سوريا الجديدة.. نقاط الضعف وأوراق التفاوض.. في الطريق إلى الدولة
تاريخ النشر: 31st, January 2025 GMT
التطورات التي تعيشها سوريا الجديدة، تعيد تركيب عدد من الأسئلة الفكرية حول الثورة، ومفاعيلها، وطرف استحالة الثورة إلى دولة، ومنهجية الانتقال المؤسساتي، وإدارة التعدد الطائفي، وبناء التعاقدات المجتمعية والسياسية، وجدل الداخلي والخارجي، وحدود توطين الخيارات الثورية في ظل الضغط الخارجي، وترتيب الجواب عن التحديات بين الداخلي والخارجي، وقواعد المشروع المجتمعي الجديد، وغيرها من الأسئلة التي ظل مثقفو النهضة يناقشونها دون أن يخرجوا منعا بطائل، وتعثرات تجارب نهضوية وثورية عربية دون أن تنجح في إرساء تجربة ناجحة، لا يتحول ربيعها إلى خريف بمناهضة جيوب المقاومة أو ما يسمى بالثورات المضادة.
كما يثار سؤال آخر مهم، حول مفهوم الدولة الراعية، الذي تفتقت مفرداته مع التجربة الماركسية والماوية، واستلهمته الثورة الإيرانية، وحاولت أن تحدث عليه تحيينات كثيرة، فانتقل من مفهوم تصدير الثورة إلى مفهوم الأذرع الثورية الإقليمية، ليستقر في المراحل الأخيرة على مفهوم محاور المقاومة.
من السابق لأوانه اليوم، أن نتحدث عن نسق فكري نضج في الحالة السورية بأجوبته المركبة عن هذه الإشكالات المفاهيمية، لكن الأسلوب العملي الذي يتم انتهاجه في مواجهة التحديات، وتصنيفها (داخلي وخارجي) وترتيب أولوياتها، فضلا عن منهجية الانتقال من الثورة إلى الدولة، وطريقة التفاعل مع الفاعل الأجنبي، هذه كلها تشي بأن هذه التجربة، جديرة بأن توضع ضمن مشرحة التأمل الفكري، حتى يتم نقل هذا الأسلوب العملي البراغماتي إلى صياغة فكرية ونسق عام، يمكن دراسته ضمن الدراسات المقارنة سواء تلك التي تقارب طرق الانتقال من الثورة إلى الدولة، أو التي تعنى بالانتقال إلى الديمقراطية، أو التي تعنى بمنهجية إدارة التعدد الطائفي، وكيفية بناء التعاقدات المجتمعية الكبرى.
تعيش سوريا اليوم أربعة تحديات داخلية رئيسة، أولها، تثبيت شرعية الدولة في كل التراب السوري، وتوحيد الجهاز الأمني والعسكري، وبناء الاقتصاد السوري، وترتيب خطوات العملية السياسية بما يسمح بالمرور من العملية الانتقالية إلى تأسيس البنيان الدستوري والمؤسساتي بناء على التقاعدات المجتمعية الجديدة.سنقدم في هذا المقال، بعض ملامح هذا النسق، وكيف يتصور التحديات التي تواجهه، والأولويات التي يشتغل عليها، والتحديات التي امانعه، وكيف يصنفها ويرتبها، وكيف يتعاطى معها..
سوريا الجديدة والتحديات الأربعة
تعيش سوريا اليوم أربعة تحديات داخلية رئيسة، أولها، تثبيت شرعية الدولة في كل التراب السوري، وتوحيد الجهاز الأمني والعسكري، وبناء الاقتصاد السوري، وترتيب خطوات العملية السياسية بما يسمح بالمرور من العملية الانتقالية إلى تأسيس البنيان الدستوري والمؤسساتي بناء على التقاعدات المجتمعية الجديدة.
بيد أن هذه التحديات، التي تبدو كلها داخلية، ترتبط بالجوهر باستحقاقات تتعلق بالسياسة الخارجية، أو بنوع المقاربة التي ستنهجها الإدارة الانتقالية لكسب هذه التحديات الأربعة، فتثبيت شرعية الدولة على كل التراب السوري، يطرح سؤال التعاطي مع قوات سوريا الديمقراطية، وهي الورقة التي تمسك بها كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي (باسم حق الأقليات)، لضمان الأمن القومي الإسرائيلي من جهة، والحيلولة دون تعزيز النفوذ الإقليمي لتركيا. كما أن بناء الاقتصاد السوري مرتبط أساسا برفع العقوبات عن سوريا، وهي ورقة تمسك بها الدول الغربية للضغط على سوريا في اتجاهات متعددة، سندقق فيها خلال هذا المقال، كما أن تحدي تأسيس البنيان الدستوري والمؤسساتي في سوريا وتوحيد الجهاز الأمني والعسكري، هو الآخر يخضع للاعتبارات السابقة، مما يعني في المحصلة، أن مشكلة سوريا الأساسية، هي مشكلة سياسة خارجية، في وسط جد معقد، لا يسمح بخيارات مفتوحة وبهامش أكبر للمناورة.
في هذا المقال، سنحاول أن نعرض للمعادلات التي كانت تحكم سوريا قبل الإطاحة بالنظام، وبأهم التحولات التي عرفتها هذه المعادلات بعد الإطاحة به، وبنقاط الضعف التي يمسك بها الفاعل الدولي لرفض أجندته على الإدارة الجديدة، وبالخيارات التفاوضية التي تملكها سوريا الجديدة لبناء سياسة خارجية متوازنة تؤهلها لرفع العقوبات الدولية، وعودتها إلى محيطها الإقليمي والدولي.
معادلات ما قبل الإطاحة بنظام الأسد
قبل الإطاحة بنظام بشار الأسد، كانت المعادلة معقدة، بسبب ضعف النظام السياسي، وحاجته لتبرير استمراره في ظل تحولات دولية وإقليمية متسارعة، فقد كان نظام بشار الأسد يشتغل بتكتيكين متناقضين تماما: تكتيك تقليدي، يراهن فيه على تحالفه مع إيران وروسيا، وبمقتضاه، يسمح النظام السوري لإيران بنفوذ أمني وعسكري كبير مع تـأمين تدفق السلاح إلى حزب الله، الذي بدوره استثمر ضعف النظام السياسي في مواجهة المعارضة والمناخ الدولي، وأصبح فاعلا ميدانيا قويا في القصير وحمص وحلب ما بين 2012 و 2019، إلى أن فرضت عليه الحرب الإسرائيلية على لبنان عودة مقاتليه إلى جنوبه. التكتيك الثاني، ظهر بالتحديد مع إعلان الإمارات العربية المتحدة تطبيع علاقتها مع دمشق، وإعادة فتح سفارتها بها سنة 2018، إذ كانت نية الإمارات، أن تفتح للنظام السوري خيارا آخر، للحفاظ على وجوده، دون السقوط الكلي في الحضن الإيراني، وبدأ الاستثمار من تلك الفترة بورقة تحالف سوري عربي، بدعم أمريكي إسرائيلي، ينهي عزلة النظام السوري من خلال عودة دمشق إلى الجامعة العربية.
