الغاز الإيراني والبرد القارس يفاقمان أزمة الكهرباء في العراق
تاريخ النشر: 7th, December 2024 GMT
بغداد – شهد العراق خلال الأيام القليلة الماضية انقطاعات واسعة في التيار الكهربائي، حيث أدى توقف إمدادات الغاز الطبيعي من إيران، وانخفاض إنتاج الغاز المحلي، إلى توقف العديد من محطات توليد الطاقة خصوصا بالعاصمة بغداد.
هذه الأزمة أثارت حفيظة الرأي العام العراقي، وهذا أدى إلى تفاعل واسع على منصات التواصل الاجتماعي.
المتحدث الرسمي باسم وزارة الكهرباء العراقية، أحمد موسى، أكد أن انقطاعا كاملا لإمدادات الغاز الإيراني البالغة 50 مليون متر مكعب يوميا قد تسبب في توقف كامل لعدة محطات توليد كهرباء في العراق، خاصة في العاصمة بغداد.
ويعتمد العراق بشكل كبير على الغاز الإيراني لتشغيل محطاته الكهربائية، خاصة في الجنوب، وهذا يجعل البلاد عرضة للتأثر بأي تقلبات في إمدادات الغاز من إيران.
إعلانوأوضح موسى في حديث لـ"الجزيرة نت" أن هذه الكميات من الغاز كانت تغذي محطات حيوية مثل محطة بسماية (جنوبي بغداد) التي كانت تنتج 3500 ميغاوات من الكهرباء قبل توقفها تماما، ومحطة الصدر في بغداد التي كانت تنتج 560 ميغاواتا، ومحطة المنصورية (شرقي محافظة ديالى) التي كانت تنتج 770 ميغاواتا.
وأشار إلى أن انخفاض إنتاج محطة سد الموصل، التي تعتبر من أكبر محطات توليد الطاقة الكهرومائية في العراق، إلى 375 ميغاواتا بدلا من قدرتها الإنتاجية القصوى البالغة 755 ميغاواتا، يعود إلى نقص المياه.
وأكد موسى أن هذه الأزمة الحادة في الكهرباء ناجمة بشكل أساسي عن نقص الوقود، خاصة الغاز الإيراني، لافتا إلى أن العراق لديه عقد مع إيران لتوريد الغاز يوميا لمدة 5 سنوات، ولكن إيران لم تلتزم بتسليم الكميات المتفق عليها.
وتابع أن العراق يعاني من نقص في الغاز الوطني الذي لا يكفي لتلبية احتياجات المحطات الكهربائية، مضيفا أن الحكومة تعمل على تطوير إنتاج الغاز الوطني، ولكن هذه العملية تستغرق وقتا طويلا لحين استكمال جولات التراخيص بعد 3 سنوات.
وأشار موسى إلى أن المواطنين يعانون من انقطاعات طويلة في التيار الكهربائي بسبب هذه الأزمة، وأن وزارة الكهرباء تبذل جهودا كبيرة لتأمين الوقود اللازم لتشغيل المحطات، ولكنها تواجه تحديات كبيرة بسبب الظروف الحالية.
أسباب عديدةالخبير في شؤون الطاقة والكهرباء، عباس الشطري، أعاد التأكيد على أن العقوبات الأميركية المفروضة على إيران والبرد القارس الذي تشهده تلك الدولة قد تسببا في أزمة الكهرباء الحالية بالعراق، نتيجة انقطاع إمدادات الغاز الإيراني.
وأوضح الشطري في حديث للجزيرة نت أن إنتاج الطاقة الكهربائية في العراق وصلت إلى 27 ألف ميغاوات، أي ما يعادل 6 أضعاف الإنتاج في عام 2003 التي كانت 4300 ميغاوات، مبينا أن التحول إلى استخدام الغاز كوقود في المحطات قد واجه تحديات كبيرة، خاصة مع اعتماد العراق على هذه الإستراتيجية لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة.
