مبادرات إدارة ترامب للحل الدبلوماسي على المحك: ضرب العمق الروسي بصواريخ غربية.. توسيع للحرب أم نهاية للأزمة؟
تاريخ النشر: 28th, November 2024 GMT
يمانيون../
في أجواء توتر غير مسبوقة تنتظر عواصم العالم بقلق تداعيات الضربات الصاروخية المتكررة التي يشنها الجيش الأوكراني على العمق الروسي باستخدام صواريخ أميركية وغربية بعيدة المدى، في أخطر تطور تشهده الحرب الأوكرانية منذ اندلاعها قبل 3 سنوت وأشاع مخاوف من أن يقود إلى مواجهة مباشرة بين روسيا ودول حلف “الناتو” في حرب عالمية صارت وشيكة أكثر من أي وقت مضى.
لم يسبق للدول الغربية أن شرعت بإجراءات احترازية على سفاراتها ومصالحها في أوكرانيا وحتى على مستوى ترتيباتها الأمنية والعسكرية الداخلية، كتلك التي أعلنتها مؤخرا بعيد استهداف الجيش الأوكراني العمق الروسي بصواريخ أميركية وغربية بعيدة المدى، بعد ضوء اخضر أميركي أشعل أزمة عميقة مع روسيا التي اعتبرت الهجمات استخداما لأسلحة الدمار الشامل وحرب مباشرة على الاتحاد الروسي.
استخدمت أوكرانيا في ضربتين متتاليتين بالصواريخ الغربية على العمق الروسي، صواريخ من طراز (ATACMS) كانت واشنطن سملتها سرا إلى كييف في وقت سابق وأخرى غربية من طراز (GMLRS) و»STORM SHADOW» وأنظمة HIMARS الأمريكية لضرب مواقع استراتيجية داخل العمق الروسي في مناطق بريانسك وكورسك.
تلى الضربات الأوكرانية ترتيبات أمنية وعسكرية واسعة في العديد من العواصم الأوروبية التي سارعت على إغلاق سفاراتها في كييف بما فيها سفارة الولايات المتحدة بسبب مخاوفها من “هجوم واسع النطاق” فيما دعت بعض العواصم مواطنيها في أوكرانيا إلى مغادرة البلاد في تداعيات اثارت قلق الأمم المتحدة التي دعت أطراف النزاع إلى اتخاذ خطوات عاجلة لمنع التصعيد، كما اثارت قلق الصين التي دعت إلى “الهدوء” ولا سيما بعد أن المحت روسيا إلى احتمال استخدم أسلحة فتاكة ونووية ضمن خياراتها للرد.
لكن موسكو اكتفت هذه المرة برسائل تحذير إلى حلفاء أوكرانيا الغربيين من خلال استخدامها لأول مرة أحدث صواريخها الباليستية العابرة للقارات والفرط صوتية التي يصعب اعتراضها من أنظمة الدفاع الجوي بالستية في قصف مجمع للصناعات العسكرية في دينيبرو الأوكرانية، وهي رسائل كانت واضحة بأن الاستمرار بتجاوز الخطوط الحمراء الروسية سيكون له عواقب وخيمة.
لم تكن رسالة التحذير هذه هي الوحيدة فالرئيس بوتين أصدر تحذيرا مماثل أكد فيه أن لبلاده الحق في استخدام الصواريخ الروسية الجديدة ضد المنشآت العسكرية للدول التي تستخدم أسلحتها ضد الاتحاد الروسي فضلا عن إعلانه أن موسكو ستخطر المدنيين الأوكرانيين ومواطني الدول الأوروبية الأخرى مسبقا مغادرة المناطق العسكرية التي يحتمل أن تتعرض للدمار بهذا النوع من الصواريخ، فيما أعلنت موسكو أن القاعدة الأميركية في بولندا ستكون هدفا ذو أولوية.
والصاروخ الروسي أوريشنيك” الذي استخدمته موسكو في الرد كان واحدا من أحدث أنظمة الصواريخ الباليستية الروسية ويصل مداه إلى أكثر من 5 آلاف كيلومترا، وبسرعة 10 ماخ في الثانية ما يعادل 2-3 كيلومترات في الثانية، ويحمل 6 رؤوس حربية ويصعب اعتراضه من انظمة الدفاع الصاروخي الغربية.