وهكذا، فقد باركت كل كن البحرين وعمان عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وتبنت الأردن، جزءا من هذه الرؤية، لكن أفق نظرها، كان يتجه أكثر إلى تقليص النفوذ الإيراني، ودفع الدول الغربية إلى تخفيف العقوبات الدولية على دمشق، ودعم عودتها للجامعة العربية مقابل تعاونها في التحرر من الهيمنة الإيرانية خاصة في المجال الأمني والعسكري، وقد ظهر ذلك بوضوح في خارطة الطريق الذي اقترحها الملك عبد الله الثاني على الرئيس الأمريكي جو بايدن، في واشنطن في تموز 2021، وضمنت هذه الخارطة ضرورة تعاون روسيا في هذا السيناريو.
وقد كان المؤمل في القمة العربية بالجزائر أن تنهي مشكلة وجود دمشق خارج الجامعة العربية بحكم التحركات العربية الكثيفة التي سبقت القمة، لكن الظاهر أن بشار الأسد لم يقدم التزامات واضحة بشأن فتح النسق السياسي وإشراك المعارضة السورية، مما دفع كلا من السعودية ومصر وقطر للتحفظ، فلم تنجح قمة الجزائر المنعقدة في 2022 في إعادة دمشق للجامعة العربية.
من المرجح أن تغير الموقف السعودي، بعد اتفاقها لاستئناف العلاقات مع إيران بوساطة صينية في مارس 2023، ساعد في الدفع بقوة في اتجاه استعادة دمشق لمكانها في الجامعة العربية، وهي الخطوة التي تطورت بشكل تدريجي، إلى أن أصبحت حقيقة في قمة جدة التي انعقدت في ماي 2023. تلك القمة، التي-وإن رسمت حضور نظام الأسد فيها-إلا أنها أبقت الباب مفتوحا لمواقف عربية تتأرجح بين والتطبيع وعودة العلاقات بشكل سلس، وبين التطبيع المشروط بالتزامات واضحة من لدن نظام الأسد بإشراك المعارضة السورية في الحكم وإحداث مصالحة سياسية شاملة.
من الواضح أن التحول في الموقف العربي، الذي قد يبدو مندرجا ضمن التكتيك الثاني، لم يكن كله، على نسق واحد من الرؤية الاستراتيجية، فالإمارات، لم تكن معنية كثيرا بفكرة المصالحة السياسية وإشراك المعارضة السياسية في الحكم، وإنما كانت معنية بدرجة أولى باستبدال وجهة النظام السوري من إيران إلى إسرائيل، بينما توحد الموقف العربي بجميع مكوناته على مستوى هدف تقليص النفوذ الإيراني، مع تقديم التزامات سورية واضحة بخصوص العملية السياسية، وموقع المعارضة فيها، وقضية المصالحة السياسية.
الموقف التركي في سوريا، تدرج هو الآخر بشكل كبير إلى أن وصل إلى لحظة إسناد كلي للمعارضة المسلحة، فمن المطالبة بإصلاحات جذرية في النظام مع بداية الثورة السورية 2011، انتقل إلى دعم المعارضة، والدفع بحل سياسي مشروط برحيل رأس النظام بشار الأسد، ليتغير الموقف بشكل سريع إلى تدخل عسكري مباشر في الأراضي سنة 2016 ضمن ما أسمته تركيا بعملية "درع الفرات" تحت حجة حماية أمنها القومي من الإرهابين: إرهاب تنظيم الدولة والإرهاب الذي تشكله قوات سريا الديمقراطية.
وقد شكلت محادثات أستانا2017 محطة أساسية لتغير آخر في الموقف التركي، لجهة التخلي عن شرط سوريا من غير بشار الأسد. وعلى الرغم من انخراط تركيا في لقاءات مع سوريا على عدة مستويات عسكرية وأمنية واستخباراتية برعاية روسية، إلا أن اشتراط بشار الأسد في كل لقاء إمكان التوصل إلى خارطة طريق تنهي التوتر بين البلدين شريطة انسحاب انقرة من جميع الأراضي السورية، لم يكن يجد صدى لدى أنقرة، التي كانت تنظر لتدخل جيشها في سوريا على اعتبار أنه يمثل جوابا استراتيجيا عن أمنها القومي ضد الإرهاب، وقوات سوريا الديمقراطية، التي كانت في حالة تنسيق كلي مع نظام الأسد وواشنطن وإيران لزعزعة استقرار تركيا.
سوريا الجديدة تحررت بإطاحتها لنظام الأسد من عدد من العراقيل التي كانت تمنع عودتها وانفتاحها الإيجابي مع محطيها الإقليمي والدولي، فقد زال أو تقلص إلى حد كبير محذوران: يتعلق الأول، بالخطر الإرهابي، والثاني، بالنفوذ الإيراني، وكسبت في المقابل، الدعم العربي الواسع، ثم انفتاح المجتمع الدولي عليهافي المحصلة، حصل تغيير آخر في الموقف التركي، لجهة دعوة الرئيس التركي طيب رجب أردوغان الرئيس السوري بشار الأسد للقاء مباشر لطي صفحة الخلاف وتطبيع العلاقات مع أنقرة، إلا أن إصرار بشار الأسد على رؤيته السابقة، لم تسمح له بالتقاط الإشارة، وأن أنقرة، كانت في الجوهر، بصدد إرسال الإنذار الأخير له قبل وقوع العاصفة.
الموقف الأمريكي، الذي استغل الظاهرة الإرهابية، لتثبيت وجوده في سوريا، يلعب في الظاهر على أكثر من واجهة: الأولى، استثمار الخطر الإرهابي لتثبيت شرعية وجوده العسكري في سوريا بحجة مواجهة الدولة الإسلامية ومكافحة بقايا القاعدة، والثانية، توجيه البوصلة إلى مصادر الطاقة في سوريا، ثم الثالثة العمل على تقليص النفوذ العسكري الإيراني عبر توجيه الضربات العسكرية لبعض مواقعه في سوريا، والرابعة، منع أي توسع للنفوذ الروسي بسوريا، والخامسة منع تركيا من التوسع الإقليمي بتشغيل ورقة قوات سوريا الديمقراطية، وهذا ما يفسر انتشار معظم القواعد والنقاط العسكرية الأمريكية بشكل رئيسي في المنطقة الشمالية الشرقية.