وأوضح الشطري أن الاعتماد الكبير على الغاز كوقود أساسي في هذه المحطات قد زاد من تعقيد المشكلة، حيث إن زيادة إنتاج الطاقة الكهربائية وإيصالها للمواطنين يتطلب استمرارية في الحصول على الغاز، لافتا إلى أن العراق يواجه صعوبات في إبرام عقود طويلة الأجل لشراء الغاز من دول أخرى مثل قطر وروسيا، مما يضطره الاعتماد على الغاز الإيراني الذي يتم استيراده بموجب استثناء أميركي من العقوبات بكمية 120 ميغاواتا.
إعلانوبين أن الغاز المستورد من إيران يواجه تحديات كبيرة. أولها هي كيفية الدفع مقابل هذا الغاز، حيث إن العقوبات الأميركية تعرقل عملية الشراء بشكل مباشر، ورغم ذلك، يتم التوصل إلى حلول مؤقتة لهذه المشكلة كل فترة، مشيرا إلى أن التحدي الثاني يكمن في ارتفاع الطلب على الكهرباء خلال فصل الصيف.
وتزود إيران العراق بحوالي 50 مليون متر مكعب من الغاز يوميا بما يغطي حوالي ثلث احتياجات البلاد، وهو ما يكفي لإنتاج حوالي 6 آلاف ميغاوات من الكهرباء، إلا أن هذا الكم لا يكفي لتلبية احتياجات العراق في أوقات الذروة وتزامنها مع موجة برد شديدة ضربت البلاد، وهذا زاد من معاناة المواطنين.
وأشار إلى أن المشكلة لا تقتصر على فصل الصيف فقط، بل تشمل فصل الشتاء أيضا حيث يتم إيقاف بعض المحطات الإيرانية لمدة 15 يوما لإجراء الصيانة، كما أن إيران نفسها تحتاج إلى كميات كبيرة من الغاز لتلبية احتياجاتها خلال فصل الشتاء البارد.
حلول مقترحةوأوضح الشطري أن إحدى الحلول المقترحة هي دخول القطاع الخاص العراقي أو الشركات العالمية للاستثمار في مجال الغاز الطبيعي والغاز المصاحب لحقول النفط، حيث يمتلك العراق كميات كبيرة من الغاز يمكن استغلالها لتشغيل محطات توليد الكهرباء، ومع ذلك، تواجه هذه الحلول تحديات عديدة مثل نقص الاستثمارات والمال، بالإضافة إلى غياب الإرادة السياسية لحل المشكلة.
وأشار الشطري إلى أن العراق لجأ مؤخرا إلى عقد اتفاق مع تركمانستان للحصول على كمية إضافية من الغاز، ولكن هذا الاتفاق يواجه تحديات كبيرة، حيث يتم نقل الغاز عبر إيران، والتي تعاني من مشاكل في إمدادات الغاز خلال فصل الشتاء بسبب انخفاض درجات الحرارة.
وخلص الشطري إلى القول إن قطاع الطاقة الكهربائية في العراق سيعاني لفترة طويلة قبل أن تجد الحكومة حلا جذريا لهذه المشكلة، وذلك بسبب التحديات العديدة التي تواجه القطاع، والتي تتطلب حلولا شاملة وطويلة الأجل.
إعلان 4 ساعات تجهيز و20 ساعة انقطاعوأكد محمد نصر أحد مشغلي المولدات الأهلية أن تجهيز الكهرباء الوطنية من الحكومة حاليا 4 ساعات يوميا يقابلها 20 ساعة إطفاء مؤكدا أن الكهرباء المجهزة حاليا رديئة جدا.
وقال نصر في حديث للجزيرة نت إن وزارة الكهرباء تتذرع بأن إيران قطعت الغاز ولهذا أصبح الإطفاء عام على أغلب المناطق.