ورغم تكرار أوكرانيا استخدام الصواريخ الغربية في ضرب العمق الروسي مرتين، أن موسكو اختارت الرد الدبلوماسي ورسائل التحذير ربما بانتظار التغييرات المنتظرة في إدارة ترامب التي يتوقع أن تكبح طموحات كييف باستخدام الصواريخ البعيدة المدى، وربما بهدف التريث ما يمنح موسكو الوقت الكافي لتعبئة الشارع الداخلي ورفع حالة استعداده لخوض حرب واسعة مع دول “الناتو” وهي السياسة التي غالبا ما يتبعها الرئيس بوتين عند التعاطي مع التهديدات الغربية الكبيرة.
ومع ذلك يمكن القول إن البيان الذي أصدره الرئيس بوتين بهذا الشأن حمل رسالة بأنه حسم امره بقرار مهاجمة الأهداف الغربية، بعد تأكيده أن الصراع في أوكرانيا اكتسب عناصر ذات طابع عالمي وأن روسيا سترد بحزم على التصعيد، فضلا عن تلميحه بأن لدى روسيا خيارات أخرى بنشر المزيد من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى اعتمادا على تصرفات العدو.
تصعيد مرتفع
هذه التفاعلات لم تكن الوحيدة التي طغت على مشهد الأزمة بين موسكو والغرب، فقد وافق الرئيس الروسي بالتزامن على أساسيات محدثة لسياسة الدولة الروسية في مجال الردع النووي، شملت السماح بتنفيذ الردع النووي ضد عدو محتمل سواء كان دولة أو تحالفات تعتبر روسيا عدوا، بما في ذلك الدول التي توفر الأراضي أو المجال الجوي أو البحري الخاضع لسيطرتها للتحضير للعدوان على روسيا الاتحادية، وتنفيذ سياسة الردع النووي بشكل مستمر في وقت السلم وخلال فترة التهديد المباشر بالعدوان وفي زمن الحرب.
ذهبت التحديثات في العقيدة النووية الروسية إلى اعتبار عدوان أي دولة من التحالف العسكري على روسيا الاتحادية وحلفائها عدواناً من هذا التحالف ككل، واعتبار العدوان على روسيا وحلفائها من قبل أي دولة غير نووية بمشاركة أو دعم دولة نووية هجوماً مشتركاً لهم، وأكثر من ذلك اعتبار إطلاق الصواريخ الباليستية على الأراضي الروسية شرطا لاستخدام الأسلحة النووية.
ورغم مسارعة موسكو لإنجاز خطوة تعديلات عقيدة الردع النووي، إلا أن هناك معطيات عدة تشير إلى أن روسيا ليست بصدد استخدام أسلحتها النووية في هذه الجولة من التوتر، وهو امر أعلنه الرئيس بوتين بوضوح في بيانه الأخير إذ أكد أنه وفي حالة تصعيد الأعمال العدوانية، سنرد بنفس القدر من الحسم وبنفس الطريقة.
وطبيعة الرد الروسي العسكري غير النووي لا شك ستتوقف على مدى الأثر الذي يمكن أن تحدثه الضربات الأوكرانية بالصواريخ الغربية البعيدة المدى، ومدى قدرة روسيا على تحييد مثل هذا التهديد على المدى القصير، ومدى مبادرة الحلفاء الغربيين لفرض قيود على استخدام أسلحتها في شن هجمات على العمق الروسي.
مع ذلك يمكن القول إن لدى روسيا الكثير من الخيارات لتفعلها في المرحلة القادمة، كشن عمليات عسكرية على بعض الدول مشاركة في التحالف الغربي الداعم لأوكرانيا سواء برد تقليدي يشمل عمليات عسكرية مباشرة أو رد غير التقليدي على شاكلة شن هجمات الكترونية على البنى التحتية الحيوية في الدول الغربية لحشرها في فوضى اقتصادية وسياسية.
غير بعيد عن ذلك استهداف موسكو منشآت غربية تعمل في مناطق النزاعات في العالم عن طريق دعم أطراف دولية بالأسلحة الروسية لشن هجمات على المصالح الأميركية والغربية، أو توسيع روسيا النزاع لدول أخرى قريبة منها وأعضاء في حلف “الناتو” أو تفعيل مواجهات جديدة في مناطق توتر قائمة او دعم حركات تمرد في دول غربية أو دول حليفة لموسكو.