بالنسبة للموقف الروسي، فلم يكن رهان موسكو على أكثر من الحفاظ على قاعدتها العسكرية في حميحيم، ومراكز نفوذها في طرطوس، وقد ربطت حمايتها للنظام، بدرجة دفاع النظام عن نفسه، وجاهزية جيشه لهذه المهمة، ودخلت في تفاهمات مع كل من إيران وتركيا وسوريا (اتفاق أستانا)، لترسيم نفوذ كل طرف على حدة، ومنع تحول الصراع إلى الواجهة العسكرية.
بالنسبة للموقف الإسرائيلي، فمن الواضح، أنه كان الأعقد، فقد كان من جهة يخشى من تغول النفوذ الإيراني في سوريا، وتحويلها إلى ممر لتدفق الأسلحة إلى حزب الله، كما كانت في قمة الانزعاج من وجود حزب الله على الأراضي السورية المحاذية للحدود اللبنانية. ومن جهة ثانية، كانت لا تخفي انزعاجها من توسع النفوذ التركي في سوريا عبر حجة المنطقة الأمنية العازلة، وأبقت في الجهة الثالثة، على حبل الاتصال مفتوحا مع موسكو، لإبقاء النظام في دائرة الحياد اتجاه إسرائيل، ومع واشنطن لدعم قوات سوريا الديمقراطية بما يسمح لتقويض الأهداف الاستراتيجية التركية في المنطقة. وفي المحصلة، فإن تل أبيب كانت لا تريد استبدال خطر شيعي ترعاه إيران، بخطر سني ترعاه تركيا.
في الواقع، اختار نظام بشار الأسد في مواجهة هذه المعادلات ثلاثة خطوط رئيسة: الإبقاء على خط التحالف الأمني والعسكري والاستخباراتي مفتوحا مع كل من إيران وروسيا لكن دون تحويل سوريا إلى جبهة إسناد للمقاومة الفلسطينية، ووحدة الهدف مع كل من إيران واشنطن وإسرائيل وإيران لدعم قوات سوريا الديمقراطية ضد الأهداف الاستراتيجية التركية، والاشتغال على فتح قنوات التواصل مع العرب، وأيضا مع إسرائيل بشكل سري وبوساطة إماراتية، لعودة سوريا إلى الجامعة العربية، عبر ورقة التحرر من التغول الإيراني بديلا عن تقديم التزامات سياسية بإشراك المعارضة السورية.
سوريا الجديدة.. نقاط الضعف وأوراق التفاوض
من المؤكد بأن سوريا الجديدة تحررت بإطاحتها لنظام الأسد من عدد من العراقيل التي كانت تمنع عودتها وانفتاحها الإيجابي مع محطيها الإقليمي والدولي، فقد زال أو تقلص إلى حد كبير محذوران: يتعلق الأول، بالخطر الإرهابي، والثاني، بالنفوذ الإيراني، وكسبت في المقابل، الدعم العربي الواسع، ثم انفتاح المجتمع الدولي عليها، وعلى إمكان دعمها لتجاوز المرحلة الانتقالية، ووضع الأساس المتين لبنيانها الدستوري والمؤسساتي والسياسي، لكن، مع ذلك، ثمة عدد من النقاط التي لا تزال تشكل نقاط ضعف، تحاول الأطراف الدولية السابقة استثمارها في المرحلة السابقة، فالمجتمع الدولي على سبيل المثال، وإن تم تحقيق هدف تقليص النفوذ الإيراني، وحتى الروسي، فإنه، أصبح يضع في مقابل رفع العقوبات على سوريا شروطا أخرى سياسية واجتماعية وثقافية وحقوقية، تصل في أحيان كثيرة حد التدخل في المرجعية الثقافية للمجتمع، وفرض مرجعية أخرى بديلة.
على أن قضية رفع العقوبات الدولية ليست هي نقطة الضعف الوحيدة، فثمة إلى جانبها، نقطة ضعف أخرى، تتمثل في الشروط الاقتصادية والاجتماعية، فسوريا الجديدة، أطاحت بنظام بشار الأسد، ووجدت أمامها واقع انهيار البنية التحتية، وتدهورا في العملة والناتج الزراعي والصناعي، وأيضا في مجال الطاقة وما يتركه ذلك من آثار اجتماعية. فسوريا التي تملك إمكانات كبيرة على مستوى النفط والغاز، تعاني أزمة البنيات التقليدية في قطاع الطاقة، وتعاني من جهة تأثير العقوبات الدولية التي تمنع دخول الشركات الدولية لإعادة تهيئة آبار النفط.
نقطة الضعف الثالثة، تتمثل في ضيق الخيارات، فهي من جهة بين المحور الغربي (واشنطن والاتحاد الأوربي)، وبين المحور الشرقي (روسيا والصين)، وفي الوقت الذي يشترط المحور الغربي، عليها تقليص النفوذ الروسي، واختبار النموذج السوري في كل مستوياته، وبخاص مستواه الإيديولوجي، تحرص موسكو من خلال زيارة نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، على إبداء مرونة كبيرة، من أجل الحفاظ على امتيازاتها اقتصادية ووجودها العسكري بسوريا. أما الصين، فتبدو الأكثر مرونة، فهي مستعدة لتقديم دعمها لسوريا من غير شروط، فرؤية الصين، تراهن أكثر على المدى البعيد، وبالأخص على تطوير العلاقات بين البلدين في كل مستوياتها، وبالخص المستوى الاقتصادي والتجاري.
نقاط ضعف لا تمنع تحريك أوراق تفاوض مهمة
ومما يزيد من ضيق هذه الخيارات، أن سوريا الجديدة مرتبطة بشكل أو بآخر بتركيا، وهي بهذا الاعتبار، لا يمكن أن تؤسس لمفردات سياسية خارجية جديدة، بعيدا عن السياسة الخارجية التركية نفسها.
ومع أن نقاط ضعف كهذه، تكبل يد الخارجية السورية، وتعيق فاعليتها، فإن ذلك لا يمنع الإدارة السورية الجديدة من تحريك أوراق تفاوض عدة، بعضها أقوى من بعض بحسب الفاعل الدولي أو الإقليمي الذي تتفاعل معه.