وأضاف أن هذا الانقطاع للكهرباء أثر بشكل كبير نتيجة ارتفاع أسعار وقود الكاز المشغل للمولدات الأهلية ما يتسبب بخسائر مادية كبيرة ناهيك عن زيادة الاستهلاك على المولدة بسبب الجهد الإضافي في تشغيلها يوميا.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الغاز الإیرانی إمدادات الغاز تحدیات کبیرة محطات تولید هذه الأزمة فی العراق التی کانت على الغاز أن العراق من الغاز إلى أن
إقرأ أيضاً:
الاقتصاد الإسرائيلي عاجز عن تحمّل حرب طويلة مع إيران.. وترامب يدرك ذلك
أدّت الضربات الدقيقة التي شنّتها إيران مؤخرًا إلى إدخال الاقتصاد الإسرائيلي في دوامة من التراجع، في وقت استغلت فيه الولايات المتحدة هذا الاضطراب لتعزيز حضورها السياسي والاقتصادي في المنطقة، عبر أدوات الدبلوماسية والضغط المالي.
لقد غيّرت الحملة الإيرانية الأخيرة من طبيعة الصراع مع إسرائيل، إذ لم تعد المعركة تدور فقط في ميادين القتال التقليدية، بل امتدت لتستهدف بنية القوة الاقتصادية والمالية التي تُشكّل العمود الفقري للكيان الإسرائيلي. ما بدأ كضربة انتقامية تحوّل سريعًا إلى هجوم استراتيجي متعدد الأبعاد، لا يهدف فقط إلى إلحاق ضرر مباشر، بل إلى زعزعة الأسس المالية واللوجستية التي يقوم عليها اقتصاد الحرب في إسرائيل.
الصاروخ الذي استهدف منزل داني نافيه المدير التنفيذي لشركة «تطوير إسرائيل» والمعروفة عالميًا باسم «سندات إسرائيل»، لم يكن محض صدفة. «نافيه» ليس مجرّد مسؤول بيروقراطي، بل هو العقل المدبّر لمنظومة بيع السندات الإسرائيلية في الخارج. فمنذ أكتوبر 2023، أشرف بنفسه على جذب أكثر من 5 مليارات دولار من رؤوس الأموال، معظمها من الجاليات اليهودية والمستثمرين المؤسسين، بما في ذلك 1.7 مليار دولار من جهات أمريكية حكومية. وتتميّز هذه السندات بأنها تُباع مباشرة للمشترين دون المرور بأسواق التداول الثانوية، ما يجعلها مصدرًا حيويًا لتمويل الدولة في زمن الحرب.
ومن خلال استهداف «نافيه»، وجّهت طهران ضربة مباشرة لآلية جمع الديون الإسرائيلية، وضربت أضعف مواضعها، وهي ثقة المستثمرين. لقد كانت رسالة واضحة للأسواق العالمية مفادها أنه لا يوجد جزء من الهيكل المالي والاقتصادي الإسرائيلي في مأمن.
لم يكن الهدف تعطيل شخص أو منصب، بل تقويض الثقة في الهيكل الكامل للتمويل الحربي الإسرائيلي.
وبالتوازي مع ذلك، تشير الضربات الإيرانية التي طالت الحي المالي في تل أبيب وميناء حيفا الحيوي ومصافي تكرير النفط فيه، إلى استراتيجية استنزاف مالي منسقة ومدروسة. لقد دمجت إيران بين الهجمات السيبرانية والضربات الميدانية، ما أدى إلى تعطيل المصافي التي تُعد عصبًا لتأمين احتياجات إسرائيل من الطاقة الصناعية والمدنية. وتواجه الحكومة الآن أزمة وقود وارتفاعًا متسلسلًا في التكاليف داخل سلاسل التوريد والإنتاج، في وقت تتفاقم فيه نفقات الحرب بشكل غير مسبوق.