أهداف غربية
لنحو ثلاث سنوات من الحرب، لم تتوقف مراكز القرار الغربية ومراكز الأبحاث الدولية عن التحذير من مخاطر توسعها في حال سمحت واشنطن وحلفائها الغربيين لكييف باستخدام الأسلحة الغربية التي يمكنها الوصول إلى العمق الروسي غير أن هذه الخشية تحولت اليوم إلى واقع بعد استخدام الجيش الأوكراني صواريخ أميركية وغربية استهدفت مناطق العمق الروسي.
ومنح واشنطن الضوء الأخضر لأوكرانيا استخدام الصواريخ الغربية لضرب العمق الروسي بدا وكأنه إجراء اضطراري، فالرئيس بايدن اتخذ القرار في نهاية فترة ولايته الرئاسية، في ظل تراجع القدرات البشرية والعسكرية الأوكرانية، ولزيادة الضغط على روسيا من اجل مراجعة موقفها السياسي والعسكري وتقديم تنازلات في أي جولة مفاوضات قادمة.
اما أوكرانيا فالواضح أنها جازفت بهذه الخطوة قبل تسليم الإدارة الأميركية الجديدة زمام السلطة أملا في تحقيق أهداف سياسية وعسكرية، وفي المقدمة تعزيز الموقف التفاوضي لأوكرانيا وإرغام موسكو على إعادة توزيع مواردها العسكرية بما يخفف الضغط على الجبهات الأوكرانية ولمنح القوات الأوكرانية ميزة تكتيكية واستراتيجية عبر استهداف مناطق القوة الروسية أو مراكزها خلف خطوط القتال.
والمُرجح أن واشنطن تنبهت إلى ثغرات يمكن التسلل منها وتحقيق إنجازات ميدانية على شاكلة العملية الأوكرانية التي استطاعت التوغل في منطقة كروسك الروسية، من أجل إعادة تشكيل المشهد الميداني لصالح كييف، في ظل التقديرات التي تحدثت عن احتمال أن يقود ذلك إلى إحداث تأثير داخلي وضغوط على القيادة الروسية للجلوس على مائدة التفاوض دون شروط مسبقة.
من ذلك شن هجمات يمكنها أن تعطل الإنتاج العسكري الروسي باستهداف مصانع الأسلحة والذخائر أو المنشآت التي توفر الدعم اللوجستي للجيش الروسي، أو حتى استهداف بنى تحتية حيوية في روسيا كمحطات توليد الطاقة والتي ستؤدي بلا شك إلى أضعاف الروح المعنوية للجيش وللشعب الروسي، الذي بدأ يطالب حكومته بتوجيه الأسلحة النووية صوب المدن الغربية والأميركية.
سيناريوهات التسوية
كل التوقعات تشير إلى أن إدارة ترامب ستتبنى موقفًا أكثر حذرا تجاه استخدام أوكرانيا للصواريخ الأمريكية بعيدة المدى، مع الاستمرار في سياسة واشنطن بدعم أوكرانيا للدفاع عن نفسها بالأسلحة التقليدية دون الانزلاق نحو تصعيد عسكري واسع مع روسيا مع السعي لإنتاج حلول سياسية للنزاع.
يعزز ذلك موقف ترامب المعلن سابقا من الحرب في أوكرانيا، ورغبته في تخفيف التوترات مع روسيا، ورؤيته العامة حول تدخل الولايات المتحدة في النزاعات الدولية، حيث أعلن ترامب سابقا عن تحفظه تجاه الإنفاق العسكري الأمريكي الكبير لدعم أوكرانيا، ما يعني أن إدارته لن تسمح لأوكرانيا باستخدام الأسلحة الأمريكية في عمليات تصعيدية لضرب العمق الروسي.
وفقا لذلك فإن المحتمل كثيرا أن تفرض إدارة ترامب قيودا صارمة على استخدام أوكرانيا للصواريخ الأميركية بعيدة المدى، أو على الأقل حظر استخدامها لضرب أهداف داخل الأراضي الروسية، مع تحريك عجلة المفاوضات الدبلوماسية لإيجاد تسوية نهائية للحرب.