سوريا الجديدة تحتاج الإبقاء على علاقة استراتيجية مع روسيا لاعتبارين اثنين، أولهما حتى تمارس لعبة التوازن مع المحور الغربي، والثانية، لأن روسيا ظلت تمثل الممون الأساسي للترسانة العسكرية السورية، مما يعني أن هناك حاجة إليها لصيانة هذه الترسانة وتقويتها، قبل أن يتقوى اقتصاد سوريا وتحدد وجهتها الجديدة لتلبية حاجتها من السلاح.فروسيا على سبيل المثال، والذي تصر أن ترسم وضعها النهائي مع سوريا الجديدة خلال هذا الأسبوع من خلال زيارة نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، حركت معها الإدارة الجديدة ورقتين ثقيلتين: الأولى، إلغاء عقد مع شركة روسية لإدارة وتشغيل ميناء طرطوس (غربي البلاد) تم توقيعه في عهد الرئيس بشار المطاح به بشار الأسد، والثانية، هو مطالبة روسيا برأس الأسد.
سوريا الجديدة تحتاج الإبقاء على علاقة استراتيجية مع روسيا لاعتبارين اثنين، أولهما حتى تمارس لعبة التوازن مع المحور الغربي، والثانية، لأن روسيا ظلت تمثل الممون الأساسي للترسانة العسكرية السورية، مما يعني أن هناك حاجة إليها لصيانة هذه الترسانة وتقويتها، قبل أن يتقوى اقتصاد سوريا وتحدد وجهتها الجديدة لتلبية حاجتها من السلاح.
سوريا الجديدة، عقدت بدون شك بعض أهداف واشنطن، خاصة ما يتعلق بأدوار قوات سوريا الديمقراطية، فالإدارة الجديدة، تبدو مصرة أكثر من أي وجه ومضى على خوض معركة حاسمة مع هذه القوات التي رفضت أن تلقي بسلاحها، وهي ورقة قوية أثبتت نجاعتها في التعاطي مع واشنطن، إذ لم يعد لواشنطن من ورقة لممارسة الضغط على سوريا، فقد عزلت قوات سوريا الديمقراطية نفسها حين رفضت وحدها تسليم السلاح للإدارة الجديدة، واكتسب الإدارة الجديدة المبرر لمواجهتها باسم وحدة سوريا ووحدة الجهاز العسكري والأمني، وحق الدولة وحدها في احتكار السلاح.، ولعل هذا جزء مما يبرر عزم الإدارة الأمريكية في عهد ترامب سحب الآلاف من الجنود الأمريكيين بسوريا، فهي أضحت مقتنعة أو مصالحها يمكن أن ترعى بشكل أفضل عبر علاقة استراتيجية مع تركيا، وأن الاستثمار في ورقة قوات سوريا الديمقراطية، سيكون على الضد من أهدافها الاستراتيجية.
إسرائيل، فهمت الرسالة مبكرا، ولم تكتف بتحقق هدف تراجع النفوذ الإيراني في سوريا، وتوقف تدفق السلاح من سوريا لحزب الله، بل اتجهت إلى تعويض ورقتها المحترقة (قوات سوريا الديمقراطية) بالسيطرة على جبل الشيخ، واعتبار ذلك ضرورة استراتيجية لأمنها القومي، والإعلان أن وجودها بهذه المنطقة لن يكون مؤقتا بتاريخ محدد.
وإذا كانت هذه الخيارات التفاوضية متاحة، وضمن رؤية إدارة التوازن في العلاقات الخارجية بين محوري الغرب والشرق، فإن أكبر نقطة قوة تملكها سوريا الجديدة، هو علاقتها الاستراتيجية مع تركيا، والمستقبل المفتوح للعلاقة مع العراق، والدعم العربي لعودة سوريا موحدة وقوية إلى حضنها العربي. ما عدا ذلك، فإن الوقت يمثل جزءا أساسيا من الحل.
وبالمناسبة، فالوقت ليس فقط سلاحا بيد الغرب وحده، ولكنه قد يكون أيضا سلاحا سوريا، فسوريا الجديدة، بالتأكيد، لن تبقى مكتوفة اليد إزاء انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي لمختلف الاتفاقات الدولية، فقد طالبت خلال استقبالها وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لعمليات السلام، جان ليار لاكروا، القوات الإسرائيلية بالانسحاب من الأراضي التي توغلت إليها في جنوب البلاد، كما نقلت وسائل الإعلام عن عدم التوصل لأي اتفاق بينها وبين روسيا، وأن القضية الوحيدة التي تم فيها التوصل إلى اتفاق هو إبقاء المجال مفتوحا للنقاش السياسي بين الطرفين، مما يعني بأن هناك وعيا سوريا مهما بأهمية الزمن، سواء في تفويت الفرصة على الأعداء، أو إعطاء فرصة لبناء العلاقة مع الحلفاء، أو البحث عن منطقة وسط، لبناء توازن الموقف المطلوب.
من الواضح أن الغرب يلعب بالوقت من أجل ربط العقوبات باستحقاقات غير ذات شرعية دولية، كما تلعب إسرائيل على الورقة نفسها لتبرير سيطرتها على أطراف من اراضي سورية بحجة ضمان أمنها القومي، لكن، في حالة إصرار سوريا الجديدة على حقها في رفع العقوبات، وعدم ربط ذلك بأي مشترطات خارج الشرعية الدولية، فإنه من غير الواضح إن كان الغرب سيبقى على نفس موقفه، خاصة وأن الغرب يتخوف من أن يتعمق ارتهان سوريا للمحور الشرقي، ولذلك، ربما كان من حكمة الإدارة السورية، إبطاء الحوار مع روسيا مع إصرار موسكو على حسم جميع الملفات مع الإدارة السورية، وذلك في رسالة موجهة للمحور الغربي، بأن التلكؤ في عدم رفع العقوبات، يمكن أن يضطر سوريا للذهاب في اتجاه يكون معاكسا تماما للتطلعات الغربية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير سوريا سياسة التحولات سوريا سياسة رأي تحولات أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة قوات سوریا الدیمقراطیة العقوبات الدولیة الجامعة العربیة الإدارة الجدیدة النفوذ الإیرانی الأمنی والعسکری نظام بشار الأسد المحور الغربی سوریا الجدیدة استراتیجیة مع رفع العقوبات نظام الأسد الثورة إلى التی کانت من إیران مما یعنی فی سوریا عدد من من جهة
إقرأ أيضاً:
طغيان الحجر.. كيف استخدم نظام الأسد العمارة لإحكام قبضته على سوريا؟
في بلد عُرف على مرّ تاريخه الطويل باحتضانه أطيافا مختلفة من خلفيات ثقافية متنوعة استطاعت التعايش معا، تشكَّلت البيئة المَبنية كي تُعبّر عن ذلك، فتجاورت الكنائس والمساجد، وتفاعلت الأديان والثقافات لتخلق مكانا وروحا شعَر فيه الجميع بالانتماء دون فصل أو عزل، حيث احتفظت كل طائفة بهويتها في تواصل وتشابك.