الخنق البحري
غير أن الضربة الأشد قسوة للاقتصاد الإسرائيلي لم تأتِ من البر أو الجو، بل من البحر. ففي 20 يونيو، أعلنت شركة «ميرسك»» الدنماركية، أكبر شركة شحن حاويات في العالم، عن تعليق كافة رحلاتها إلى ميناء حيفا، على خلفية مخاطر التصعيد الإيراني. لم يكن هناك إعلان رسمي عن حصار بحري، لكن النتيجة كانت أقرب ما تكون إلى الحظر الكامل. فقد ارتفعت أقساط التأمين على الشحنات المتجهة إلى إسرائيل لتتجاوز 1% من قيمة السفينة، ما أدخل الاقتصاد البحري الإسرائيلي في حالة شلل غير معلن.
وهذا التعطيل فاق في أثره حتى أزمة البحر الأحمر الناجمة عن حصار الحوثيين. فمضيق باب المندب، رغم حساسيته، كان لا يزال يسمح بإعادة توجيه مسارات الشحن. أما خروج «ميرسك» من حيفا، فقد قطع الشريان البحري الحيوي بالكامل. ويُعد ميناء حيفا بوابة إسرائيل الرئيسية على البحر المتوسط، وخاصة لاستيراد المعدات الصناعية والأدوية والسلع الاستراتيجية.
وبدونه، يصبح الاقتصاد الإسرائيلي هشًّا، وأكثر عرضة لموجات تضخمية متتالية. فقد ارتفعت كلفة الاستيراد، ومن المتوقع أن تتسع الفجوات في المخزون. وسيجد صانع القرار نفسه بين خيارين كلاهما مكلف: إمّا دعم سلاسل التوريد من المال العام بكُلفة باهظة، أو الاعتماد على شركات شحن دون المستوى تعمل تحت «أعلام دول أخرى».
ولم تعلن شركة «ميرسك» عن استئناف رحلاتها إلى ميناء حيفا إلا بعد إعلان وقف إطلاق النار بوساطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ما أعاد فتح قنوات الاستيراد والتصدير جزئيًا. ومع ذلك، فإن فترة التصعيد كانت كافية للضغط على إسرائيل وإجبارها على الاعتراف بتكاليف الحرب الثقيلة.
مرونة استراتيجية بأقل التكاليف
في المقابل، أنفقت إيران مبالغ ضئيلة لتحقيق تأثير بالغ. فقد قُدرت تكاليف عملياتها الصاروخية بما بين 2 إلى 3 مليارات دولار، لكنها صُممت بعناية كاستثمار استراتيجي طويل الأمد. حافظت الحكومة الإيرانية على استقرارها الكلي من خلال سياسات نقدية صارمة، واتفاقيات نفطية خارج نطاق السوق العالمية، وبرامج تقشف انتقائية. ومن خلال تسليح مفهوم «الردع النفسي»، استطاعت طهران أن تُحقق ما عجزت عنه العقوبات لعقود، وهو أن تجعل النظام المالي الإسرائيلي يبدو هشًّا ومهددًا، وغير قابل للاستمرار على المدى الطويل.
لقد تعوّدت إيران على العيش في ظل العقوبات والحصار، ونجحت على مدى سنوات طويلة في تطوير قدرة على الصمود وسط هذه الظروف، ما منحها صلابة استراتيجية تتفوّق بها على اقتصاد الحرب الإسرائيلي، القائم على الدعم الغربي وأسواق المال العالمية والتفوّق العسكري قصير الأمد.
وعلى عكس إسرائيل التي لا يمكنها تحمّل اضطراب طويل دون أن تدخل في أزمة اقتصادية وسياسية، فإن النظام الإيراني صُمم ليصمد بالنَّفَس الطويل، ويتغذى على الاستنزاف.
وهذا الصبر الاستراتيجي، المتشكّل عبر عقود من الضغوط، يمدّ إيران بإرادة وطنية متجذّرة، تهدد بإنهاك الدولة الإسرائيلية ومنعها من الاستمرار في تمويل حرب طويلة أو تبريرها أمام جمهورها والعالم.