وهذا الخيار على أنه الأكثر ترجيحا من إدارة ترامب، إلا أنه يبقى مرهونا بطبيعة التطورات الميدانية والآثار التي يمكن أن تحدثها الهجمات الأوكرانية على الداخل الروسي، كما تبقى مرهونة بمستوى ضغوط الحلفاء على موسكو وأكثر من ذلك الأولويات التي ستركز عليها إدارة ترامب في سياستها الداخلية والخارجية.
وعلى أن الحلفاء الغربيين لن يستطيعوا التأثير على أي سياسات ودية تبديها إدارة ترامب تجاه روسيا إلا أن أكثر ما يخشونه هو أن تقود إدارة ترامب مبادرات للتسوية الدبلوماسية تلبي مطالب موسكو في الخطوط الحمراء لأمنها القومي والتعامل مع الأمر الواقع في المناطق التي ضمتها روسيا إلى أراضيها ووضع أوكرانيا المحايد في المستقبل، كون ذلك سيعني انتصارا لروسيا في الحرب وهزيمة للدول الأوروبية التي انخرطت في التحالف الأميركي لدعم أوكرانيا وأضعاف روسيا.
الثورة / أبو بكر عبدالله
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: الصواریخ الغربیة استخدام الصواریخ العمق الروسی الرئیس بوتین الردع النووی فی أوکرانیا بعیدة المدى إدارة ترامب على روسیا أکثر من
إقرأ أيضاً:
تحالفات على المحك نحو صفقة جريئة مع كوريا الشمالية
أحدثت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تحولًا في النهج الأمريكي تجاه قضايا مثل التجارة، وأوكرانيا، والشرق الأوسط وغيرها. ومع ذلك، لم تُبدِ إدارة ترامب حتى الآن اهتمامًا يُذكر بكوريا الشمالية، رغم تصاعد قوة هذه الديكتاتورية واستفزازاتها المتزايدة. ففي هذا العام وحده، أجرى الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون خمس تجارب صاروخية، وزاد من دعمه العسكري للحرب الروسية في أوكرانيا، كما كشف عن أقوى مدمرة صواريخ حديثة في جيشه، وهي سفينة حربية تزن 5000 طن ومزودة بأحدث الأسلحة.
وقد ملأ كيم خزائنه من بيع أسلحة بمليارات الدولارات لروسيا، وطوّر جيشه بالاستفادة من الدروس المستخلصة من حرب أوكرانيا، وعزّز قواته الجوية والبحرية والصاروخية والنووية من الدعم الفني ونقل المعدات من موسكو.
لكن تجاهل كوريا الشمالية لن يفضي إلى نهاية مطمئنة. خلال أول مائة يوم من رئاسة ترامب في ولايتيه الأولى والثانية، أقدمت بيونج يانج على عدد من الأعمال العدائية ضد الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية يفوق ما حدث في أي فترة مماثلة منذ إدارة نيكسون. وبالتالي، فإن التغاضي عن هذه المؤشرات المقلقة سيكون تصرفًا غير مسؤول على صعيد الأمن القومي.
تحتاج إدارة ترامب إلى إعادة فتح قنوات الحوار مع كوريا الشمالية لوقف هذا التصعيد. والسؤال هو: كيف يمكن تحقيق ذلك؟
سجّلت كوريا الشمالية خلال إدارة بايدن 162 استفزازًا غير مسبوق، شملت تجارب صاروخية، وتفجيرات، وتوغلات في الأراضي الكورية الجنوبية، وهو عدد يفوق ما حدث خلال الإدارات الثلاث السابقة مجتمعة. في المقابل، أشاد ترامب بـ«العلاقة الرائعة» التي جمعته بالزعيم الكوري الشمالي، وهي علاقة تطورت من خلال ثلاث قمم عقدت خلال ولايته الأولى: الأولى في سنغافورة عام 2018، ثم في هانوي، وأخيرًا في المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين عام 2019. لكن منذ ذلك الحين، لم يحدث تواصل فعلي بين قادة البلدين، مما أتاح لكوريا الشمالية حرية التصرف بما يخدم مصالحها وعلى حساب الأمن القومي الأمريكي ومصالح حلفائه.
من غير المرجح أن يسمح ترامب، المعروف بمهاراته التفاوضية، باستمرار هذا الوضع طويلًا. ومع تغلّب أولوية «أمريكا أولًا» على جدول أعمال السياسة الخارجية، قد يكون ترامب مستعدًا لتقديم تنازلات كبيرة مقابل التوصل إلى اتفاق مع كيم. وهذا الهدف، رغم وجاهته، فإن تحقيقه يظل أمرًا بالغ التعقيد، إذ باتت كوريا الشمالية تمتلك اليوم نفوذًا أكبر بكثير مما كانت عليه في السابق.