غير أن العقود الأخيرة شهدت "حلحلة تدريجية" لهذا التوازن، ويمكن القول إنه بدأ عند تخطيط المدن في الفترة الاستعمارية، وتكثَّفَ أكثر أثناء حُكم نظام حافظ الأسد وابنه على مدار 5 عقود.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الأنفاس المعدودة والحركات المرصودة.. كيف أحصى الأسد على السوريين أعمالهم؟list 2 of 2الطريق إلى الشرعية المؤجلة.. السلطة والاستثناء والديمقراطية في سورياend of listفقد شُيِّدت المدن الجديدة بشكل دمَّر الانسجام المجتمعي ورسَّخ التقسيم على أساس الطبقة الاجتماعية أو الدين، وخلَّف ذلك العزل تغيُّرا في نمط الحياة والشعور بالانتماء.
صارت العمارة وسيلة النظام للإقصاء، واختفت مظاهر التفاعل وروح المكان التي كانت تعبّر عن الوجود المشترك.
إنها "عمارة لا إنسانية" عزَّزت الانقسام والطائفية والكراهية، وأبدلت جماعات اجتماعية منفصلة بالجماعة المتماسكة، وكانت هذه إحدى وسائل النظام لإحكام السيطرة، وكانت التركيبات المعمارية شريكة في استدامة تلك الدولة القمعية، وتجلَّى ذلك ماديا أحيانا، بينما سيطر على العقول والقلوب أحيانا أخرى. كيف إذن ساهمت العمارة في نشوب الحرب السورية وإطالة أمدها؟
كان الناس يتناقلون في دمشق أسطورة شعبية تقول إن حافظ الأسد يراقب الجميع من قصره، وهناك تُستنفَر المدافع منصوبة للإجهاز على أي ثورة قد يقوم بها الشعب. وكان لهذه الأسطورة التي عاشت في أذهان الناس أساسٌ معماري، فالقصر الرئاسي يتربع على قمة جبل قاسيون مُطِلًّا على المدينة المُمتدة من الأعلى.
ويذكِّرنا موقع القصر بتصميم "البانوبتيكون" الذي تناوله المؤرخ الفرنسي ميشيل فوكو في كتاب "المراقبة والمعاقبة"، وهو تصميم للمؤسسات الإصلاحية، يكون المبنى فيه دائريا يتوسَّطه برج للمراقبة، في حين تتوزَّع الزنازين من حوله؛ بحيث يتمكن الحراس في البرج من مراقبة المسجونين في كل الأوقات، في حين لا يعرف المسجونون هل ما زال الحراس في الداخل أم أن البرج صار خاليا، فيشعرون بأنهم مراقَبون على الدوام، وهذا هو مصدر قوة السلطة هنا، إذ إنها حاضرة في أذهان الناس دون إمكانية التحقُّق من وجودها الفعلي في كل لحظة.
إعلانكان التخطيط العمراني للمدن السورية يشبه السجن؛ فهناك البلدة القديمة، وتحيط بها توسُّعات ومناطق صناعية وتجارية، ثم مناطق السكن الأول ومن حولها المناطق السكانية المكتظة. وقد تحوَّلت مناطق السكن الأول إلى أبراج حراسة يستخدمها النظام لفرض سيطرته ومراقبة الساحات العامة، وهو شكل عمراني أُعِدّ جيدا لاحتواء السكان وإبقاء المدينة في قبضة النظام.
في الأفرع الأمنية ومقرات حزب البعث، تجسَّد نظام المراقبة، فهو يحاصر المواطنين ويزيد شعورهم بأنهم مراقبون، فضلا عن عيون السلطة ومخبريها والشعور الدائم بإمكانية التنصُّت والوشاية ممن لا يمكن توقّعهم في الأكشاك المنصوبة والحدائق. ويكتمل هذا الحصار بتسمية الأبنية والشوارع والساحات باسم الأسد الأب أو الابن، تذكيرا بسطوة النظام الحاضرة على الدوام.
في مقالها "العمران والسلطة والخوف"، تتبَّعت المهندسة المعمارية السورية هـ. ف. أدوات السلطة في إحكام السيطرة على مدينة دمشق قبل الثورة عبر التخطيط والعمران، وأوضحت كيف حتَّمت ممارسة السلطة أن يرتكز التخطيط للمدينة على عناصر ثلاثة هي العسكرة والأمن والخوف.
فمع تمدُّن العالم تمدَّنت الحرب أيضا، وصارت البيئة المعمورة ميدانا لبسط الهيمنة وممارسة السلطة، فصارت الحياة اليومية ساحة حرب ضمنية.
كان التخطيط يقوم على صناعة الحدود بين المدن في محيط اجتماعي مليء بالخوف، في حلقة مفرغة، فالخوف يتغذى على التخطيط، والتخطيط ينبع من الخوف، بحيث لا تعود المدن قادرة على استيعاب العلاقات الاجتماعية، ومن ثمَّ تُعزِّز الإقصاء.
بدأ الأمر منذ المخطط الذي رسمه المهندس المعماري ميشال إيكوشار لتطوير المدينة في ستينيات القرن الماضي، إذ ربط أنحاء المدينة بشبكة من الطرق سهَّلت حركة السيارات، لكنها غيَّرت شكل المدينة، ومَحَت العديد من المناطق الخضراء فيها، وخلقت شقوقا في النسيج المديني المتشابك أشبه بالحواجز، مثل شوارع الربوة وبيروت القديم والثورة وحلب والمتحلق الجنوبي وأوتوستراد درعا وأوتوستراد المزّة.
وقد هُدمت عدة مناطق من أجل بناء شبكة الطرق، وأُعيد بناؤها ثم بيعها بأسعار مرتفعة، فترسَّخت بذلك الهُوَّة بين مناطق الأغنياء والمناطق الشعبية والمُهمشة، ونتج عن ذلك تشويه مناطق أخرى.
كما فَصَلت الطرق السريعة وسكك الحديد بين مدن كانت متلاصقة من قبل، ومَحَت مناطق كانت تحمل ذكريات أبنائها، واضطر السكان في مناطق مثل المزّة أوتوستراد ومزَّة بساتين، وكفرسوسة وكفرسوسة البلد، وداريا ونهر عيشة وغيرها، للخروج منها، ثم اضطرارهم للبحث عن أعمال أخرى قريبة من السكن الجديد، مما زاد شعورهم بالإقصاء.
أتت فلسفة العمارة لتعكس تصوّر السلطة عن النسيج الاجتماعي، وبدت في المدن المختلفة صور العمارة الوحشية أو القاسية (Brutal Architecture) المعروفة بأشكالها الحادة، ووضوح الخرسانة ومواد البناء فيها، وخلو تصميماتها من الزخارف والتزيين؛ بدت وكأنها أسلوب يحتفي بالخشونة، بتأثيراتها العنصرية التي تخلق نوعا من العداء بين الفئات المختلفة، وتُشيع جوًّا من عدم الاستقرار. وفي سوريا كان النموذج يُطبّق بمزيد من العنف والوحشية والقمع.