سقوط مالي متسارع
أزمة الاقتصاد الإسرائيلي اليوم ليست أزمة تكاليف فحسب، وإنما أزمة ثقة شاملة. فمنذ أكتوبر 2023، يشهد الشيكل تراجعًا مستمرًا في قيمته، في حين ارتفعت عوائد السندات بشكل ملحوظ، وقفزت أسعار عقود التأمين على الديون مع تزايد تقديرات المخاطر. أما الاستثمارات الأجنبية، فقد بدأت في التبخر، والشركات الصغيرة والمتوسطة تنهار تباعًا، في وقت خفّضت فيه وكالات التصنيف الائتماني تقييم إسرائيل.
وتسببت ساعات العمل الضائعة بسبب التأهّب الأمني في مختلف المدن بانخفاض الإنتاجية وتراجع العائدات الضريبية، ما أسهم في ارتفاع البطالة وتصاعد الغضب الشعبي.
وجاء الرد الحكومي خاليًا من أي خطة إنقاذ حقيقية، بل أقرب إلى إجراء طارئ؛ إذ رفعت الحكومة ضريبة القيمة المضافة، وخفّضت الإنفاق الاجتماعي، وأصدرت المزيد من السندات المحلية. ومع تصاعد النفقات العسكرية، بدأت الدولة في تقليص مخصصات التعليم والصحة والبنية التحتية العامة لتغطية تكاليف الحرب. إن التكلفة الحقيقية لهذه السياسات ستتجاوز أمد الحرب نفسها، إذ بدأ رأس المال البشري بالتآكل، وتزايدت موجات هجرة الكفاءات ورؤوس الأموال، في ظل تراجع ثقة المواطن في قدرة الدولة على إدارة الاقتصاد.
ولأول مرة منذ نصف قرن، أطلقت إسرائيل نداءً دوليًا تطلب فيه المال. فقد تقدّمت تل أبيب رسميًا بطلب إلى دول مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا لتقديم مساعدات مالية لدعم قدرتها على مواصلة الحرب، وهو اعتراف بالإرهاق والعجز. فالحرب، كما يبدو، لم تعد قابلة للتمويل من داخل الحدود الإسرائيلية. وكشف هذا النداء عن مفارقة صادمة، وهي أن الدولة التي لطالما تغنّت بالاعتماد على الذات، أصبحت تعتمد على الدعم الخارجي لتفادي الإفلاس، انه انهيار بطيء ومتواصل في البنية الاقتصادية.
حيلة سياسية استغلالية
نجحت إيران في تحقيق واحد من أبرز أهدافها الاستراتيجية حتى الآن، عبر تقويض منظومة تمويل الحرب. فقد أدت ضرباتها إلى إرباك أوسع شمل ممرات الشحن، وأسواق السندات، وثقة المستثمرين، والرأي العام، فإسرائيل اليوم لا تحارب في سبع جبهات عسكرية فقط، بل باتت تقاتل من أجل بقائها الاقتصادي.
والمفارقة أن الهجوم الإيراني ساعد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على تحويل مسار الانتقادات الداخلية ضده، من أزمة سياسية تهدد شرعيته إلى صراع وجودي يعبّئ من خلاله الداخل الإسرائيلي خلفه.
لكن الضربة الأمريكية المحدودة التي استهدفت منشأة نووية إيرانية في 22 يونيو، أكدت أن هذه الحرب ليست معركة نصر سريع، ولكنها صراع استنزاف طويل الأمد، يُحسم بالإرادة الاستراتيجية لا بالقوة النارية. أما وقف إطلاق النار الذي أنهى الجولة الأخيرة من المواجهات بين إيران وإسرائيل، فلم يُنهِ النزاع، بل أعاد ضبط إيقاعه فحسب. وفي ظل الإرهاق المتبادل، انتهزت الولايات المتحدة الفرصة لتعيد تموضعها، كمهندس جديد للنظام الإقليمي بعد النزاع.