تختلف كوريا الشمالية اليوم اختلافًا جذريًّا عمّا كانت عليه في عامي 2018 و2019، حين تواصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لأول مرة مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون. فاليوم، يمدّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كوريا الشمالية بكل ما كان كيم يحلم به، بل وأكثر: من الغذاء والوقود والعملات الصعبة إلى التكنولوجيا العسكرية، بالإضافة إلى معاهدة دفاعية وضمان أمني وُقّعا في يونيو 2024، يعيدان إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة. هذا الدعم بالغ الأهمية بالنسبة لكيم في ظل التدهور الاقتصادي الحاد الذي تعانيه بلاده عقب إغلاقها الكامل لمدة ثلاث سنوات ونصف بسبب جائحة كوفيد-19.
عملت بيونج يانج خلال السنوات السبع الماضية على توسيع ترسانتها العسكرية بشكل كبير، لتصل إلى نحو 50 سلاحًا نوويًّا، من بينها رؤوس حربية نووية تكتيكية مصغرة، فضلًا عن امتلاكها كمية كافية من المواد الانشطارية لصناعة 40 سلاحًا إضافيًّا، وفقًا للتقديرات المتاحة. في هذا السياق، لم تعد العودة إلى الأساليب القديمة مجدية بالنسبة للولايات المتحدة. واليوم، تحظى كوريا الشمالية بدعم اقتصادي كبير من كل من روسيا والصين. فعلى الرغم من توقف موسكو وبيونج يانج عن نشر أرقام تجارتهما منذ اندلاع حرب أوكرانيا، تُظهر صور الأقمار الصناعية، التي نشرها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، مستويات غير مسبوقة من تدفق الحبوب والوقود من روسيا إلى كوريا الشمالية عبر السكك الحديدية. كما ارتفع إجمالي التجارة الثنائية بين بكين وبيونج يانج بنسبة 24% على أساس سنوي في الربع الأول من عام 2025، وهو أعلى مستوى منذ إعادة فتح كوريا الشمالية أبوابها عام 2023 بعد الجائحة.
من غير المرجّح أن يتنازل كيم طواعيةً عن كامل قدراته النووية مقابل وعود بالمنافع أو الأمن. ولا يبدو أن استراتيجية «الضغط القصوى» ستنجح في هذه المرحلة. حاولت إدارات أوباما وترامب وبايدن الضغط على الاقتصاد الكوري الشمالي، لكن هذه الجهود باتت غير مجدية في ظل تقاعس موسكو وبكين عن تنفيذ العقوبات الدولية. وحتى لو فُرضت عقوبات مالية أو شُددت القيود على العملات المشفّرة، فإن غياب التعاون الروسي والصيني يُفرغ هذه الأدوات من فعاليتها. كما أثبتت كوريا الشمالية قدرتها الكبيرة على الصمود، إذ نجت من عزلة خانقة استمرت أكثر من ثلاث سنوات بسبب إغلاق الحدود مع الصين، شريكها التجاري الأكبر، ما يدل على قدرة النظام على تحمّل أقسى الظروف.
كان ترامب الرئيس الأمريكي الوحيد الذي تبنّى دبلوماسية القمة مع كيم، لكنها لم تثمر. إذ لم تُفضِ المفاوضات إلى نتائج ملموسة، بسبب تركيز ترامب على منح الامتيازات للزعيم الكوري الشمالي، بدلًا من التركيز الجاد على تفاصيل نزع السلاح النووي. اعتقد أن التواصل المباشر، والصداقة، وبناء الثقة يمكن أن يُقنع كيم بالتعاون مع الولايات المتحدة. لكن كيم يتّخذ قراراته وفق حسابات براجماتية بحتة، لا بناءً على الثقة المتبادلة. ولا ينبغي لترامب أن يتوهم أن علاقته الشخصية بكيم قادرة على تعطيل علاقة الأخير المربحة مع موسكو، أو أن تقنعه بالتخلي عن النفوذ الهائل الذي يملكه اليوم.