إعلانأُجرت جامعة دمشق عام 2015 دراسة على عدد من واجهات المباني العامة في العاصمة السورية، بعنوان "تقييم جمالية المباني العامة المعاصرة.. مثال مباني دمشق". أشارت الدراسة إلى اعتماد المقياس الصَرْحي في المباني العامة في عدد من الأحياء لتحقيق الضخامة والإبهار في تلك المباني التي يستخدمها عدد كبير من الموظفين والمواطنين.
ويتضاعف في البناء الصرحي ارتفاع البناية عشرات الأضعاف مقارنة بطول الإنسان، ويَسهُل بالطبع التعرُّف على الفرق بالنظر إلى المباني المجاورة له، ولا تكون لتلك الضخامة وظيفة سوى بث الشعور بالأهمية والثبات والهيمنة لتلك المباني.
وتبُث تلك العمارة الضخمة رهبة في النفوس، في تجلٍّ لعمارة الأنظمة الشمولية (Totalitarian Architecture)، التي تجسد تصميماتها المعمارية أيديولوجيات النظم الشمولية، فتعكس سلطة الدولة وسيطرتها، وتهمّش في المقابل الفرد والتعبيرات الثقافية البديلة، باستخدام الأبنية الضخمة والبيئات المهيبة التي توحي بهيمنة السلطة.
ما حدث في مدينة حمص يعد مثالا جيدا على دور العمارة في إطالة أمد الحرب، فعبر تاريخها جذبت حمص حضارات مختلفة أثْرَت البيئة العمرانية فيها، فصارت إرثا غنيا شاهدا على ازدهار المدينة على مدار تاريخها.
ورغم هذا الاختلاف، كان النسيج العمراني للمدينة متماسكا ومتصلا، يصِل الأغنياء بالفقراء في المساحات نفسها، ويمثل نموذجا للانسجام والتعايش، ولم تشهد المدينة عبر تاريخها توترات عميقة بين سكانها، إذ تجاورت الأزقة والمنتزهات والأسواق والمنازل والقصور.
مع استمرار النمو العمراني للمدينة، طُرحت في فترة الاحتلال الفرنسي مخططات للمدينة، لكنها قوبلت بالرفض خوفا من تفكيك النسيج الاجتماعي. ومع بداية الثمانينيات شهدت حمص تنفيذ مخططات لا تراعي تاريخ المدينة وطبيعة أهلها، وتغيَّر معها وجهُ المدينة، حيث هُدِمت العديد من الأحياء القديمة والقصور التاريخية، وامتد التغيير إلى تخطيط الشوارع والأحياء تحت ستار التطوير والتحديث، فكانت هندسة الشوارع تُهيئ المدينة للخضوع للسلطة، فتأسَّس التخطيط على التقسيم الطبقي والديني وغيرهما من الاختلافات بين فئات المجتمع.
في كتاب "مقتلة البيوت.. العمارة والحرب وتدمير الوطن في سوريا"، الذي صدر قبل عامين بالإنجليزية، يستعرض المعماري عمار عزوز قصة مدينته عاصمة الثورة، مؤكدا أن التدمير بدأ مبكرا جدا قبل عام 2011، تحت شعار التحديث والتطوير، حيث بدأت سلسلة مشروعات التخطيط العمراني للمدينة، والتي حملت أجندات سياسية وطائفية واقتصادية، أفادت منها النخب الحاكمة وحدها، بينما زاد تهميش الفئات المُهمشة.
هُدمت أحياء تاريخية كاملة في المدينة وقامت مكانها ناطحاتُ سحاب وأبنية تجارية، واختفت شوارع حمص القديمة واقتُلِعت مئات الأشجار التي شكَّلت هوية المدينة، واحتلَّت الكتل الخرسانية المشهد الأكبر، وصارت المدينة خالية من المساحات الخضراء والأماكن العامة. وقد وجد سكان المدينة أنفسهم مُقسَّمين، كل فئة معزولة عن الأخرى، وصارت الفضاءات اليومية محلا لنمو الفصل العنصري والطبقي والطائفي.
هكذا تحول المشروع المسمى "حلم حمص" إلى "كابوس حمص" كما أسماه الأهالي، إذ دمَّر جزءا كبيرا من نسيج المدينة وهويتها، وأعاد تقسيم المجتمع وهندسة التركيبة السكانية في العديد من مناطق المدينة بما يدعم النخب والقوى الاقتصادية المرتبطة بالنظام. وبعد سنوات قليلة من هذا "التطوير" ضاعت معالم المدينة ومُحيت ذاكرتها وتسلَّل الشعور بالنفي والغربة لأهل المدينة، أما ما تبقى من حواضر المدينة العريقة فانزوى في بعض الجيوب المنعزلة.
سرعان ما مهَّد هذا "التطوير" الطريق لما حدث في حمص بعد الثورة من تدمير شامل، فقد بدا وكأن هناك من أعاد تصميم المدينة لإعدادها لحرب قادمة، حيث الشوارع الواسعة مُمهَّدة لعبور الدبابات والأبراج جاهزة لتكون معقلا للقناصة.
إعلانوبعد سنوات قليلة من الحرب، كانت المهندسة المعمارية السورية مروة الصابوني، وهي ابنة مدينة حمص، تتأمَّل في حطام المدينة وتفكر في أن أحد أسباب الحرب، بجانب الأسباب الاقتصادية والسياسية، هو التخطيط العمراني، بما له من دور في استقرار المجتمع أو تفكُّكه، حيث تؤكد أنه لعب في سوريا دورا في خلق وتوجيه وتضخيم الصراع بين الفصائل.
وفي كتابها بعنوان "معركة من أجل الوطن.. مذكرات معماري سوري"، المنشور عام 2016، التقطت مروة مثالا هو الأقرب للتعبير عما حدث؛ فالمناطق العشوائية التي قطنها حوالي نصف السوريين في كتل إسمنتية، افتقرت إلى الجمال، وعزَّزت الشعور بالانفصال، وكانت مقدمة ملموسة للحرب، إذ كان إشعال الصراع فيها مهمة سهلة.
العشوائيات.. مخالفات تحت السيطرةخلال سنوات حكمه، اتبع حافظ الأسد نهجا سياسيا يتسم بالاستبداد العسكري المعزز بعصبيات طائفية، وقد احتكرت الدولة الحياة الاقتصادية وكرَّست اختلال التوازن التنموي بين الريف والمدينة، لذا تزايدت الهجرة الداخلية إلى المدن، وهناك كان النظام يدع مهمة استيعاب القادمين للمدن العشوائية.