فخطوات ترامب الأخيرة كانت حيلة سياسية بامتياز، استغل فيها المكاسب الاستراتيجية التي حققتها إيران والتعب المالي الذي أصاب إسرائيل، لإعادة بسط النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط عبر إعادة تشكيل البنى التحتية، وأنماط الاعتماد الاقتصادي، والتحالفات السياسية.
وكان التطور الأهم قبل التصعيد، هو تدشين إيران خط سكة حديد مباشر إلى الصين، اختصر زمن الشحن إلى نحو 15 يومًا. والأهم من ذلك، أنه أتاح لإيران تنفيذ معاملات مالية خارج منظومة الدولار ونطاق العقوبات الأمريكية. ومن خلال انخراطها في مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، وجهت طهران رسالة واضحة بأنها تعيد توجيه مستقبلها الاقتصادي بعيدًا عن المنظومة الغربية.
ولذلك، الضربات الأمريكية -الإسرائيلية المشتركة على البنية التحتية الإيرانية جاءت بمثابة رد فعل على هذا التحوّل الاستراتيجي الإيراني في البنية الاقتصادية.
التصميم الأمريكي
بعد وقف إطلاق النار، اتبعت الولايات المتحدة سياسة انتقائية تهدف إلى الحد من توسع النفوذ الإيراني. وقد سمحت إدارة ترامب، قبل أن تتراجع عن القرار لاحقًا، لمصافي التكرير الصينية باستئناف شراء النفط الإيراني، في خطوة محسوبة تهدف إلى إبطاء تعمق العلاقات الإيرانية الصينية. وهذا التراجع محاولة لإعادة جذب إيران إلى شبكة مالية تخضع لنفوذ المؤسسات الأمريكية، حفاظًا على قدر من السيطرة على سيولتها المالية وحركتها التجارية.
وبالتوازي، كثفت الولايات المتحدة من استخدام أدوات التمويل المتعدد الأطراف كسلاح سياسي ضد طهران. فقد قدم البنك الدولي منحة كهرباء لسوريا، قُدمت بوصفها دعمًا تنمويًا، لكنها تهدف فعليًا إلى تقليص نفوذ إيران هناك. وتُطبَّق خطوات مماثلة في لبنان، تستهدف شبكات «حزب الله» الخدمية.
تأتي هذه التحركات في سياق دعم بنية اتفاقيات «أبراهام»، حيث إن استمرار الضغط المالي على إسرائيل، وتراجع مصداقية ردعها، يجعلان من الهدوء الإقليمي شرطًا أساسيًا للحفاظ على مسار التكامل الاقتصادي مع دول الخليج، وضمان مستقبل مشاريع كبرى مثل «الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا».
لقد كشفت قدرة إيران على تعطيل خطوط الشحن وتدفقات الطاقة عن هشاشة هذه المبادرات، ما يدفع واشنطن إلى تبني استراتيجية تقوم على موازنة البنية التحتية ومحاصرة إيران مؤسسيًا، عبر التكيّف الانتقائي، والأدوات الاقتصادية، وسياسات الاحتواء.
إنها سياسة انتقال من الهيمنة العسكرية إلى النفوذ الاستراتيجي، هدفها إدارة التناقضات في النظام الإقليمي القائم بدلًا من حلها.
ومن خلال خطط مثل مبادرة «درع أبراهام»، تأمل الولايات المتحدة في تحويل زخم الحرب الإسرائيلية إلى نظام إقليمي دائم، يقوم على الردع الاستراتيجي، والتكامل الاقتصادي، والتطبيع السياسي.
أحمد القَرعوط خبير في الاقتصاد السياسي، يركّز في أبحاثه على تنافس القوى الكبرى والاقتصاد السياسي للصراعات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
الترجمة - عن موقع ميديل إيست آي