لا يزال من غير الواضح كيف يمكن لواشنطن إقناع كيم جونج أون بالعودة إلى طاولة المفاوضات والتوصل إلى اتفاق. فرفع العقوبات لم يعد حافزًا مغريًا كما كان في عام 2018، خاصةً بعد انهيار نظام العقوبات الأممي، كما أن مهارات ترامب في الإقناع وحدها لن تكون كافية لعقد صفقة. وعوضًا عن النهج التدريجي الذي تبنّته واشنطن في مفاوضاتها مع كوريا الشمالية عامي 1994 و2005، من المرجح أن تنظر إدارة ترامب إلى المحادثات النووية من منظور «أمريكا أولًا»، مع تركيز أقل على نزع السلاح النووي، وأكبر على الحد من التهديدات المباشرة للأراضي الأمريكية. وسيتمحور جوهر أي اتفاق محتمل حول حظر تجارب كوريا الشمالية النووية، وتطوير الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وإنتاج المواد الانشطارية. كما يُحتمل أن تسعى واشنطن إلى التزام من بيونج يانج بعدم تصدير تكنولوجيا الأسلحة إلى دول الشرق الأوسط، أو إلى جهات فاعلة غير حكومية.
وفي المقابل، قد تتخلى إدارة ترامب عن التفاوض بشأن أهداف نزع السلاح النووي التقليدية، رغم أهميتها للحلفاء الإقليميين، مثل إزالة مئات الصواريخ قصيرة المدى وآلاف قذائف المدفعية التي تُشكّل تهديدًا مباشرًا لليابان وكوريا الجنوبية، وإن لم تُهدد الولايات المتحدة. وقد يُثير هذا التحول مخاوف في طوكيو وسول من احتمال تخلي واشنطن عنهما، كما قد يقلق عواصم حليفة أخرى في المنطقة وحول العالم.
ما الذي يمكن أن تقدّمه الولايات المتحدة لكوريا الشمالية لتحقيق هذه الأهداف؟ قد يتنازل ترامب عن هدف نزع السلاح النووي لصالح اتفاق يركّز على الحد من التسلّح، وهو مطلب لطالما سعت إليه بيونج يانج. فالحلم الأكبر للنظام الكوري الشمالي هو نيل اعتراف فعلي من واشنطن بوضعه كدولة نووية. ورغم أن هذا الاعتراف لا يعود على كوريا الشمالية بمنافع مادية مباشرة، إلا أنه يحمل أهمية رمزية قصوى.
وسواء أكان ذلك مقصودًا أم لا، توحي تصريحات ترامب بأنه بات أقرب إلى هذا التصور. فرغم تمسك وزارة الخارجية الأمريكية برسالة نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة كسياسة رسمية، فإن استخدام ترامب المتكرر لتعبير «قوة نووية» عند الحديث عن كوريا الشمالية، فضلًا عن تصريحات وزير خارجيته ومستشار أمنه القومي المؤقت ماركو روبيو التي وصف فيها كوريا الشمالية بأنها «مسلحة نوويًّا»، كلها تُمثّل انحرافًا فعليًّا عن سياسة أمريكية عمرها ثلاثة عقود، ما قد يُشجع كيم على إعادة فتح قنوات الحوار مع واشنطن.
لكن هذه اللغة وحدها لا تكفي لعقد اتفاق. فإذا أرادت إدارة ترامب تحقيق أهدافها -من وقف التجارب النووية وتطوير الصواريخ، إلى الحد من إنتاج المواد الانشطارية وانتشار التكنولوجيا، إلى كبح دعم روسيا عسكريًّا- فقد تضطر إلى التعامل مع مطلب كوريا الشمالية المزمن بسحب القوات الأمريكية من شبه الجزيرة.
ورغم حساسية هذا المطلب بالنظر إلى التحالف العميق مع سول، فإن ترامب لطالما عبّر عن تحفظه تجاه وجود هذه القوات. ففي عام 2011، أي قبل دخوله السياسة بسنوات، تساءل قائلًا: «لماذا نوفر الأمن وننفق الأموال لحماية دول غنية مثل كوريا الجنوبية وغيرها، دون مقابل؟ لماذا نكون حراسًا لهم؟» ولذا، ليس من المستبعد أن تتضمن سياسة ترامب المقبلة بشأن كوريا خطة لإنهاء 75 عامًا من الوجود الأمريكي في شبه الجزيرة، وسحب القوات، وربما إعلان السلام رسميًّا. كما قد تنسجم هذه الرغبة مع خطط مزعومة في البنتاجون لإعادة توجيه القوات الأمريكية المتمركزة في كوريا نحو مهمة ردع الصين في تايوان.