وهكذا على أطراف المدن وفي غياب قوانين البناء، أخذت هذه الأحياء تلف المدن لتحيط بها وتصبح جزءا منها، فنمت على الأطراف الجنوبية الغربية لدمشق أحياء مثل المزة 86، ونمت حول حلب العديد من الأحياء حتى شكَّلت نحو نصف المدينة.
اتبع النظام نهجا مزدوجا بين تشديد حظر بناء مساكن عشوائية وإفساح المجال لتسوية مخالفات العقارات، ففي عام 1994 بدا مدُّ العشوائيات في سوريا كبيرا بعد نمو بلغ ذروته في الثمانينيات، مع تزايد الهجرة الداخلية من الريف إلى المدن، وتلاشت بمرور الوقت الحدود بين المدن والعشوائيات الملاصقة لها، وصار بالإمكان التمييز بينهما فقط من خلال الملامح الجمالية -التي تختفي في العشوائيات- ومستوى الخدمات والبنية التحتية أيضا، واكتسبت العشوائيات هويات اجتماعية دينية وإثنية متمايزة.
وبحكم طبيعتها، كانت العشوائيات غير قابلة للسيطرة، لكن نظام الأسد كان يُعمل أساليبه بعدما أصبحت أمرا واقعا، لتكون في قبضته أيضا، وبين تلك الأساليب أن يكون قاطنوها من نسيج اجتماعي طائفي مثل حي السيدة زينب، أو أن يخلقها النظام بنفسه من نسيج اجتماعي موالٍ له، وهو ما حدث في حي المزة 86 الذي بدأ كمساكن لعناصر سرايا الدفاع من العسكريين القادمين من الريف من طائفة العائلة الحاكمة، ثم أصبح أمرا واقعا وأخذ في التوسُّع، وبقيت النسبة الأكبر لقاطنيه من الطائفة العلوية وعناصر الجيش والشرطة.
بين الأساليب الأخرى التي استعملها النظام في غيرها من العشوائيات، أن يطلق فيها يد "الشبيحة" الموالين له، ويغض الطرف عن حملهم للسلاح، بما يحفظ مصالح النظام. يبدو غريبا أن تستمر المساكن العشوائية أو "المخالفات" -كما أسماها النظام- في التوسُّع، لكن ما حدث هو أن النظام كان يرجئ وضع مخططات تنظيمية للمدن الجديدة استجابة لاحتياجات المواطنين، وكان الحل يكمُن في توسُّع العشوائيات.
وبدوره كان النظام يغُض الطرف عن المخالفات. وكما تشير ورقة بحثية بعنوان "العشوائيات في سوريا.. حصاد عقود من التجاهل" أصدرتها منظمة "اليوم التالي" عام 2020، فإن أحد تفسيرات الأمر أن بناة العشوائيات كانوا في الحقيقة مقاولين مرتبطين بالنظام، أما سكانها فكانوا مشترين فقط.
وذهبت تحليلات أخرى إلى أن العشوائيات كانت جزءا من معادلة السلطة والهيمنة، وورقة طوَّعها النظام لتكون أداة لكسب الولاء بتحويل ما يقرب من نصف السوريين، وهم قاطنو العشوائيات التي بلغت بحلول عام 2011 نحو 30-40% من إجمالي الوحدات السكنية، إلى "مخالفين للقانون" يساورهم قلق دائم بأن ممتلكاتهم مُهدَّدة وأنهم "تحت رحمة السلطة".
هكذا في المدن والعشوائيات والأرياف، وعبر سنوات من التخطيط، آلت المدن السورية إلى قبضة النظام، وبدا أنه بالإمكان السيطرة على معاقل الثورة، والمناطق ذات البعد الاستراتيجي، لتُستهدف بعد ذلك بالبراميل المتفجرة، ولتنطلق الجرافات لتجتاح كل المدن التي شهدت حراكا ثوريا، فتُهجِّر أهلها بحجة التطوير العمراني والقضاء على المخالفات أو بحجة طرد مقاتلي المعارضة، وتُسوَّى بالأرض، وتكتب على جدرانها: "الأسد أو نحرق البلد".
إعلان الثورة.. المدن في مرمى القصفما إن بدأت شرارة الثورة حتى انقلب المُهمّشون من سكان العشوائيات في مناطق مثل حلب الشرقية، وأحياء التضامن والقابون ومخيم اليرموك في العاصمة، وحي المشاع في حماة، وحي بابا عمرو في حمص، وغيرهم، لتكون منطلق الثورة وحاضنة الثوار والحراك الثوري.
بالنظر إلى سوء أوضاعها والتهميش والتمييز اللذين عانى منهما سكانها، كان منطقيا أن تصبح العشوائيات ساحة للمعارضة، ومُتنفسَّا لأهالي المدن بعد أن صادرت السلطات الفضاء العام في الميادين والساحات، فوفَّرت العشوائيات بشوارعها الضيقة وبنيتها الفوضوية العصية على الأجهزة الأمنية مناطق متمردة يمكن إغلاقها وتأمينها بالمتاريس.
استثمر النظام الهويات الاجتماعية والدينية والطائفية للعشوائيات في تأليب سكان المدن بعضهم على بعض، فاستخدم الأحياء الموالية له لقمع الثورة في المناطق المجاورة لها. ومع تزايد حدة الصراع، كان النظام ينظر إلى تلك المناطق ليس فقط بوصفها بؤرا قد تندلع فيها الثورة، وهي التي تحتضن قطاعات واسعة من المحرومين والفقراء، وإنما باعتبارها كذلك أرضا محتملة للأعمال العسكرية، وما إن تحوَّلت الثورة إلى صراع مُسلَّح حتى صارت بالفعل في مرمى القصف والحصار.
وفي مناطق المعارضة بدأت آليات جديدة فعَّلها النظام على مدار السنوات التالية، فعانى أهلها سياسات التجويع، وكان القصف بالسلاح الثقيل طريقة النظام للتخلص منها؛ من المناطق ذاتها لا من الثوار فيها فقط، فشنّ الحرب عليها ليعيد هندستها اجتماعيا ويُوطِّن فيها مليشيات طائفية تقاتل في صف النظام، ومن ثمَّ زاد التفتّت المجتمعي.
وكان الهدم طريقة النظام في إخماد الثورة في المدن الأخرى، كما في حي القابون بدمشق حيث هُدم ما يزيد عن 2000 منزل ومتجر عام 2013 وشهد موجة ثانية من الهدم لم يتسن توثيقها.
