرضة لتحولات سريعة، ومنذ إطلاق “ChatGPT” في أواخر 2022، يتساءل المتخصصون عما إذا كانت الشركات ستوظف هذه التقنية لتعزيز الإنتاجية أم لتقليص أعداد الموظفين.
وتتخذ بعض الشركات الكبرى منحى تطويريًّا، مثل “شرودرز”، التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات وإعداد التقارير، دون إحداث تغيير جذري في الهيكل الوظيفي، مع خطة تحول تدريجية تمتد من 5 إلى 10 سنوات.
أما شركة “موديرنا”، فخطت خطوة جريئة بدمج الموارد البشرية مع قسم التكنولوجيا ضمن توجه نحو الأتمتة، كما استخدمت كل من “آي بي إم” و”كلارنا” الذكاء الاصطناعي للاستغناء عن مئات الموظفين، رغم اعتراف الأخيرة لاحقًا بأن الهدف الرئيسي كان خفض التكاليف.
ويشير “جيمس ميليغان” من شركة التوظيف Hays إلى أن العديد من الشركات التقليدية لا تزال تواجه صعوبات في إعداد سياسات واضحة لإدارة الذكاء الاصطناعي، خاصة فيما يتعلق بحوكمة البيانات.
لكن هذا لا يمنع من بروز وظائف جديدة تمامًا، مثل مهندس التوجيهات النصية (Prompt Engineer) أو رئيس الذكاء الاصطناعي، مع ارتفاع أجور أصحاب المهارات المتقدمة بنسبة تصل إلى 56% خلال 2024، مقارنة بـ25% في العام السابق، وفق تقرير “بي دبليو سي”.
في الوقت ذاته، تباطأ نمو الوظائف المعرضة للذكاء الاصطناعي مقارنةً بتلك الأقل تأثرًا، بينما تسارعت وتيرة تغير المهارات المطلوبة في هذه الوظائف بنسبة 66%، ما يمثل تحديًا خاصًا للموظفين في منتصف مسيرتهم المهنية أو العاملين في الشركات الصغيرة.
وأظهر التحليل أن النساء يشغلن نسبة أكبر من الوظائف المعرضة للذكاء الاصطناعي مقارنة بالرجال في جميع الدول التي شملها التقرير، وتشير “كارين كيمبرو” إلى أن الموظفين الذين تأثرت وظائفهم بالتكنولوجيا باتوا يتحولون نحو المهارات التي يصعب أتمتتها، واصفة إياهم بأنهم “مضطربون” لا “مستبدلون”.
وتختم “كلوديا هاريس”، الرئيسة التنفيذية لمنصة Makers، بأن العالم يشهد نشوء اقتصاد بسرعتين: شركات تواكب التحول، وأخرى تتخلف عنه، وأضافت: “لم تعد الفروقات تقليدية، فالأمر بات متعلقًا بثقافة الشركة ومدى قدرتها على التكيف مع هذا التغير الجذري.”