على الرغم من أن إبرام صفقة كهذه قد يبدو ممكنًا، فإنها ستثير مخاوف شديدة في كوريا الجنوبية من التخلي عنها. غير أن ترامب، الذي لم يُعرف يومًا بولائه لتقاليد التحالفات، قد يسعى إلى تهدئة بعض هذه المخاوف عبر كسر محرمات راسخة في سياسات التحالف. فعلى سبيل المثال، قد يُفضي انسحاب القوات الأمريكية من كوريا الجنوبية إلى تصاعد الدعوات الداخلية لامتلاك البلاد أسلحة نووية خاصة بها. وقد يدعم ترامب هذه الخطوة من خلال إعادة التفاوض على الاتفاقيات النووية المدنية القائمة، بما يتيح لسول تخصيب اليورانيوم وإعادة معالجة الوقود النووي، ما يمنحها إمكانية الوصول إلى المواد الانشطارية اللازمة دون الاضطرار إلى خرق معاهدة حظر الانتشار النووي.
سيُعزز امتلاك «القدرة النووية الكامنة» من قدرة كوريا الجنوبية على ردع التهديدات في شبه الجزيرة، ويمنح الولايات المتحدة هامشًا أوسع للتركيز على التحديات الاستراتيجية الأكبر، مثل الصين. كخطوة إضافية لبناء الثقة في التحالف، قد يدفع ترامب نحو تقليص الفجوة مع الصين في قدرات بناء السفن من خلال تشجيع أحواض بناء السفن في كوريا الجنوبية واليابان على تلبية الطلب الأمريكي على أسطول تجاري استراتيجي، مما يتيح توكيل الحلفاء بتحديث وصيانة السفن الأمريكية. وستُقابل مثل هذه الخطوة بترحيب واسع في ضوء القيود المحلية والتأخيرات المستمرة في الصناعة الأمريكية.
رغم إمكانية إبرام صفقة جديدة مع كوريا الشمالية، فإنها ستثير مخاوف كبرى في كوريا الجنوبية من التخلي عنها. ومع ذلك، قد يسعى ترامب، المعروف بكسره تقاليد التحالفات، إلى تهدئة هذه المخاوف بخطوات غير تقليدية، مثل سحب القوات الأمريكية، مما قد يدفع سول لتطوير برنامج نووي محلي. وقد يدعم ترامب هذا التوجه من خلال إعادة التفاوض على الاتفاقيات النووية، ما يمنح كوريا الجنوبية قدرة ردع مستقلة تتيح لواشنطن التفرغ لمواجهة الصين.
كما قد يشجع ترامب بناء السفن في كوريا الجنوبية واليابان لسد فجوة الأسطول الأمريكي، ويعيد صياغة اتفاق تقاسم الأعباء ليشمل توريد أسلحة وذخائر أمريكية الصنع، ما يُعزّز المخزونات الدفاعية. وقد يطرح أيضًا «صفقة قرن» جديدة تتضمن تحديث خط سكة الحديد بين روسيا وكوريا الشمالية لربطه بكوريا الجنوبية، وتحويله من ممر عسكري إلى تجاري، بما يُحقق مصالح اقتصادية وجيوسياسية للطرفين.
لم تعد الولايات المتحدة قادرة على اتباع سياسات سابقة تجاه بيونج يانج، التي أصبحت أقوى بفضل دعم صيني وروسي متزايد. واستفادت من تباطؤ واشنطن في تعزيز ترسانتها مقابل دعمها لموسكو. في هذا السياق، قد يتجه ترامب نحو خطوات جذرية، كسابقة الاعتراف بكوريا الشمالية كقوة نووية، في محاولة لإنجاح قمة رابعة بعد إخفاق القمم الثلاث السابقة.
ورغم أن مثل هذه الصفقة قد تُثير غضب الحلفاء، فإن رغبة ترامب في تسجيل إنجاز تاريخي -يُنهي الحرب في أوكرانيا، ويرضي كيم وبوتين، ويمنحه جائزة نوبل- قد تدفعه لتقديم تنازلات غير مسبوقة، تحت شعار «أمريكا أولًا».