عبر كاميرا المتطوعين من الشباب الباقي في المدينة المدمرة، كان سكان حمص وغيرها ممن غادروا البلاد يتابعون حال منازلهم، ويطمئنون عليها أحيانا، وتصلهم أخبار سيئة أحيانا أخرى عن تضرر أجزاء منها. وكان الشباب يتجوَّلون بالكاميرا ليتعرف أهل المنزل على ما حدث فيه، وبالطبع لم تسلم منازل كثيرة، فكانت تصل إلى أصحابها أنباء التدمير لتقطع صلةً أخرى بالوطن المُدمّر وتُعمّق البعد عنه.
لم تكن البيوت أهدافا عسكرية، وكانت تلك خطوة استباقية أو عقابية لشريحة من السكان رأى فيها النظام عناصر تُهدده، ورأى استئصالها؛ إنه مفهوم "الأوروبيسايد" الذي كتبت عنه الناقدة المعمارية الأميركية آدا هوكستابل عام 1968 في صحيفة نيويورك تايمز، لتوضح ما يحدث حين تُستخدَم مشروعات التخطيط العمراني لتطوِّع المدينة وتخلق مجتمعا "متجانسا"، لكنها تُقصي في الحقيقة الآخر المختلف وتُغيِّر حياة كثير من السكان بأشكال عديدة، منها التدمير المادي للمدن أو تعطيل شكل الحياة فيها.
إعادة الإعمار.. حجة أخرى للتقسيم والعنففي عام 2017، حين بدأ التعامل مع نظام الأسد على أنه أمر واقع، جرى الحديث عن إعادة الإعمار، لكن المفهوم لم يكن يعني إعادة حقوق الناس في مدنهم، وإنما كان واجهة لإعادة النظر في التركيبة السكانية لها، فقد جرت "إعادة الإعمار" في غياب أصحاب المنازل المُدمّرة، ففي حمص -على سبيل المثال- مُنِع العديد من السكان السُنَّة من العودة للعيش في أنقاض منازلهم.
لم تكن "إعادة الإعمار" سوى أداة للإقصاء تُرسِّخ الانقسامات بدلا من إعادة مفهوم العدالة والتماسك بين السكان والاستجابة لمتطلبات المجتمع. وقد وفَّر النظام البنية التحتية لمعظم القرى المسيحية في حمص، بينما تُركت المناطق ذات الأغلبية السنية كما لو أنها تُعاقَب على موقفها المعارض. وفي الوقت الذي دُمِّرت فيه المنازل وعانى ملايين السوريين من الفقر، فُرِضَت ضريبة "إعادة الإعمار"، ولم يستفد منها سوى النخبة.
بعد توقف مؤقت لمشروع حلم حمص إثر قيام الثورة، الذي استهدف قبل الثورة المناطق الفقيرة وهدَّد السكان بمصادرة الأراضي أو هدم المباني، تواصلت بين عامي 2012 و2014 عمليات التهجير وتركزت في الأحياء ذات الأغلبية السنية، مثل باب السباع والقصور والخالدية وبابا عمرو، التي شهدت تهجير ما يزيد عن 50 ألفا من سكانها وتدمير 600 من مبانيها، بينما بقيت أحياء موازية وذات أغلبية علوية كما هي، مثل الفردوس والغوطة والمحطة.
في العشوائيات أيضا كان لاستغلال "إعادة الإعمار" مكان، فقد سمحت السلطات بالتوسّع في عدة مناطق عشوائية، لكنه توسُّع اقتصر على المناطق التي اتخذت مواقف موالية للنظام أو تلك التي بقيت على الحياد. ومكافأة لسكانها، غضَّ النظام الطرف عن "مخالفات البناء" في عشوائيات مثل عش الورور والمزة والدويلعة في دمشق، وجرمانا في ريف دمشق.
ولأن أغلب سكان العشوائيات من المعارضة، فقد منحتها الحكومة أولوية "إعادة الإعمار"، التي تُرجِمت إلى إخلائها من السكان، وإعادة بناء المناطق بما يسلب سكانها حقوقهم في امتلاك مسكن أو في العودة إليها من الأساس. ففي حي القابون بالعاصمة دمشق الذي بلغ عدد سكانه قرابة المئة ألف، لم يمتلك أغلب السكان "طابو" يثبت ملكيتهم، وبعد التهجير القسري لسكانه، تفاقمت مشكلتهم إذ كانت عودتهم بعد ذلك مشروطة بإثبات الملكية، وهو ما لم يكن في استطاعتهم.
كانت إعادة الإعمار وترًا عَزَف عليه النظام لتأجيل عودة اللاجئين من الخارج أيضا، وفي الحقيقة كان المفهوم يعني للنظام مزيدا من نصب تماثيل آل الأسد لتكون السلطة نصب عين السوريين على الدوام، وقد استمر ذلك حتى الشهر الأخير من سقوط النظام، مثلما حدث في خان شيخون بريف محافظة إدلب، عقب سنوات قليلة من مجزرة وهجوم بغاز السارين قتلَ نحو مئة من سكانها وأصاب 500 آخرين، وترك المدينة مدمرة. فبين أطلالها ومعاناة أهلها من الخدمات المعيشية الصعبة، وعدم قدرة غيرهم على العودة إلى المدينة، وجد تمثال الأسد الأب مكانا في وسط المدينة.
في كل أنحاء سوريا وفي تجاهل تام لمعاناة السوريين، كانت تماثيل الأسد الأب توضع في ساحات المدن المُدمّرة، في أجواء احتفالية تتجاهل تضحيات السوريين وآلامهم. إنها التماثيل ذاتها التي خلت من أي ملمح جمالي، وكانت مثل أفرع أمن إضافية تحكم القيد على المواطن قبل الثورة، وتراقبه أينما توجَّه بعد الثورة. وبعدما هدّمها الثوار، كانت إعادتها على رأس المدن المُحطّمة بمثابة سجون أخرى للمواطنين في الداخل، ورسالة لمن بالخارج أن العودة لا تزال مستحيلة.
منذ بدأت عملية ردع العدوان، ومع كل دخول للمعارضة إلى مدينة سورية، كانت الأنظار تتوجه إلى مشاهد هدم تماثيل الأسد، بشكل دعا للسخرية من عدد التماثيل والصور التي كان على السوريين إزالتها.
ورغم سقوط النظام في ديسمبر/كانون الأول 2024، فإن تأثير جرائمه في المدن لم يُمحَ بالكامل بعد، ولا تزال عودة ما يزيد على 6 ملايين لاجئ -وفق المفوضية الأممية السامية لشؤون اللاجئين– تواجه عوائق أبرزها عدم توفُّر المأوى، بعد ما شهدته المدن من تدمير واسع، ولا تزال العودة تتطلب سنوات من الإعمار لضمان الحد الأدنى من الحياة الكريمة للسوريين العائدين إلى الوطن.